کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج1، ص: 146
فأصل صيغته عند البصريين من الناقص الواوي فهو إما سمو بوزن حمل، أو سمو بوزن قفل فحذفت اللام حذفا لمجرد التخفيف أو لكثرة الاستعمال و لذلك جرى الإعراب على الحرف الباقي، لأنه لو حذفت لامه لعلة صرفية لكان الإعراب مقدرا على الحرف المحذوف كما في نحو قاض و جوار، فلما جرى الإعراب على الحرف الباقي الذي كان ساكنا نقلوا سكونه للمتحرك و هو أول الكلمة و جلبوا همزة الوصل للنطق بالساكن؛ إذ العرب لا تستحسن الابتداء بحرف ساكن لابتناء لغتهم على التخفيف، و قد قضوا باجتلاب الهمزة وطرا ثانيا من التخفيف و هو عود الكلمة إلى الثلاثي لأن الأسماء التي تبقى بالحذف على حرفين كيد و دم لا تخلو من ثقل، و في هذا دليل على أن الهمزة لم تجتلب لتعويض الحرف المحذوف و إلا لا جتلبوها في يد و دم و غد.
و قد احتجوا على أن أصله كذلك بجمعه على أسماء بوزن أفعال، فظهرت في آخره همزة و هي منقلبة عن الواو المتطرفة إثر ألف الجمع، و بأنه جمع على أساميّ و هو جمع الجمع بوزن أفاعيل بإدغام ياء الجمع في لام الكلمة و يجوز تخفيفها كما في أثافي و أماني، و بأنه صغّر على سمي. و أن الفعل منه سمّيت، و هي حجج بينة على أن أصله من الناقص الواوي. و بأنه يقال سمى كهدى؛ لأنهم صاغوه على فعل كرطب فتنقلب الواو المتحركة ألفا إثر الفتحة و أنشدوا على ذلك قول أبي خالد القناني الراجز «1» :
و اللّه أسماك سمّى مباركا
آثرك اللّه به إيثاركا
و قال ابن يعيش: لا حجة فيه لاحتمال كونه لغة من قال سم و النصب فيه نصب إعراب لا نصب الإعلال، ورده عبد الحكيم بأن كتابته بالإمالة تدل على خلاف ذلك.
و عندي فيه أن الكتابة لا تتعلق بها الرواية فلعل الذين كتبوه بالياء هم الذين ظنوه مقصورا، على أن قياسها الكتابة بالألف مطلقا لأنه واوي إلا إذا أريد عدم التباس الألف بألف النصب. و رأي البصريين أرجح من ناحية تصاريف هذا اللفظ. و ذهب الكوفيون إلى أن أصله و سم بكسر الواو لأنه من السمة و هي العلامة، فحذفت الواو و عوضت عنها همزة الوصل ليبقى على ثلاثة أحرف ثم يتوسل بذلك إلى تخفيفه في الوصل، و كأنهم رأوا أن لا
(1) القناني- بفتح القاف و النون مخففا- نسبة إلى قنان بن سلمة من مذحج قاله شارح «القاموس» و شارح «الشواهد الكبرى»، و لم يذكر ابن الأثير و لا غيره القنان هذا في بطون مذحج فلعله قد دخل بنوه في قبيلة أخرى، و لم يوجد سلمة هذا و إنما الموجود مسلية- بالياء- بوزن مسلمة، و هم بطن من مذحج دخلوا في بني الحارث بن كعب.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 147
وجه لاشتقاقه من السمو لأنه قد يستعمل لأشياء غير سامية و قد علمت وجه الجواب، و رأي الكوفيين أرجح من جانب الاشتقاق دون التصريف، على أن همزة الوصل لم يعهد دخولها على ما حذف صدره و ردوا استدلال البصريين بتصاريفه بأنها يحتمل أن تكون تلك التصاريف من القلب المكاني بأن يكون أصل اسم و سم، ثم نقلب الواو التي هي فاء الكلمة فجعلت لاما ليتوسل بذلك إلى حذفها ورد في تصرفاته في الموضع الذي حذف منه لأنه تنوسي أصله، و أجيب عن ذلك بأن هذا بعيد لأنه خلاف الأصل و بأن القلب لا يلزم الكلمة في سائر تصاريفها و إلا لما عرف أصل تلك الكلمة. و قد اتفق علماء اللغة على أن التصاريف هي التي يعرف بها الزائد من الأصلي و المنقلب من غيره. و زعم ابن حزم في كتاب «الملل و النحل» أن كلا قولي البصريين و الكوفيين فاسد افتعله النحاة و لم يصح عن العرب و أن لفظ الاسم غير مشتق بل هو جامد و تطاول ببذاءته عليهم و هي جرأة عجيبة، و قد قال تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* [النحل: 43].
و إنما أقحم لفظ اسم مضافا إلى علم الجلالة إذ قيل (بسم اللّه) و لم يقل باللّه لأن المقصود أن يكون الفعل المشروع فيه من شؤون أهل التوحيد الموسومة باسم الإله الواحد فلذلك تقحم كلمة اسم في كل ما كان على هذا المقصد كالتسمية على النسك قال تعالى:
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 118] و قال: وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 119] و كالأفعال التي يقصد بها التيمن و التبرك و حصول المعونة مثل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] فاسم اللّه هو الذي تمكن مقارنته للأفعال لا ذاته، ففي مثل هذا لا يحسن أن يقال باللّه لأنه حينئذ يكون المعنى أنه يستمد من اللّه تيسيرا و تصرفا من تصرفات قدرته و ليس ذلك هو المقصود بالشروع، فقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ* [الواقعة:
74] أمر بأن يقول سبحان اللّه، و قوله: وَ سَبِّحْهُ [الإنسان: 26] أمر بتنزيه ذاته و صفاته عن النقائص، فاستعمال لفظ الاسم في هذا بمنزلة استعمال سمات الإبل عند القبائل، و بمنزلة استعمال القبائل شعار تعارفهم «1» ، و استعمال الجيوش شعارهم المصطلح عليه.
و الخلاصة «2» أن كل مقام يقصد فيه التيمن و الانتساب إلى الرب الواحد الواجب الوجود يعدى فيه الفعل إلى لفظ اسم اللّه كقوله: وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها
(1) قال النابغة:
مستشعرين قد ألفوا في ديارهم
دعاء سوع و دعميّ و أيوب
(2) و في الخبر «كان شعار المسلمين يوم بدر أحد أحد».
التحرير و التنوير، ج1، ص: 148
[هود: 41] و
في الحديث في دعاء الاضطجاع: «باسمك ربي وضعت جنبي و باسمك أرفعه»
و كذلك المقام الذي يقصد فيه ذكر اسم اللّه تعالى كقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ* أي قل سبحان اللّه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] و كل مقام يقصد فيه طلب التيسير و العون من اللّه تعالى يعدى الفعل المسئول إلى علم الذات باعتبار ما له من صفات الخلق و التكوين كما في قوله تعالى: فَاسْجُدْ لَهُ [الإنسان: 26] و
قوله في الحديث: «اللهم بك نصبح و بك نمسي»
أي بقدرتك و مشيئتك و كذلك المقام الذي يقصد فيه توجه الفعل إلى اللّه تعالى كقوله تعالى: فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ أي نزه ذاته و حقيقته عن النقائص. فمعنى (بسم اللّه الرحمن الرحيم) أقرأ قراءة ملابسة لبركة هذا الاسم المبارك.
هذا و قد ورد في استعمال العرب توسعات في إطلاق لفظ الاسم مرة يعنون به ما يرادف المسمى كقول النابغة:
نبئت زرعة و السفاهة كاسمها
يهدى إليّ غرائب الأشعار
يعني أن السفاهة هي هي لا تعرّف للناس بأكثر من اسمها و هو قريب من استعمال اسم الإشارة في قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143]. أي مثل ذلك الجعل الواضح الشهير و يطلقون الاسم مقحما زائدا كما في قول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
يعني ثم السلام عليكما و ليس هذا خاصا بلفظ الاسم بل يجىء فيما يرادفه مثل الكلمة في قوله تعالى: وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الفتح: 26] و كذلك «لفظ» في قول بشار هاجيا:
و كذاك، كان أبوك يؤثر بالهني
و يظل في لفظ النّدى يتردّد
و قد يطلق الاسم و ما في معناه كناية عن وجود المسمى، و منه قوله تعالى: وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ [الرعد: 33] و الأمر للتعجيز أي أثبتوا وجودهم و وضع أسماء لهم.
فهذه إطلاقات أخرى ليس ذكر اسم اللّه في البسملة من قبيلها، و إنما نبهنا عليها لأن بعض المفسرين خلط بها في تفسير البسملة، ذكرتها هنا توضيحا ليكون نظركم فيها فسيحا فشدوا بها يدا و لا تتبعوا طرائق قددا.
و قد تكلموا على ملحظ تطويل الباء في رسم البسملة بكلام كله غير مقنع، و الذي يظهر لي أن الصحابة لما كتبوا المصحف طولوها في سورة النمل للإشارة إلى أنها مبدأ
التحرير و التنوير، ج1، ص: 149
كتاب سليمان فهي من المحكي، فلما جعلوها علامة على فواتح السور نقلوها برسمها، و تطويل الباء فيها صالح لاتخاذه قدوة في ابتداء الغرض الجديد من الكلام بحرف غليظ أو ملون.
و الكلام على اسم الجلالة و وصفه يأتي في تفسير قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 2، 3].
و مناسبة الجمع في البسملة بين علم الجلالة و بين صفتي الرحمن الرحيم، قال البيضاوي إن المسمّي إذا قصد الاستعانة بالمعبود الحق الموصوف بأنه مولي النعم كلها جليلها و دقيقها يذكر علم الذات إشارة إلى استحقاقه أن يستعان به بالذات، ثم يذكر وصف الرحمن إشارة إلى أن الاستعانة على الأعمال الصالحة و هي نعم، و ذكر الرحيم للوجوه التي سنذكرها في عطف صفة الرحيم على صفة الرحمن.
و قال الأستاذ الإمام محمد عبده: إن النصارى كانوا يبتدئون أدعيتهم و نحوها باسم الأب و الابن و الروح القدس إشارة إلى الأقانيم الثلاثة عندهم، فجاءت فاتحة كتاب الإسلام بالرد عليهم موقظة لهم بأن الإله الواحد و إن تعددت أسماؤه فإنما هو تعدد الأوصاف دون تعدد المسميات، يعني فهو رد عليهم بتغليظ و تبليد. و إذا صح أن فواتح النصارى و أدعيتهم كانت تشتمل على ذلك- إذ الناقل أمين- فهي نكتة لطيفة.
و عندي أن البسملة كان ما يرادفها قد جرى على ألسنة الأنبياء من عهد إبراهيم عليه السلام فهي من كلام الحنيفية، فقد حكى اللّه عن إبراهيم أنه قال لأبيه: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ [مريم: 45]، و قال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 47] و معنى الحفي قريب من معنى الرحيم. و حكي عنه قوله: وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 128]. و ورد ذكر مرادفها في كتاب سليمان إلى ملكة سبأ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 30، 31]. و المظنون أن سليمان اقتدى في افتتاح كتابه بالبسملة بسنة موروثة من عهد إبراهيم جعلها إبراهيم كلمة باقية في وارثي نبوته، و أن اللّه أحياء هذه السنة في الإسلام في جملة ما أوحى له من الحنيفية كما قال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الحج: 78].
[2] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .
التحرير و التنوير، ج1، ص: 150
الشأن في الخطاب بأمر مهم لم يسبق للمخاطب به خطاب من نوعه أن يستأنس له قبل إلقاء المقصود و أن يهيّأ لتلقيه، و أن يشوق إلى سماع ذلك و تراض نفسه على الاهتمام بالعمل به ليستعد للتلقي بالتخلي عن كل ما شأنه أن يكون عائقا عن الانتفاع بالهدى من عناد و مكابرة أو امتلاء العقل بالأوهام الضالة، فإن النفس لا تكاد تنتفع بالعظات و النذر، و لا تشرق فيها الحكمة و صحة النظر ما بقي يخالجها العناد و البهتان، و تخامر رشدها نزغات الشيطان، فلما أراد اللّه أن تكون هذه السورة أولى سور الكتاب المجيد بتوقيف النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم كما تقدم آنفا نبه اللّه تعالى قراء كتابه و فاتحي مصحفه إلى أصول هذه التزكية النفسية بما لقنهم أن يبتدئوا بالمناجاة التي تضمنتها سورة الفاتحة من قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ إلى آخر السورة، فإنها تضمنت أصولا عظيمة: أولها التخلية عن التعطيل و الشرك بما تضمنه إِيَّاكَ نَعْبُدُ . الثاني التخلي عن خواطر الاستغناء عنه بالتبري من الحول و القوة تجاه عظمته بما تضمنه وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . الثالث الرغبة في التحلي بالرشد و الاهتداء بما تضمنه اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ . الرابع الرغبة في التحلي بالأسوة الحسنة بما تضمنه صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . الخامس التهمم بالسلامة من الضلال الصريح بما تضمنه غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ . السادس التهمم بسلامة تفكيرهم من الاختلاط بشبهات الباطل المموّه بصورة الحق و هو المسمى بالضلال لأن الضلال خطأ الطريق المقصود بما تضمنه وَ لَا الضَّالِّينَ .
و أنت إذا افتقدت أصول نجاح المرشد في إرشاده و المسترشد في تلقيه على كثرتها و تفاريعها وجدتها عاكفة حول هذه الأركان الستة فكن في استقصائها لبيبا. و عسى أن أزيدك من تفصيلها قريبا. و إن الذي لقن أهل القرآن ما فيه جماع طرائق الرشد بوجه لا يحيط به غير علام الغيوب لم يهمل إرشادهم إلى التحلي بزينة الفضائل و هي أن يقدروا النعمة حق قدرها بشكر المنعم بها فأراهم كيف يتوّجون مناجاتهم بحمد واهب العقل و مانح التوفيق، و لذلك كان افتتاح كل كلام مهم بالتحميد سنة الكتاب المجيد. فسورة الفاتحة بما تقرر منزّلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، و هذا الأسلوب له شأن عظيم في صناعة الأدب العربي و هو أعون للفهم و أدعى للوعي.
و قد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة: القاعدة الأولى إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود و هو ظاهر في الفاتحة، و ليكون
التحرير و التنوير، ج1، ص: 151
سنة للخطباء فلا يطيلوا المقدمة كي لا ينسبوا إلى العي فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض، و من هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة. الثانية أن تشير إلى الغرض المقصود و هو ما يسمى براعة الاستهلال لأن ذلك يهيىء السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب، أو لنقده و إكماله إن كانوا في تلك الدرجة، و لأن ذلك يدل على تمكن الخطيب من الغرض و ثقته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه، و فيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم. و قد تقدم بيان اشتمال الفاتحة على هذا عند الكلام على وجه تسميتها أم القرآن. الثالثة أن تكون المقدمة من جوامع الكلم و قد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها. الرابع أن تفتتح بحمد اللّه.
إن القرآن هدى للناس و تبيانا للأحكام التي بها إصلاح الناس في عاجلهم و آجلهم و معاشهم و معادهم و لما لم يكن لنفوس الأمة اعتياد بذلك لزم أن يهيّأ المخاطبون بها إلى تلقيها و يعرف تهيؤهم بإظهارهم استعداد النفوس بالتخلي عن كل ما من شأنه أن يعوق عن الانتفاع بهاته التعاليم النافعة و ذلك بأن يجردوا نفوسهم عن العناد و المكابرة و عن خلط معارفهم بالأغلاط الفاقرة، فلا مناص لها قبل استقبال تلك الحكمة و النظر من الاتسام بميسم الفضيلة و التخلية عن السفاسف الرذيلة.
فالفاتحة تضمنت مناجاة للخالق جامعة التنزه عن التعطيل و الإلحاد و الدهرية بما تضمنه قوله: ملك يوم الدين، و عن الإشراك بما تضمنه إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، و عن المكابرة و العناد بما تضمنه اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فإن طلب الهداية اعتراف بالاحتياج إلى العلم، و وصف الصراط بالمستقيم اعتراف بأن من العلم ما هو حق و منه ما هو مشوب بشبه و غلط، و من اعترف بهذين الأمرين فقد أعد نفسه لاتباع أحسنهما، و عن الضلالات التي تعتري العلوم الصحيحة و الشرائع الحقة فتذهب بفائدتها و تنزل صاحبها إلى دركة أقل مما وقف عنده الجاهل البسيط، و ذلك بما تضمنه قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ كما أجملناه قريبا، و لأجل هذا سميت هاته السورة أم القرآن كما تقدم.
و لما لقّن المؤمنون هاته المناجاة البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غير علام الغيوب سبحانه قدم الحمد عليها ليضعه المناجون كذلك في مناجاتهم جريا على طريقة بلغاء العرب عند مخاطبة العظماء أن يفتتحوا خطابهم إياهم و طلبتهم بالثناء و الذكر
التحرير و التنوير، ج1، ص: 152
الجميل. قال أمية ابن أبي الصلت يمدح عبد اللّه بن جدعان:
أ أذكر حاجتي أم قد كفاني
حياؤك إنّ شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما
كفاه عن تعرّضه الثّناء
فكان افتتاح الكلام بالتحميد سنة الكتاب المجيد لكل بليغ مجيد، فلم يزل المسلمون من يومئذ يلقّبون كل كلام نفيس لم يشتمل في طالعه على الحمد بالأبتر أخذا من
حديث أبي هريرة عن النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد للّه أو بالحمد فهو أقطع»
«1» . و قد لقبت خطبة زياد ابن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بالبتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد، و كانت سورة الفاتحة لذلك منزّلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، و لذلك شأن مهم في صناعة الإنشاء فإن تقديم المقدمة بين يدي المقصود أعود للأفهام و أدعى لوعيها.
و (الحمد) هو الثناء على الجميل أي الوصف الجميل الاختياري فعلا كان كالكرم و إغاثة الملهوف أم غيره كالشجاعة. و قد جعلوا الثناء جنسا للحمد فهو أعم منه و لا يكون ضده. فالثناء الذكر بخير مطلقا و شذ من قال يستعمل الثناء في الذكر مطلقا و لو بشرّ، و نسبا إلى ابن القطاع «2» و غرّه في ذلك ما رود
في الحديث و هو قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة و من أثنيتم عليه شرا وجبت له النار»
و إنما هو مجاز دعت إليه المشاكلة اللفظية و التعريض بأن من كان متكلما في مسلم فليتكلم بثناء أو ليدع، فسمّى ذكرهم بالشر ثناء تنبيها على ذلك. و أما الذي يستعمل في الخير و الشر فهو النثاء بتقديم النون و هو في الشر أكثر كما قيل.
و أما المدح فقد اختلف فيه فذهب الجمهور إلى أن المدح أعم من الحمد فإنه يكون على الوصف الاختياري و غيره. و قال صاحب «الكشاف» الحمد و المدح أخوان فقيل أراد أخوان في الاشتقاق الكبير نحو جبذ و جذب، و إن ذلك اصطلاح له في «الكشاف» في معنى أخوة اللفظين لئلا يلزم من ظاهر كلامه أن المدح يطلق على الثناء على الجميل الاختياري، لكن هذا فهم غير مستقيم و الذي عليه المحققون من شراح «الكشاف» أنه أراد
(1) رواه البيهقي في «سننه» باللفظ الأول، و رواه أبو داود في «سننه» باللفظ الثاني و هو حديث حسن.