کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج1، ص: 137
أول سورة الفاتحة خاصة، و ذهب عبد اللّه بن المبارك و الشافعي في أحد قوليه و هو الأصح عنه إلى أنها آية من كل سورة. و لم ينقل عن أبي حنيفة من فقهاء الكوفة فيها شيء، و أخذ منه صاحب «الكشاف» أنها ليست من السور عنده فعدّه في الذين قالوا بعدم جزئيتها من السور و هو الصحيح عنه. قال عبد الحكيم لأنه قال بعدم الجهر بها مع الفاتحة في الصلاة الجهرية و كره قراءتها في أوائل السور الموصولة بالفاتحة في الركعتين الأوليين. و أزيد فأقول إنه لم ير الاقتصار عليها في الصلاة مجزئا عن القراءة.
أما حجة مذهب مالك و من وافقه فلهم فيها مسالك: أحدها من طريق النظر، و الثاني من طريق الأثر، و الثالث من طريق الذوق العربي.
فأما المسلك الأول: فللمالكية فيه مقالة فائقة للقاضي أبي بكر الباقلاني و تابعه أبو بكر ابن العربي في «أحكام القرآن» و القاضي عبد الوهاب في كتاب «الإشراف»، قال الباقلاني: «لو كانت التسمية من القرآن لكان طريق إثباتها إما التواتر أو الآحاد، و الأول:
باطل لأنه لو ثبت بالتواتر كونها من القرآن لحصل العلم الضروري بذلك و لامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأمّة، و الثاني: أيضا باطل لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلو جعلناه طريقا إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية، و لصار ذلك ظنيا، و لو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض أن القرآن دخله الزيادة و النقصان و التغيير و التحريف» ا ه و هو كلام وجيه و الأقيسة الاستثنائية التي طواها في كلامه واضحة لمن له ممارسة للمنطق و شرطياتها لا تحتاج للاستدلال لأنها بديهية من الشريعة فلا حاجة إلى بسطها. زاد أبو بكر بن العربي في «أحكام القرآن» فقال: يكفيك أنها ليست من القرآن الاختلاف فيها، و القرآن لا يختلف فه ا ه. و زاد عبد الوهاب فقال: «إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بين القرآن بيانا واحدا متساويا و لم تكن عادته في بيانه مختلفة بالظهور و الخفاء حتى يختص به الواحد و الاثنان؛ و لذلك قطعنا بمنع أن يكون شيء من القرآن لم ينقل إلينا و أبطلنا قول الرافضة إن القرآن حمل جمل عند الإمام المعصوم المنتظر فلو كانت البسملة من الحمد لبيّنها رسول اللّه بيانا شافيا» ا ه. و قال ابن العربي في «العارضة»: إن القاضي أبا بكر بن الطيب، لم يتكلم من الفقه إلا في هذه المسألة خاصة لأنها متعلقة بالأصول.
و قد عارض هذا الدليل أبو حامد الغزالي في «المستصفى» فقال: «نفي كون البسملة من القرآن أيضا إن ثبت بالتواتر لزم أن لا يبقى الخلاف (أي و هو ظاهر البطلان) و إن ثبت بالآحاد يصير القرآن ظنيا، قال: و لا يقال: إن كون شيء ليس من القرآن عدم و العدم لا
التحرير و التنوير، ج1، ص: 138
يحتاج إلى الإثبات لأنه الأصل بخلاف القول بأنها من القرآن، لأنّا نجيب بأن هذا و إن كان عدما إلا أن كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهن كونها ليست من القرآن فههنا لا يمكننا الحكم بأنها ليست من القرآن إلا بالدليل و يأتي الكلام في أن الدليل ما هو، فثبت أن الكلام الذي أورده القاضي لازم عليه ا ه، و تبعه على ذلك الفخر الرازي في «تفسيره» و لا يخفى أنه آل في استدلاله إلى المصادرة إذ قد صار مرجع استدلال الغزالي و فخر الدين إلى رسم البسملة في المصاحف، و سنتكلم عن تحقيق ذلك عند الكلام على مدرك الشافعي. و تعقب ابن رشد في «بداية المجتهد» كلام الباقلاني و الغزالي بكلام غير محرر فلا نطيل به.
و أما المسلك الثاني: و هو الاستدلال من الأثر فلا نجد في صحيح السنة ما يشهد بأن البسملة آية من أوائل سور القرآن و الأدلة ستة:
الدليل الأول:
ما
روى مالك في «الموطأ» عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «قال اللّه تعالى قسمت الصلاة نصفين بيني و بين عبدي فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سأل، يقول العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، فأقول: حمدني عبدي»
إلخ، و المراد في الصلاة القراءة في الصلاة و وجه الدليل منه أنه لم يذكر بسم اللّه الرحمن الرحيم.
الثاني:
حديث أبيّ بن كعب في «الموطأ» و «الصحيحين» أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال له: «ألا أعلمك سورة لم ينزل في التوراة و لا في الإنجيل مثلها قبل أن تخرج من المسجد»؟
قال: بلى، فلما قارب الخروج قال له: كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال أبيّ فقرأت الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حتى أتيت على آخرها
، فهذا دليل على أنه لم يقرأ منها البسملة.
الثالث:
ما
في «صحيح مسلم» و «سنن أبي داود» و «سنن النسائي» عن أنس بن مالك من طرق كثيرة أنه قال: صليت خلف رسول اللّه و أبي بكر و عمر فكانوا يستفتحون بالحمد للّه رب العالمين لا يذكرون (بسم اللّه الرحمن الرحيم)، لا في أول قراءة و لا في آخرها.
الرابع:
حديث عائشة في «صحيح مسلم» و «سنن أبي داود» قالت: كان رسول اللّه يستفتح الصلاة بالتكبير و القراءة بالحمد اللّه رب العالمين.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 139
الخامس:
ما
في «سنن الترمذي و النسائي» عن عبد اللّه بن مغفل قال: صليت مع النبيء و أبي بكر و عمر و عثمان، فلم أسمع أحدا منهم يقول: (بسم اللّه الرحمن الرحيم)، إذا أنت صليت فقل الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .
السادس-
و هو الحاسم-: عمل أهل المدينة، فإن المسجد النبوي من وقت نزول الوحي إلى زمن مالك صلى فيه رسول اللّه و الخلفاء الراشدون و الأمراء و صلى وراءهم الصحابة و أهل العلم و لم يسمع أحد قرأ (بسم اللّه الرحمن الرحيم) في الصلاة الجهرية، و هل يقول عالم أن بعض السورة جهر و بعضها سر، فقد حصل التواتر بأن النبيء و الخلفاء لم يجهروا بها في الجهرية، فدل على أنها ليست من السورة و لو جهروا بها لما اختلف الناس فيها.
و هناك دليل آخر لم يذكروه هنا و هو حديث عائشة في بدء الوحي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و هو معتبر مرفوعا إلى النبي، و ذلك
قوله: «ففجئه الملك فقال: اقرأ قال رسول اللّه فقلت ما أنا بقارئ- إلى أن قال- فغطني الثالثة ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
[العلق:
1] الحديث. فلم يقل فقال لي بسم اللّه الرحمن الرحيم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ، و قد ذكروا هذا في تفسير سورة العلق و في شرح حديث بدء الوحي.
و أما المسلك الثالث و هو الاستدلال من طريق الاستعمال العربي فيأتي القول فيه على مراعاة قول القائلين بأن البسملة آية من سورة الفاتحة خاصة، و ذلك يوجب أن يتكرر لفظان و هما الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في كلام غير طويل ليس بينهما فصل كثير و ذلك مما لا يحمد في باب البلاغة، و هذا الاستدلال نقله الإمام الرازي في «تفسيره» و أجاب عنه بقوله: إن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن و إن تأكيد كونه تعالى رحمانا رحيما من أعظم المهمات. و أنا أدفع جوابه بأن التكرار و إن كانت له مواقع محمودة في الكلام البليغ مثل التهويل، و مقام الرثاء أو التعديد أو التوكيد اللفظي، إلا أن الفاتحة لا مناسبة لها بأغراض التكرير و لا سيما التوكيد لأنه لا منكر لكونه تعالى رحمانا رحيما، و لأن شأن التوكيد اللفظي أن يقترن فيه اللفظان بلا فصل فتعين أنه تكرير اللفظ في الكلام لوجود مقتضى التعبير عن مدلوله بطريق الاسم الظاهر دون الضمير، و ذلك مشروط بأن يبعد ما بين المكرّرين بعدا يقصيه عن السمع، و قد علمت أنهم عدوا في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار، و القرب بين الرحمن و الرحيم حين كررا يمنع ذلك.
و أجاب البيضاوي بأن نكتة التكرير هنا هي تعليل استحقاق الحمد، فقال السلكوتي
التحرير و التنوير، ج1، ص: 140
أشار بهذا إلى الرد على ما قاله بعض الحنفية: إن البسملة لو كانت من الفاتحة للزم التكرار و هو جواب لا يستقيم لأنه إذا كان التعليل قاضيا بذكر صفتي الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فدفع التكرير يقتضي تجريد البسملة التي في أول الفاتحة من هاتين الصفتين بأن تصير الفاتحة هكذا: (بسم اللّه الحمد للّه إلخ).
و أنا أرى في الاستدلال بمسلك الذوق العربي أن يكون على مراعاة قول القائلين بكون البسملة آية من كل سورة فينشأ من هذا القول أن تكون فواتح سور القرآن كلّها متماثلة و ذلك مما لا يحمد في كلام البلغاء إذ الشأن أن يقع التفنن في الفواتح، بل قد عد علماء البلاغة أهمّ مواضع التأنق فاتحة الكلام و خاتمته، و ذكروا أن فواتح السور و خواتمها واردة على أحسن وجوه البيان و أكملها فكيف يسوغ أن يدّعى أن فواتح سورة جملة واحدة، مع أن عامة البلغاء من الخطباء و الشعراء و الكتاب يتنافسون في تفنن فواتح منشآتهم و يعيبون من يلتزم في كلامه طريقة واحدة فما ظنك بأبلغ كلام.
و أما حجة مذهب الشافعي و من وافقه بأنها آية من سورة الفاتحة خاصة فأمور كثيرة أنهاها فخر الدين إلى سبع عشرة حجة لا يكاد يستقيم منها بعد طرح المتداخل و الخارج عن محل النزاع و ضعيف السند أو واهيه إلا أمران: أحد هما أحاديث كثيرة منها ما
روى أبو هريرة أن النبيء عليه الصلاة و السلام قال: «فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و
قول أم سلمة قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الفاتحة و عدّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
آية. الثاني: الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام اللّه.
و الجواب: أما عن حديث أبي هريرة فهو لم يخرجه أحد من رجال الصحيح إنما خرجه الطبراني و ابن مردويه و البيهقي فهو نازل عن درجة الصحيح فلا يعارض الأحاديث الصحيحة، و أما حديث أم سلمة فلم يخرجه من رجال الصحيح غير أبي داود و أخرجه أحمد بن حنبل و البيهقي، و صحيح بعض طرقه و قد طعن فيه الطحاوي بأنه رواه ابن أبي مليكة، و لم يثبت سماع ابن أبي مليكة من أم سلمة، يعني أنه مقطوع، على أنه روى عنها ما يخالفه، على أن شيخ الإسلام زكرياء قد صرح في «حاشيته على تفسير البيضاوي» بأنه لم يرو باللفظ المذكور و إنما روي بألفاظ تدل على أن بِسْمِ اللَّهِ آية وحدها، فلا يؤخذ منه كونها من الفاتحة، على أن هذا يفضي إلى إثبات القرآنية بغير المتواتر و هو ما يأباه المسلمون.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 141
و أما عن الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام اللّه، فالجواب أنه لا يقتضي إلا أن البسملة قرآن و هذا لا نزاع فيه، و أما كون المواضع التي رسمت فيها في المصحف مما تجب قراءتها فيها، فذلك أمر يتبع رواية القراء و أخبار السنة الصحيحة فيعود إلى الأدلة السابقة.
و هذا كله بناء على تسليم أن الصحابة لم يكتبوا أسماء السور و كونها مكية أو مدنية في المصحف و أن ذلك من صنع المتأخرين و هو صريح كلام عبد الحكيم في «حاشية البيضاوي»، و أما إذا ثبت أن بعض السلف كتبوا ذلك كما هو ظاهر كلام المفسرين و الأصوليين و القراء كما في «لطائف الإشارات» للقسطلاني و هو مقتضى كتابة المتأخرين لذلك لأنهم ما كانوا يجرأون على الزيادة على ما فعله السلف فالاحتجاج حينئذ بالكتابة باطل من أصله و دعوى كون أسماء السور كتبت بلون مخالف لحبر القرآن، يرده أن المشاهد في مصاحف السلف أن حبرها بلون واحد و لم يكن التلوين فاشيا.
و قد احتج بعضهم بما
رواه البخاري عن أنس أنه سئل كيف كانت قراءة النبيء؟
فقال كانت مدّا ثم قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يمد بِسْمِ اللَّهِ و يمد بالرحمن و يمد بالرحيم
، ا ه، و لا حجة في هذا لأن ضمير قرأ و ضمير يمد عائدان إلى أنس، و إنما جاء بالبسملة على وجه التمثيل لكيفية القراءة لشهرة البسملة.
و حجة عبد اللّه بن المبارك و ثاني قولي الشافعي ما
رواه مسلم عن أنس قال: «بينا رسول اللّه بين أظهرنا ذات يوم إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول اللّه؟ قال: أنزلت عليّ سورة آنفا فقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ
[الكوثر: 1] السورة، قالوا و للإجماع على أن ما بين الدفتين كلام اللّه و لإثبات الصحابة إياها في المصاحف مع حرصهم على أن لا يدخلوا في القرآن ما ليس منه و لذلك لم يكتبوا آمين في الفاتحة.
و الجواب عن الحديث أنا نمنع أن يكون قرأ البسملة على أنها من السورة بل افتتح بها عند إرادة القراءة لأنها تغني عن الاستعاذة إذا نوى المبسمل تقدير أستعيذ باسم اللّه و حذف متعلق الفعل، و يتعين حمله على نحو هذا لأن راويه أنسا بن مالك جزم في حديثه الآخر أنه لم يسمع رسول اللّه بسمل في الصلاة. فإن أبوا تأويله بما تأولناه لزم اضطراب أنس في روايته اضطرابا يوجب سقوطها.
و الحق البين في أمر البسملة في أوائل السور، أنها كتبت للفصل بين السور ليكون
التحرير و التنوير، ج1، ص: 142
الفصل مناسبا لابتداء المصحف، و لئلا يكون بلفظ من غير القرآن، و قد روى أبو داود في «سننه» و الترمذي و صححه عن ابن عباس أنه قال: قلت لعثمان بن عفان: «ما حملكم أن عمدتم إلى براءة و هي من المئين و إلى الأنفال و هي من المثاني فجعلتموهما في السبع الطوال و لم تكتبوا بينهما سطرا بسم اللّه الرحمن الرحيم»، قال عثمان كان النبيء لما تنزل عليه الآيات فيدعو بعض من كان يكتب له و يقول له ضع هذه الآية بالسورة التي يذكر فيها كذا و كذا، أو تنزل عليه الآية و الآيتان فيقول مثل ذلك، و كانت الأنفال من أول ما أنزل عليه بالمدينة، و كانت براءة من آخر ما أنزل من القرآن و كانت قصتها شبيهة بقصتها فقبض رسول اللّه و لم يبين لنا أنها منها، فظننت أنها منها، فمن هناك وضعتها في السبع الطوال و لم أكتب بينهما سطر بسم اللّه الرحمن الرحيم».
و أرى في هذا دلالة بينة على أن البسملة لم تكتب بين السور غير الأنفال و براءة إلا حين جمع القرآن في مصحف واحد زمن عثمان، و أنها لم تكن مكتوبة في أوائل السور في الصحف التي جمعها زيد بن ثابت في خلافة أبي بكر إذ كانت لكل سورة صحيفة مفردة كما تقدم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
و على أن البسملة مختلف في كونها آية من أول كل سورة غير براءة، أو آية من أول سورة الفاتحة فقط، أو ليست بآية من أول شيء من السور؛ فإن القراء اتفقوا على قراءة البسملة عند الشروع في قراءة سورة من أولها غير براءة. و رووا ذلك عمن تلقّوا، فأما الذين منهم يروون اجتهادا أو تقليدا أن البسملة آية من أول كل سورة غير براءة، فأمرهم ظاهر، و قراءة البسملة في أوائل السور واجبة عندهم لا محالة في الصلاة و غيرها، و أما الذين لا يروون البسملة آية من أوائل السور كلها أو ما عدا الفاتحة فإن قراءتهم البسملة في أول السورة عند الشروع في قراءة سورة غير مسبوقة بقراءة سورة قبلها تعلّل بالتيمن باقتفاء أثر كتّاب المصحف، أي قصد التشبه في مجرد ابتداء فعل تشبيها لابتداء القراءة بابتداء الكتابة. فتكون قراءتهم البسملة أمرا مستحبا للتأسي في القراءة بما فعله الصحابة الكاتبون للمصحف، فقراءة البسملة عند هؤلاء نظير النطق بالاستعاذة و نظير التهليل و التكبير بين بعض السور من آخر المفصّل، و لا يبسملون في قراءة الصلاة الفريضة، و هؤلاء إذا قرأوا في صلاة الفريضة تجري قراءتهم على ما انتهى إليه فهمهم من أمر البسملة من اجتهاد أو تقليد. و بهذا تعلم أنه لا ينبغي أن يؤخذ من قراءتهم قول لهم بأن البسملة آية من أول كل سورة كما فعل صاحب «الكشاف» و البيضاوي.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 143
و اختلفوا في قراءة البسملة في غير الشروع في قراءة سورة من أولها، أي في قراءة البسملة بين السورتين.
فورش عن نافع في أشهر الروايات عنه و ابن عامر، و أبو عمرو، و حمزة، و يعقوب، و خلف، لا يبسملون بين السورتين و ذلك يعلل بأن التشبّه بفعل كتّاب المصحف خاص بالابتداء، و بحملهم رسم البسملة في المصحف على أنه علامة على ابتداء السورة لا على الفصل، إذ لو كانت البسملة علامة على الفصل بين السورة و التي تليها لما كتبت في أول سورة الفاتحة، فكان صنيعهم وجيها لأنهم جمعوا بين ما رووه عن سلفهم و بين دليل قصد التيمن، و دليل رأيهم أن البسملة ليست آية من أول كل سورة.
و قالون عن نافع و ابن كثير و عاصم و الكسائي و أبو جعفر يبسملون بين السورتين سوى ما بين الأنفال و براءة، و عدوه من سنة القراءة، و ليس حظهم في ذلك إلا اتباع سلفهم، إذ ليس جميعهم من أهل الاجتهاد، و لعلهم طردوا قصد التيمن بمشابهة كتّاب المصحف في الإشعار بابتداء السورة و الإشعار بانتهاء التي قبلها.
و اتفق المسلمون على ترك البسملة في أول سورة براءة و قد تبين وجه ذلك آنفا، و وجّهه الأئمة بوجوه أخر تأتي في أول سورة براءة، و ذكر الجاحظ في «البيان و التبيين» «1» أن مؤرّجا السّدوسي البصري سمع رجلا يقول: «أمير المؤمنين يردّ على المظلوم» فرجع مؤرج إلى مصحفه فردّ على براءة بسم اللّه الرحمن الرحيم، و يحمل هذا الذي صنعه مؤرج- إن صح عنه- إنما هو على التمليح و الهزل و ليس على الجد.
و في هذا ما يدل على أن اختلاف مذاهب القراء في قراءة البسملة في مواضع من القرآن ابتداء و وصلا كما تقدم لا أثر له في الاختلاف في حكم قراءتها في الصلاة، فإن قراءتها في الصلاة تجري على أحكام النظر في الأدلة، و ليس مذاهب القراء بمعدودة من أدلة الفقه، و إنما قراءاتهم روايات و سنة متبعة في قراءة القرآن دون استناد إلى اعتبار أحكام رواية القرآن من تواتر و دونه، و لا إلى وجوب و استحباب و تخيير، فالقارىء يقرأ كما روى عن معلميه و لا ينظر في حكم ما يقرأه من لزوم كونه كما قرأ أو عدم اللزوم، فالقراء تجري أعمالهم في صلاتهم على نزعاتهم في الفقه من اجتهاد و تقليد، و يوضح غلط من ظن أن خلاف الفقهاء في إثبات البسملة و عدمه مبني على خلاف القراء، كما يوضح