کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج1، ص: 148
[هود: 41] و
في الحديث في دعاء الاضطجاع: «باسمك ربي وضعت جنبي و باسمك أرفعه»
و كذلك المقام الذي يقصد فيه ذكر اسم اللّه تعالى كقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ* أي قل سبحان اللّه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] و كل مقام يقصد فيه طلب التيسير و العون من اللّه تعالى يعدى الفعل المسئول إلى علم الذات باعتبار ما له من صفات الخلق و التكوين كما في قوله تعالى: فَاسْجُدْ لَهُ [الإنسان: 26] و
قوله في الحديث: «اللهم بك نصبح و بك نمسي»
أي بقدرتك و مشيئتك و كذلك المقام الذي يقصد فيه توجه الفعل إلى اللّه تعالى كقوله تعالى: فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ أي نزه ذاته و حقيقته عن النقائص. فمعنى (بسم اللّه الرحمن الرحيم) أقرأ قراءة ملابسة لبركة هذا الاسم المبارك.
هذا و قد ورد في استعمال العرب توسعات في إطلاق لفظ الاسم مرة يعنون به ما يرادف المسمى كقول النابغة:
نبئت زرعة و السفاهة كاسمها
يهدى إليّ غرائب الأشعار
يعني أن السفاهة هي هي لا تعرّف للناس بأكثر من اسمها و هو قريب من استعمال اسم الإشارة في قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143]. أي مثل ذلك الجعل الواضح الشهير و يطلقون الاسم مقحما زائدا كما في قول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
يعني ثم السلام عليكما و ليس هذا خاصا بلفظ الاسم بل يجىء فيما يرادفه مثل الكلمة في قوله تعالى: وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الفتح: 26] و كذلك «لفظ» في قول بشار هاجيا:
و كذاك، كان أبوك يؤثر بالهني
و يظل في لفظ النّدى يتردّد
و قد يطلق الاسم و ما في معناه كناية عن وجود المسمى، و منه قوله تعالى: وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ [الرعد: 33] و الأمر للتعجيز أي أثبتوا وجودهم و وضع أسماء لهم.
فهذه إطلاقات أخرى ليس ذكر اسم اللّه في البسملة من قبيلها، و إنما نبهنا عليها لأن بعض المفسرين خلط بها في تفسير البسملة، ذكرتها هنا توضيحا ليكون نظركم فيها فسيحا فشدوا بها يدا و لا تتبعوا طرائق قددا.
و قد تكلموا على ملحظ تطويل الباء في رسم البسملة بكلام كله غير مقنع، و الذي يظهر لي أن الصحابة لما كتبوا المصحف طولوها في سورة النمل للإشارة إلى أنها مبدأ
التحرير و التنوير، ج1، ص: 149
كتاب سليمان فهي من المحكي، فلما جعلوها علامة على فواتح السور نقلوها برسمها، و تطويل الباء فيها صالح لاتخاذه قدوة في ابتداء الغرض الجديد من الكلام بحرف غليظ أو ملون.
و الكلام على اسم الجلالة و وصفه يأتي في تفسير قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 2، 3].
و مناسبة الجمع في البسملة بين علم الجلالة و بين صفتي الرحمن الرحيم، قال البيضاوي إن المسمّي إذا قصد الاستعانة بالمعبود الحق الموصوف بأنه مولي النعم كلها جليلها و دقيقها يذكر علم الذات إشارة إلى استحقاقه أن يستعان به بالذات، ثم يذكر وصف الرحمن إشارة إلى أن الاستعانة على الأعمال الصالحة و هي نعم، و ذكر الرحيم للوجوه التي سنذكرها في عطف صفة الرحيم على صفة الرحمن.
و قال الأستاذ الإمام محمد عبده: إن النصارى كانوا يبتدئون أدعيتهم و نحوها باسم الأب و الابن و الروح القدس إشارة إلى الأقانيم الثلاثة عندهم، فجاءت فاتحة كتاب الإسلام بالرد عليهم موقظة لهم بأن الإله الواحد و إن تعددت أسماؤه فإنما هو تعدد الأوصاف دون تعدد المسميات، يعني فهو رد عليهم بتغليظ و تبليد. و إذا صح أن فواتح النصارى و أدعيتهم كانت تشتمل على ذلك- إذ الناقل أمين- فهي نكتة لطيفة.
و عندي أن البسملة كان ما يرادفها قد جرى على ألسنة الأنبياء من عهد إبراهيم عليه السلام فهي من كلام الحنيفية، فقد حكى اللّه عن إبراهيم أنه قال لأبيه: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ [مريم: 45]، و قال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 47] و معنى الحفي قريب من معنى الرحيم. و حكي عنه قوله: وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 128]. و ورد ذكر مرادفها في كتاب سليمان إلى ملكة سبأ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 30، 31]. و المظنون أن سليمان اقتدى في افتتاح كتابه بالبسملة بسنة موروثة من عهد إبراهيم جعلها إبراهيم كلمة باقية في وارثي نبوته، و أن اللّه أحياء هذه السنة في الإسلام في جملة ما أوحى له من الحنيفية كما قال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الحج: 78].
[2] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .
التحرير و التنوير، ج1، ص: 150
الشأن في الخطاب بأمر مهم لم يسبق للمخاطب به خطاب من نوعه أن يستأنس له قبل إلقاء المقصود و أن يهيّأ لتلقيه، و أن يشوق إلى سماع ذلك و تراض نفسه على الاهتمام بالعمل به ليستعد للتلقي بالتخلي عن كل ما شأنه أن يكون عائقا عن الانتفاع بالهدى من عناد و مكابرة أو امتلاء العقل بالأوهام الضالة، فإن النفس لا تكاد تنتفع بالعظات و النذر، و لا تشرق فيها الحكمة و صحة النظر ما بقي يخالجها العناد و البهتان، و تخامر رشدها نزغات الشيطان، فلما أراد اللّه أن تكون هذه السورة أولى سور الكتاب المجيد بتوقيف النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم كما تقدم آنفا نبه اللّه تعالى قراء كتابه و فاتحي مصحفه إلى أصول هذه التزكية النفسية بما لقنهم أن يبتدئوا بالمناجاة التي تضمنتها سورة الفاتحة من قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ إلى آخر السورة، فإنها تضمنت أصولا عظيمة: أولها التخلية عن التعطيل و الشرك بما تضمنه إِيَّاكَ نَعْبُدُ . الثاني التخلي عن خواطر الاستغناء عنه بالتبري من الحول و القوة تجاه عظمته بما تضمنه وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . الثالث الرغبة في التحلي بالرشد و الاهتداء بما تضمنه اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ . الرابع الرغبة في التحلي بالأسوة الحسنة بما تضمنه صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . الخامس التهمم بالسلامة من الضلال الصريح بما تضمنه غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ . السادس التهمم بسلامة تفكيرهم من الاختلاط بشبهات الباطل المموّه بصورة الحق و هو المسمى بالضلال لأن الضلال خطأ الطريق المقصود بما تضمنه وَ لَا الضَّالِّينَ .
و أنت إذا افتقدت أصول نجاح المرشد في إرشاده و المسترشد في تلقيه على كثرتها و تفاريعها وجدتها عاكفة حول هذه الأركان الستة فكن في استقصائها لبيبا. و عسى أن أزيدك من تفصيلها قريبا. و إن الذي لقن أهل القرآن ما فيه جماع طرائق الرشد بوجه لا يحيط به غير علام الغيوب لم يهمل إرشادهم إلى التحلي بزينة الفضائل و هي أن يقدروا النعمة حق قدرها بشكر المنعم بها فأراهم كيف يتوّجون مناجاتهم بحمد واهب العقل و مانح التوفيق، و لذلك كان افتتاح كل كلام مهم بالتحميد سنة الكتاب المجيد. فسورة الفاتحة بما تقرر منزّلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، و هذا الأسلوب له شأن عظيم في صناعة الأدب العربي و هو أعون للفهم و أدعى للوعي.
و قد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة: القاعدة الأولى إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود و هو ظاهر في الفاتحة، و ليكون
التحرير و التنوير، ج1، ص: 151
سنة للخطباء فلا يطيلوا المقدمة كي لا ينسبوا إلى العي فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض، و من هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة. الثانية أن تشير إلى الغرض المقصود و هو ما يسمى براعة الاستهلال لأن ذلك يهيىء السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب، أو لنقده و إكماله إن كانوا في تلك الدرجة، و لأن ذلك يدل على تمكن الخطيب من الغرض و ثقته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه، و فيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم. و قد تقدم بيان اشتمال الفاتحة على هذا عند الكلام على وجه تسميتها أم القرآن. الثالثة أن تكون المقدمة من جوامع الكلم و قد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها. الرابع أن تفتتح بحمد اللّه.
إن القرآن هدى للناس و تبيانا للأحكام التي بها إصلاح الناس في عاجلهم و آجلهم و معاشهم و معادهم و لما لم يكن لنفوس الأمة اعتياد بذلك لزم أن يهيّأ المخاطبون بها إلى تلقيها و يعرف تهيؤهم بإظهارهم استعداد النفوس بالتخلي عن كل ما من شأنه أن يعوق عن الانتفاع بهاته التعاليم النافعة و ذلك بأن يجردوا نفوسهم عن العناد و المكابرة و عن خلط معارفهم بالأغلاط الفاقرة، فلا مناص لها قبل استقبال تلك الحكمة و النظر من الاتسام بميسم الفضيلة و التخلية عن السفاسف الرذيلة.
فالفاتحة تضمنت مناجاة للخالق جامعة التنزه عن التعطيل و الإلحاد و الدهرية بما تضمنه قوله: ملك يوم الدين، و عن الإشراك بما تضمنه إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، و عن المكابرة و العناد بما تضمنه اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فإن طلب الهداية اعتراف بالاحتياج إلى العلم، و وصف الصراط بالمستقيم اعتراف بأن من العلم ما هو حق و منه ما هو مشوب بشبه و غلط، و من اعترف بهذين الأمرين فقد أعد نفسه لاتباع أحسنهما، و عن الضلالات التي تعتري العلوم الصحيحة و الشرائع الحقة فتذهب بفائدتها و تنزل صاحبها إلى دركة أقل مما وقف عنده الجاهل البسيط، و ذلك بما تضمنه قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ كما أجملناه قريبا، و لأجل هذا سميت هاته السورة أم القرآن كما تقدم.
و لما لقّن المؤمنون هاته المناجاة البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غير علام الغيوب سبحانه قدم الحمد عليها ليضعه المناجون كذلك في مناجاتهم جريا على طريقة بلغاء العرب عند مخاطبة العظماء أن يفتتحوا خطابهم إياهم و طلبتهم بالثناء و الذكر
التحرير و التنوير، ج1، ص: 152
الجميل. قال أمية ابن أبي الصلت يمدح عبد اللّه بن جدعان:
أ أذكر حاجتي أم قد كفاني
حياؤك إنّ شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما
كفاه عن تعرّضه الثّناء
فكان افتتاح الكلام بالتحميد سنة الكتاب المجيد لكل بليغ مجيد، فلم يزل المسلمون من يومئذ يلقّبون كل كلام نفيس لم يشتمل في طالعه على الحمد بالأبتر أخذا من
حديث أبي هريرة عن النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد للّه أو بالحمد فهو أقطع»
«1» . و قد لقبت خطبة زياد ابن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بالبتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد، و كانت سورة الفاتحة لذلك منزّلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، و لذلك شأن مهم في صناعة الإنشاء فإن تقديم المقدمة بين يدي المقصود أعود للأفهام و أدعى لوعيها.
و (الحمد) هو الثناء على الجميل أي الوصف الجميل الاختياري فعلا كان كالكرم و إغاثة الملهوف أم غيره كالشجاعة. و قد جعلوا الثناء جنسا للحمد فهو أعم منه و لا يكون ضده. فالثناء الذكر بخير مطلقا و شذ من قال يستعمل الثناء في الذكر مطلقا و لو بشرّ، و نسبا إلى ابن القطاع «2» و غرّه في ذلك ما رود
في الحديث و هو قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة و من أثنيتم عليه شرا وجبت له النار»
و إنما هو مجاز دعت إليه المشاكلة اللفظية و التعريض بأن من كان متكلما في مسلم فليتكلم بثناء أو ليدع، فسمّى ذكرهم بالشر ثناء تنبيها على ذلك. و أما الذي يستعمل في الخير و الشر فهو النثاء بتقديم النون و هو في الشر أكثر كما قيل.
و أما المدح فقد اختلف فيه فذهب الجمهور إلى أن المدح أعم من الحمد فإنه يكون على الوصف الاختياري و غيره. و قال صاحب «الكشاف» الحمد و المدح أخوان فقيل أراد أخوان في الاشتقاق الكبير نحو جبذ و جذب، و إن ذلك اصطلاح له في «الكشاف» في معنى أخوة اللفظين لئلا يلزم من ظاهر كلامه أن المدح يطلق على الثناء على الجميل الاختياري، لكن هذا فهم غير مستقيم و الذي عليه المحققون من شراح «الكشاف» أنه أراد
(1) رواه البيهقي في «سننه» باللفظ الأول، و رواه أبو داود في «سننه» باللفظ الثاني و هو حديث حسن.
(2) هو علي بن جعفر السعدي بن سعد بن مالك من بني تميم الصقلي، ولد بصقلية سنة ثلاث و ثلاثين و أربعمائة، و رحل إلى القاهرة و توفي بها سنة خمس عشرة و قيل أربع عشرة و خمسمائة.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 153
من الأخوة هنا الترادف لأنه ظاهر كلامه؛ و لأنه صريح قوله في «الفائق»: «الحمد هو المدح و الوصف بالجميل» و لأنه ذكر الذم نقيضا للحمد إذ قال في «الكشاف»: «و الحمد نقيضه الذم» مع شيوع كون الذم نقيضا للمدح، و عرف علماء اللغة أن يريدوا من النقيض المقابل لا ما يساوي النقيض حتى يجاب بأنه أراد من النقيض ما لا يجامع المعنى و الذم لا يجامع الحمد و إن لم يكن معناه رفع معنى الحمد بل رفع معنى المدح إلا أن نفي الأعم و هو المدح يستلزم نفي الأخص و هو الحمد لأن هذا لا يقصده علماء اللغة، يعني و إن اغتفر مثله في استعمال العرب كقول زهير:
و من يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمده ذمّا عليه و يندم
لأن كلام العلماء مبني على الضبط و التدقيق.
ثم اختلف في مراد صاحب «الكشاف» من ترادفهما هل هما مترادفان في تقييد هما بالثناء على الجميل الاختياري؟ أو مترادفان في عدم التقييد بالاختياري، و على الأول حمله السيد الشريف و هو ظاهر كلام سعد الدين. و استدل السيد بأنه صرح بذلك في قوله تعالى: وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ [الحجرات: 7] إذ قال: «فإن قلت فإن العرب تمدح بالجمال و حسن الوجوه و هو مدح مقبول عند الناس، قلت الذي سوغ ذلك أنهم رأوا حسن الرواء و وسامة المنظر في الغالب يسفر عن مخبر مرض و أخلاق محمودة على أن من محققة الثقات و علماء المعاني من دفع صحة ذلك و خطأ المادح به و قصر المدح على النعت بأمهات الخير و هي كالفصاحة و الشجاعة و العدل و العفة و ما يتشعب عنها» ا ه.
و على المحمل الثاني و هو أن يكون قصد من الترادف إلغاء قيد الاختياري في كليهما حمله المحقق عبد الحكيم السلكوتي في «حواشي التفسير» فرضا أو نقلا لا ترجيحا بناء على أنه ظاهر كلامه في «الكشاف» و «الفائق» إذ ألغى قيد الاختياري في تفسير المدح بالثناء على الجميل و جعلهما مع ذلك مترادفين.
و بهذا يندفع الإشكال عن حمدنا اللّه تعالى على صفاته الذاتية كالعلم و القدرة دون صفات الأفعال و إن كان اندفاعه على اختيار الجمهور أيضا ظاهرا؛ فإن ما ورد عليهم من أن مذهبهم يستلزم أن لا يحمد اللّه تعالى على صفاته لأنها ذاتية فلا توصف بالاختيار إذ الاختيار يستلزم إمكان الاتصاف، و قد أجابوا عنه إما بأن تلك الصفات العلية نزلت منزلة الاختيارية لاستقلال موصوفها، و إما بأن ترتب الآثار الاختيارية عليها يجعلها كالاختيارية، و إما بأن المراد بالاختيارية أن يكون المحمود فاعلا بالاختيار و إن لم يكن المحمود عليه
التحرير و التنوير، ج1، ص: 154
اختياريا.
و عندي أن الجواب أن نقول إن شرط الاختياري في حقيقة الحمد عند مثبته لإخراج الصفات غير الاختيارية لأن غير الاختياري فينا ليس من صفات الكمال إذ لا تترتب عليها الآثار الموجبة للحمد، فكان شرط الاختيار في حمدنا زيادة في تحقق كمال المحمود، أما عدم الاختيار المختص بالصفات الذاتية الإلهية فإنه ليس عبارة عن نقص في صفاته و لكنه كمال نشأ من وجوب الصفة للذات لقدم الصفة فعدم الاختيار في صفات اللّه تعالى زيادة في الكمال لأن أمثال تلك الصفات فينا لا تكون واجبة للذات ملازمة لها فكان عدم الاختيار في صفات اللّه تعالى دليلا على زيادة الكمال و فينا دليلا على النقص، و ما كان نقصا فينا باعتبار ما قد يكون كمالا للّه تعالى باعتبار آخر مثل عدم الولد، فلا حاجة إلى الأجوبة المبنية على التنزيل إما باعتبار الصفة أو باعتبار الموصوف، على أن توجيه الثناء إلى اللّه تعالى بمادة (حمد) هو أقصى ما تسمى به اللغة الموضوعة لأداء المعاني المتعارفة لدى أهل تلك اللغة، فلما طرأت عليهم المدارك المتعلقة بالحقائق العالية عبر لهم عنها بأقصى ما يقربها من كلامهم.
(الحمد) مرفوع بالابتداء في جميع القراءات المروية و قوله (للّه) خبره فلام (للّه) متعلق بالكون و الاستقرار العام كسائر المجرورات المخبر بها و هو هنا من المصادر التي أتت بدلا عن أفعالها في معنى الإخبار، فأصله النصب على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فعله و تقدير الكلام نحمد حمدا للّه، فلذلك التزموا حذف أفعالها معها. قال سيبويه هذا باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره و ذلك قولك سقيا و رعيا و خيبة و بؤسا، و الحذر بدلا عن احذر فلا يحتاج إلى متعلق و أما قولهم سقيا لك نحو:
سقيا و رعيا لذاك العاتب الزّاري