کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج1، ص: 135
[1- 7]
[سورة الفاتحة (1): الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الكلام على البسملة
[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1).
البسملة اسم لكلمة باسم اللّه، صيغ هذا الاسم على مادّة مؤلفة من حروف الكلمتين باسم و اللّه على طريقة تسمى النّحت، و هو صوغ فعل مضي على زنة فعلل مؤلفة مادّته من حروف جملة أو حروف مركّب إضافيّ، مما ينطق به الناس اختصارا عن ذكر الجملة كلها لقصد التخفيف لكثرة دوران ذلك على الألسنة. و قد استعمل العرب النحت في النّسب إلى الجملة أو المركب إذا كان في النسب إلى صدر ذلك أو إلى عجزه التباس، كما قالوا في النسبة إلى عبد شمس عبشميّ خشية الالتباس بالنسب إلى عبد أو إلى شمس، و في النسبة إلى عبد الدار عبدريّ كذلك و إلى حضر موت حضرمي قال سيبويه في باب الإضافة (أي النسب) إلى المضاف من الأسماء: «و قد يجعلون للنسب في الإضافة اسما بمنزلة جعفري و يجعلون فيه من حروف الأول و الآخر و لا يخرجونه من حروفهما ليعرف» ا ه، فجاء من خلفهم من مولدي العرب و استعملوا هذه الطريقة في حكاية الجمل التي يكثر دورانها في الألسنة لقصد الاختصار، و ذلك من صدر الإسلام فصارت الطريقة عربية. قال الراعي:
قوم على الإسلام لمّا يمنعوا
ما عونهم و يضيّعوا التهليلا
أي لم يتركوا قول: لا إله إلا اللّه. و قال عمر بن أبي ربيعة:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها
ألا حبّذا ذاك الحبيب المبسمل
أي قالت بسم اللّه فرقا منه، فأصل بسمل قال بسم اللّه ثم أطلقه المولدون على قول بسم اللّه الرحمن الرحيم، اكتفاء و اعتمادا على الشهرة و إن كان هذا المنحوت خليّا من الحاء و الراء اللذين هما من حروف الرحمان الرحيم، فشاع قولهم بسمل في معنى قال بسم اللّه الرحمن الرحيم، و اشتق من فعل بسمل مصدر هو البسملة كما اشتق من هلّل مصدر هو الهيللة و هو مصدر قياسي لفعلل. و اشتق منه اسم فاعل في بيت عمر بن أبي
التحرير و التنوير، ج1، ص: 136
ربيعة و لم يسمع اشتقاق اسم مفعول.
و رأيت في «شرح ابن هارون التونسي على مختصر ابن الحاجب» «1» في باب الأذان عن المطرز في كتاب «اليواقيت»: الأفعال التي نحتت من أسمائها سبعة: بسمل في بسم اللّه، و سبحل في سبحان اللّه، و حيعل في حي على الصلاة، و حوقل في لا حول و لا قوة إلا باللّه، و حمدل في الحمد للّه، و هلّل في لا إله إلا اللّه، و جيعل إذا قال: جعلت فداك، و زاد الطّبقلة في أطال اللّه بقاءك، و الدّمعزة في أدام اللّه عزك.
و لما كان كثير من أيمة الدين قائلا بأنها آية من أوائل جميع السور غير براءة أو بعض السور تعين على المفسر أن يفسر معناها و حكمها و موقعها عند من عدوها آية من بعض السور. و ينحصر الكلام عليها في ثلاثة مباحث. الأول: في بيان أ هي آية من أوائل السور أم لا؟. الثاني: في حكم الابتداء بها عند القراءة. الثالث في تفسير معناها المختص بها.
فأما المبحث الأول فهو أن لا خلاف بين المسلمين في أن لفظ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هو لفظ قرآني لأنه جزء آية من قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل: 30] كما أنهم لم يختلفوا في أن الافتتاح بالتسمية في الأمور المهمة ذوات البال ورد في الإسلام، و
روي فيه حديث: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم اللّه الرحمن الرحيم فهو أقطع»
لم يروه أصحاب «السنن» و لا «المستدركات»، و قد وصف بأنه حسن، و قال الجمهور إن البسملة رسمها الذين كتبوا المصاحف في أوائل السور ما عدا سورة براءة، كما يؤخذ من محادثة ابن عباس مع عثمان، و قد مضت في المقدمة الثامنة، و لم يختلفوا في أنها كتبت في المصحف في أول سورة الفاتحة و ذلك ليس موضع فصل السورة عما قبلها، و إنما اختلفوا في أن البسملة هل هي آية من سورة الفاتحة و من أوائل السور غير براءة، بمعنى أن الاختلاف بينهم ليس في كونها قرآنا، و لكنه في تكرر قرآنيتها كما أشار إليه ابن رشد الحفيد في «البداية»، فذهب مالك و الأوزاعي و فقهاء المدينة و الشام و البصرة- و قيل باستثناء عبد اللّه بن عمرو ابن شهاب من فقهاء المدينة- إلى أنها ليست بآية من أوائل السور لكنها جزء آية من سورة النمل، و ذهب الشافعي في أحد قوليه و أحمد و إسحاق و أبو ثور و فقهاء مكة و الكوفة غير أبي حنيفة، إلى أنها آية في
(1) رقم 10520 بالمكتبة الصادقية (العبدلية) بتونس.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 137
أول سورة الفاتحة خاصة، و ذهب عبد اللّه بن المبارك و الشافعي في أحد قوليه و هو الأصح عنه إلى أنها آية من كل سورة. و لم ينقل عن أبي حنيفة من فقهاء الكوفة فيها شيء، و أخذ منه صاحب «الكشاف» أنها ليست من السور عنده فعدّه في الذين قالوا بعدم جزئيتها من السور و هو الصحيح عنه. قال عبد الحكيم لأنه قال بعدم الجهر بها مع الفاتحة في الصلاة الجهرية و كره قراءتها في أوائل السور الموصولة بالفاتحة في الركعتين الأوليين. و أزيد فأقول إنه لم ير الاقتصار عليها في الصلاة مجزئا عن القراءة.
أما حجة مذهب مالك و من وافقه فلهم فيها مسالك: أحدها من طريق النظر، و الثاني من طريق الأثر، و الثالث من طريق الذوق العربي.
فأما المسلك الأول: فللمالكية فيه مقالة فائقة للقاضي أبي بكر الباقلاني و تابعه أبو بكر ابن العربي في «أحكام القرآن» و القاضي عبد الوهاب في كتاب «الإشراف»، قال الباقلاني: «لو كانت التسمية من القرآن لكان طريق إثباتها إما التواتر أو الآحاد، و الأول:
باطل لأنه لو ثبت بالتواتر كونها من القرآن لحصل العلم الضروري بذلك و لامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأمّة، و الثاني: أيضا باطل لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلو جعلناه طريقا إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية، و لصار ذلك ظنيا، و لو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض أن القرآن دخله الزيادة و النقصان و التغيير و التحريف» ا ه و هو كلام وجيه و الأقيسة الاستثنائية التي طواها في كلامه واضحة لمن له ممارسة للمنطق و شرطياتها لا تحتاج للاستدلال لأنها بديهية من الشريعة فلا حاجة إلى بسطها. زاد أبو بكر بن العربي في «أحكام القرآن» فقال: يكفيك أنها ليست من القرآن الاختلاف فيها، و القرآن لا يختلف فه ا ه. و زاد عبد الوهاب فقال: «إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بين القرآن بيانا واحدا متساويا و لم تكن عادته في بيانه مختلفة بالظهور و الخفاء حتى يختص به الواحد و الاثنان؛ و لذلك قطعنا بمنع أن يكون شيء من القرآن لم ينقل إلينا و أبطلنا قول الرافضة إن القرآن حمل جمل عند الإمام المعصوم المنتظر فلو كانت البسملة من الحمد لبيّنها رسول اللّه بيانا شافيا» ا ه. و قال ابن العربي في «العارضة»: إن القاضي أبا بكر بن الطيب، لم يتكلم من الفقه إلا في هذه المسألة خاصة لأنها متعلقة بالأصول.
و قد عارض هذا الدليل أبو حامد الغزالي في «المستصفى» فقال: «نفي كون البسملة من القرآن أيضا إن ثبت بالتواتر لزم أن لا يبقى الخلاف (أي و هو ظاهر البطلان) و إن ثبت بالآحاد يصير القرآن ظنيا، قال: و لا يقال: إن كون شيء ليس من القرآن عدم و العدم لا
التحرير و التنوير، ج1، ص: 138
يحتاج إلى الإثبات لأنه الأصل بخلاف القول بأنها من القرآن، لأنّا نجيب بأن هذا و إن كان عدما إلا أن كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهن كونها ليست من القرآن فههنا لا يمكننا الحكم بأنها ليست من القرآن إلا بالدليل و يأتي الكلام في أن الدليل ما هو، فثبت أن الكلام الذي أورده القاضي لازم عليه ا ه، و تبعه على ذلك الفخر الرازي في «تفسيره» و لا يخفى أنه آل في استدلاله إلى المصادرة إذ قد صار مرجع استدلال الغزالي و فخر الدين إلى رسم البسملة في المصاحف، و سنتكلم عن تحقيق ذلك عند الكلام على مدرك الشافعي. و تعقب ابن رشد في «بداية المجتهد» كلام الباقلاني و الغزالي بكلام غير محرر فلا نطيل به.
و أما المسلك الثاني: و هو الاستدلال من الأثر فلا نجد في صحيح السنة ما يشهد بأن البسملة آية من أوائل سور القرآن و الأدلة ستة:
الدليل الأول:
ما
روى مالك في «الموطأ» عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «قال اللّه تعالى قسمت الصلاة نصفين بيني و بين عبدي فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سأل، يقول العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، فأقول: حمدني عبدي»
إلخ، و المراد في الصلاة القراءة في الصلاة و وجه الدليل منه أنه لم يذكر بسم اللّه الرحمن الرحيم.
الثاني:
حديث أبيّ بن كعب في «الموطأ» و «الصحيحين» أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال له: «ألا أعلمك سورة لم ينزل في التوراة و لا في الإنجيل مثلها قبل أن تخرج من المسجد»؟
قال: بلى، فلما قارب الخروج قال له: كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال أبيّ فقرأت الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حتى أتيت على آخرها
، فهذا دليل على أنه لم يقرأ منها البسملة.
الثالث:
ما
في «صحيح مسلم» و «سنن أبي داود» و «سنن النسائي» عن أنس بن مالك من طرق كثيرة أنه قال: صليت خلف رسول اللّه و أبي بكر و عمر فكانوا يستفتحون بالحمد للّه رب العالمين لا يذكرون (بسم اللّه الرحمن الرحيم)، لا في أول قراءة و لا في آخرها.
الرابع:
حديث عائشة في «صحيح مسلم» و «سنن أبي داود» قالت: كان رسول اللّه يستفتح الصلاة بالتكبير و القراءة بالحمد اللّه رب العالمين.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 139
الخامس:
ما
في «سنن الترمذي و النسائي» عن عبد اللّه بن مغفل قال: صليت مع النبيء و أبي بكر و عمر و عثمان، فلم أسمع أحدا منهم يقول: (بسم اللّه الرحمن الرحيم)، إذا أنت صليت فقل الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .
السادس-
و هو الحاسم-: عمل أهل المدينة، فإن المسجد النبوي من وقت نزول الوحي إلى زمن مالك صلى فيه رسول اللّه و الخلفاء الراشدون و الأمراء و صلى وراءهم الصحابة و أهل العلم و لم يسمع أحد قرأ (بسم اللّه الرحمن الرحيم) في الصلاة الجهرية، و هل يقول عالم أن بعض السورة جهر و بعضها سر، فقد حصل التواتر بأن النبيء و الخلفاء لم يجهروا بها في الجهرية، فدل على أنها ليست من السورة و لو جهروا بها لما اختلف الناس فيها.
و هناك دليل آخر لم يذكروه هنا و هو حديث عائشة في بدء الوحي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و هو معتبر مرفوعا إلى النبي، و ذلك
قوله: «ففجئه الملك فقال: اقرأ قال رسول اللّه فقلت ما أنا بقارئ- إلى أن قال- فغطني الثالثة ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
[العلق:
1] الحديث. فلم يقل فقال لي بسم اللّه الرحمن الرحيم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ، و قد ذكروا هذا في تفسير سورة العلق و في شرح حديث بدء الوحي.
و أما المسلك الثالث و هو الاستدلال من طريق الاستعمال العربي فيأتي القول فيه على مراعاة قول القائلين بأن البسملة آية من سورة الفاتحة خاصة، و ذلك يوجب أن يتكرر لفظان و هما الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في كلام غير طويل ليس بينهما فصل كثير و ذلك مما لا يحمد في باب البلاغة، و هذا الاستدلال نقله الإمام الرازي في «تفسيره» و أجاب عنه بقوله: إن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن و إن تأكيد كونه تعالى رحمانا رحيما من أعظم المهمات. و أنا أدفع جوابه بأن التكرار و إن كانت له مواقع محمودة في الكلام البليغ مثل التهويل، و مقام الرثاء أو التعديد أو التوكيد اللفظي، إلا أن الفاتحة لا مناسبة لها بأغراض التكرير و لا سيما التوكيد لأنه لا منكر لكونه تعالى رحمانا رحيما، و لأن شأن التوكيد اللفظي أن يقترن فيه اللفظان بلا فصل فتعين أنه تكرير اللفظ في الكلام لوجود مقتضى التعبير عن مدلوله بطريق الاسم الظاهر دون الضمير، و ذلك مشروط بأن يبعد ما بين المكرّرين بعدا يقصيه عن السمع، و قد علمت أنهم عدوا في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار، و القرب بين الرحمن و الرحيم حين كررا يمنع ذلك.
و أجاب البيضاوي بأن نكتة التكرير هنا هي تعليل استحقاق الحمد، فقال السلكوتي
التحرير و التنوير، ج1، ص: 140
أشار بهذا إلى الرد على ما قاله بعض الحنفية: إن البسملة لو كانت من الفاتحة للزم التكرار و هو جواب لا يستقيم لأنه إذا كان التعليل قاضيا بذكر صفتي الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فدفع التكرير يقتضي تجريد البسملة التي في أول الفاتحة من هاتين الصفتين بأن تصير الفاتحة هكذا: (بسم اللّه الحمد للّه إلخ).
و أنا أرى في الاستدلال بمسلك الذوق العربي أن يكون على مراعاة قول القائلين بكون البسملة آية من كل سورة فينشأ من هذا القول أن تكون فواتح سور القرآن كلّها متماثلة و ذلك مما لا يحمد في كلام البلغاء إذ الشأن أن يقع التفنن في الفواتح، بل قد عد علماء البلاغة أهمّ مواضع التأنق فاتحة الكلام و خاتمته، و ذكروا أن فواتح السور و خواتمها واردة على أحسن وجوه البيان و أكملها فكيف يسوغ أن يدّعى أن فواتح سورة جملة واحدة، مع أن عامة البلغاء من الخطباء و الشعراء و الكتاب يتنافسون في تفنن فواتح منشآتهم و يعيبون من يلتزم في كلامه طريقة واحدة فما ظنك بأبلغ كلام.
و أما حجة مذهب الشافعي و من وافقه بأنها آية من سورة الفاتحة خاصة فأمور كثيرة أنهاها فخر الدين إلى سبع عشرة حجة لا يكاد يستقيم منها بعد طرح المتداخل و الخارج عن محل النزاع و ضعيف السند أو واهيه إلا أمران: أحد هما أحاديث كثيرة منها ما
روى أبو هريرة أن النبيء عليه الصلاة و السلام قال: «فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و
قول أم سلمة قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الفاتحة و عدّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
آية. الثاني: الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام اللّه.
و الجواب: أما عن حديث أبي هريرة فهو لم يخرجه أحد من رجال الصحيح إنما خرجه الطبراني و ابن مردويه و البيهقي فهو نازل عن درجة الصحيح فلا يعارض الأحاديث الصحيحة، و أما حديث أم سلمة فلم يخرجه من رجال الصحيح غير أبي داود و أخرجه أحمد بن حنبل و البيهقي، و صحيح بعض طرقه و قد طعن فيه الطحاوي بأنه رواه ابن أبي مليكة، و لم يثبت سماع ابن أبي مليكة من أم سلمة، يعني أنه مقطوع، على أنه روى عنها ما يخالفه، على أن شيخ الإسلام زكرياء قد صرح في «حاشيته على تفسير البيضاوي» بأنه لم يرو باللفظ المذكور و إنما روي بألفاظ تدل على أن بِسْمِ اللَّهِ آية وحدها، فلا يؤخذ منه كونها من الفاتحة، على أن هذا يفضي إلى إثبات القرآنية بغير المتواتر و هو ما يأباه المسلمون.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 141
و أما عن الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام اللّه، فالجواب أنه لا يقتضي إلا أن البسملة قرآن و هذا لا نزاع فيه، و أما كون المواضع التي رسمت فيها في المصحف مما تجب قراءتها فيها، فذلك أمر يتبع رواية القراء و أخبار السنة الصحيحة فيعود إلى الأدلة السابقة.
و هذا كله بناء على تسليم أن الصحابة لم يكتبوا أسماء السور و كونها مكية أو مدنية في المصحف و أن ذلك من صنع المتأخرين و هو صريح كلام عبد الحكيم في «حاشية البيضاوي»، و أما إذا ثبت أن بعض السلف كتبوا ذلك كما هو ظاهر كلام المفسرين و الأصوليين و القراء كما في «لطائف الإشارات» للقسطلاني و هو مقتضى كتابة المتأخرين لذلك لأنهم ما كانوا يجرأون على الزيادة على ما فعله السلف فالاحتجاج حينئذ بالكتابة باطل من أصله و دعوى كون أسماء السور كتبت بلون مخالف لحبر القرآن، يرده أن المشاهد في مصاحف السلف أن حبرها بلون واحد و لم يكن التلوين فاشيا.
و قد احتج بعضهم بما
رواه البخاري عن أنس أنه سئل كيف كانت قراءة النبيء؟
فقال كانت مدّا ثم قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يمد بِسْمِ اللَّهِ و يمد بالرحمن و يمد بالرحيم
، ا ه، و لا حجة في هذا لأن ضمير قرأ و ضمير يمد عائدان إلى أنس، و إنما جاء بالبسملة على وجه التمثيل لكيفية القراءة لشهرة البسملة.
و حجة عبد اللّه بن المبارك و ثاني قولي الشافعي ما
رواه مسلم عن أنس قال: «بينا رسول اللّه بين أظهرنا ذات يوم إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول اللّه؟ قال: أنزلت عليّ سورة آنفا فقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ
[الكوثر: 1] السورة، قالوا و للإجماع على أن ما بين الدفتين كلام اللّه و لإثبات الصحابة إياها في المصاحف مع حرصهم على أن لا يدخلوا في القرآن ما ليس منه و لذلك لم يكتبوا آمين في الفاتحة.
و الجواب عن الحديث أنا نمنع أن يكون قرأ البسملة على أنها من السورة بل افتتح بها عند إرادة القراءة لأنها تغني عن الاستعاذة إذا نوى المبسمل تقدير أستعيذ باسم اللّه و حذف متعلق الفعل، و يتعين حمله على نحو هذا لأن راويه أنسا بن مالك جزم في حديثه الآخر أنه لم يسمع رسول اللّه بسمل في الصلاة. فإن أبوا تأويله بما تأولناه لزم اضطراب أنس في روايته اضطرابا يوجب سقوطها.