کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج1، ص: 153
من الأخوة هنا الترادف لأنه ظاهر كلامه؛ و لأنه صريح قوله في «الفائق»: «الحمد هو المدح و الوصف بالجميل» و لأنه ذكر الذم نقيضا للحمد إذ قال في «الكشاف»: «و الحمد نقيضه الذم» مع شيوع كون الذم نقيضا للمدح، و عرف علماء اللغة أن يريدوا من النقيض المقابل لا ما يساوي النقيض حتى يجاب بأنه أراد من النقيض ما لا يجامع المعنى و الذم لا يجامع الحمد و إن لم يكن معناه رفع معنى الحمد بل رفع معنى المدح إلا أن نفي الأعم و هو المدح يستلزم نفي الأخص و هو الحمد لأن هذا لا يقصده علماء اللغة، يعني و إن اغتفر مثله في استعمال العرب كقول زهير:
و من يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمده ذمّا عليه و يندم
لأن كلام العلماء مبني على الضبط و التدقيق.
ثم اختلف في مراد صاحب «الكشاف» من ترادفهما هل هما مترادفان في تقييد هما بالثناء على الجميل الاختياري؟ أو مترادفان في عدم التقييد بالاختياري، و على الأول حمله السيد الشريف و هو ظاهر كلام سعد الدين. و استدل السيد بأنه صرح بذلك في قوله تعالى: وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ [الحجرات: 7] إذ قال: «فإن قلت فإن العرب تمدح بالجمال و حسن الوجوه و هو مدح مقبول عند الناس، قلت الذي سوغ ذلك أنهم رأوا حسن الرواء و وسامة المنظر في الغالب يسفر عن مخبر مرض و أخلاق محمودة على أن من محققة الثقات و علماء المعاني من دفع صحة ذلك و خطأ المادح به و قصر المدح على النعت بأمهات الخير و هي كالفصاحة و الشجاعة و العدل و العفة و ما يتشعب عنها» ا ه.
و على المحمل الثاني و هو أن يكون قصد من الترادف إلغاء قيد الاختياري في كليهما حمله المحقق عبد الحكيم السلكوتي في «حواشي التفسير» فرضا أو نقلا لا ترجيحا بناء على أنه ظاهر كلامه في «الكشاف» و «الفائق» إذ ألغى قيد الاختياري في تفسير المدح بالثناء على الجميل و جعلهما مع ذلك مترادفين.
و بهذا يندفع الإشكال عن حمدنا اللّه تعالى على صفاته الذاتية كالعلم و القدرة دون صفات الأفعال و إن كان اندفاعه على اختيار الجمهور أيضا ظاهرا؛ فإن ما ورد عليهم من أن مذهبهم يستلزم أن لا يحمد اللّه تعالى على صفاته لأنها ذاتية فلا توصف بالاختيار إذ الاختيار يستلزم إمكان الاتصاف، و قد أجابوا عنه إما بأن تلك الصفات العلية نزلت منزلة الاختيارية لاستقلال موصوفها، و إما بأن ترتب الآثار الاختيارية عليها يجعلها كالاختيارية، و إما بأن المراد بالاختيارية أن يكون المحمود فاعلا بالاختيار و إن لم يكن المحمود عليه
التحرير و التنوير، ج1، ص: 154
اختياريا.
و عندي أن الجواب أن نقول إن شرط الاختياري في حقيقة الحمد عند مثبته لإخراج الصفات غير الاختيارية لأن غير الاختياري فينا ليس من صفات الكمال إذ لا تترتب عليها الآثار الموجبة للحمد، فكان شرط الاختيار في حمدنا زيادة في تحقق كمال المحمود، أما عدم الاختيار المختص بالصفات الذاتية الإلهية فإنه ليس عبارة عن نقص في صفاته و لكنه كمال نشأ من وجوب الصفة للذات لقدم الصفة فعدم الاختيار في صفات اللّه تعالى زيادة في الكمال لأن أمثال تلك الصفات فينا لا تكون واجبة للذات ملازمة لها فكان عدم الاختيار في صفات اللّه تعالى دليلا على زيادة الكمال و فينا دليلا على النقص، و ما كان نقصا فينا باعتبار ما قد يكون كمالا للّه تعالى باعتبار آخر مثل عدم الولد، فلا حاجة إلى الأجوبة المبنية على التنزيل إما باعتبار الصفة أو باعتبار الموصوف، على أن توجيه الثناء إلى اللّه تعالى بمادة (حمد) هو أقصى ما تسمى به اللغة الموضوعة لأداء المعاني المتعارفة لدى أهل تلك اللغة، فلما طرأت عليهم المدارك المتعلقة بالحقائق العالية عبر لهم عنها بأقصى ما يقربها من كلامهم.
(الحمد) مرفوع بالابتداء في جميع القراءات المروية و قوله (للّه) خبره فلام (للّه) متعلق بالكون و الاستقرار العام كسائر المجرورات المخبر بها و هو هنا من المصادر التي أتت بدلا عن أفعالها في معنى الإخبار، فأصله النصب على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فعله و تقدير الكلام نحمد حمدا للّه، فلذلك التزموا حذف أفعالها معها. قال سيبويه هذا باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره و ذلك قولك سقيا و رعيا و خيبة و بؤسا، و الحذر بدلا عن احذر فلا يحتاج إلى متعلق و أما قولهم سقيا لك نحو:
سقيا و رعيا لذاك العاتب الزّاري
فإنما هو ليبينوا المعنيّ بالدعاء. ثم قال بعد أبواب: هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في غير الدعاء، من ذلك قولك حمدا و شكرا لا كفرا و عجبا، فإنما ينتصب هذا على إضمار الفعل كأنك قلت أحمد اللّه حمدا و إنما اختزل الفعل هاهنا لأنهم جعلوا هذا بدلا من اللفظ بالفعل كما فعلوا ذلك في باب الدعاء و قد جاء بعض هذا رفعا يبتدأ به ثم يبنى عليه (أي يخبر عنه) ثم قال بعد باب آخر: هذا باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدأة مبنيا عليها ما بعدها، و ذلك قولك الْحَمْدُ لِلَّهِ ،
التحرير و التنوير، ج1، ص: 155
و العجب لك، و الويل له، و إنما استحبوا الرفع فيه لأنه صار معرفة و هو خبر (أي غير إنشاء) فقوي في الابتداء (أي إنه لما كان خبرا لا دعاء و كان معرفة بأل تهيأت فيه أسباب الابتداء لأن كونه في معنى الإخبار يهّيىء جانب المعنى للخبرية و كونه معرفة يصحح أن يكون مبتدأ) بمنزلة عبد اللّه، و الرجل، و الذي تعلم (من المعارف) لأن الابتداء إنما هو خبر و أحسنه إذا اجتمع معرفة و نكرة أن تبدأ بالأعرف و هو أصل الكلام. و ليس كل حرف (أي تركيب) يصنع به ذاك، كما أنه ليس كل حرف (أي كلمة من هذه المصادر) يدخل فيه الألف و اللام، فلو قلت السقي لك و الرعي لك لم يجز (يعني يقتصر فيه على السماع).
و اعلم أن الْحَمْدُ لِلَّهِ و إن ابتدأته ففيه معنى المنصوب و هو بدل من اللفظ بقولك أحمد اللّه. و سمعنا ناسا من العرب كثيرا يقولون: التراب لك و العجب لك، فتفسير نصب هذا كتفسيره حيث كان نكرة، كأنك قلت حمدا و عجبا، ثم جئت بلك لتبين من تعني و لم تجعله مبنيا عليه فتبتدئه». انتهى كلام سيبويه باختصار. و إنما جلبناه هنا لأنه أفصح كلام عن أطوار هذا المصدر في كلام العرب و استعمالهم، و هو الذي أشار له صاحب «الكشاف» بقوله: «و أصله النصب بإضمار فعله على أنه من المصادر التي ينصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار كقولهم شكرا، و كفرا، و عجبا، ينزلونها منزلة أفعالها و يسدون بها مسدها، و لذلك لا يستعملونها معها و العدول بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى» إلخ.
و من شأن بلغاء العرب أنهم لا يعدلون عن الأصل إلا و هم يرمون إلى غرض عدلوا لأجله، و العدول عن النصب هنا إلى الرفع ليتأتى لهم الدلالة على الدوام و الثبات بمصير الجملة اسمية؛ و الدلالة على العموم المستفاد في المقام من أل الجنسية، و الدلالة على الاهتمام المستفاد من التقديم. و ليس واحد من هذه الثلاثة بممكن الاستفادة لو بقي المصدر منصوبا إذ النصب يدل على الفعل المقدر و المقدر كالملفوظ فلا تكون الجملة اسمية إذ الاسم فيها نائب عن الفعل فهو ينادي على تقدير الفعل فلا يحصل الدوام. و لأنه لا يصح معه اعتبار التقديم فلا يحصل الاهتمام. و لأنه و إن صح اجتماع الألف و اللام مع النصب كما قرىء بذلك و هي لغة تميم كما قال سيبويه فالتعريف حينئذ لا يكون دالا على عموم المحامد لأنه إن قدر الفعل أحمد بهمزة المتكلم فلا يعم إلا تحميدات المتكلم دون تحميدات جميع الناس، و إن قدر الفعل نحمد و أريد بالنون جميع المؤمنين بقرينة اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ و بقرينة إِيَّاكَ نَعْبُدُ فإنما يعم محامد المؤمنين أو محامد الموحدين كلهم، كيف و قد حمد أهل الكتاب اللّه تعالى و حمده العرب في الجاهلية. قال أمية بن
التحرير و التنوير، ج1، ص: 156
أبي الصلت:
الحمد للّه حمدا لا انقطاع له
فليس إحسانه عنا بمقطوع
أما إذا صار الحمد غير جار على فعل فإنه يصير الإخبار عن جنس الحمد بأنه ثابت للّه فيعم كل حمد كما سيأتي. فهذا معنى ما نقل عن سيبويه أنه قال: إن الذي يرفع الحمد يخبر أنّ الحمد منه و من جميع الخلق و الذي ينصب يخبر أن الحمد منه وحده للّه تعالى.
و اعلم أن قراءة النصب و إن كانت شاذة إلا أنها مجدية هنا لأنها دلت على اعتبار عربي في تطور هذا التركيب المشهور، و أن بعض العرب نطقوا به في حال التعريف و لم ينسوا أصل المفعولية المطلقة. فقد بان أن قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ أبلغ من الْحَمْدُ لِلَّهِ بالنصب، و أنّ الْحَمْدُ لِلَّهِ بالنصب و التعريف أبلغ من حمدا للّه بالتنكير. و إنما كان الْحَمْدُ لِلَّهِ بالرفع أبلغ لأنه دال على الدوام و الثبات. قال في «الكشاف»: «إن العدول عن النصب إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى و استقراره و منه قوله تعالى: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ* [الذاريات: 25] رفع السلام الثاني للدلالة على أن إبراهيم عليه السلام حيّاهم بتحيّة أحسن من تحيّتهم» ا ه.
فإن قلت وقع الاهتمام بالحمد مع أن ذكر اسم اللّه تعالى أهم فكان الشأن تقديم اسم اللّه تعالى و إبقاء الحمد غير مهتم به حتى لا يلجأ إلى تغييره عن النصب إلى الرفع لأجل هذا الاهتمام، قلت قدم الحمد لأن المقام هنا مقام الحمد إذ هو ابتداء أولى النعم بالحمد و هي نعمة تنزيل القرآن الذي فيه نجاح الدارين، فتلك المنة من أكبر ما يحمد اللّه عليه من جلائل صفات الكمال لا سيما و قد اشتمل القرآن على كمال المعنى و اللفظ و الغاية فكان خطوره عند ابتداء سماع إنزاله و ابتداء تلاوته مذكرا بما لمنزّله تعالى من الصفات الجميلة، و ذلك يذكّر بوجوب حمده و أن لا يغفل عنه فكان المقام مقام الحمد لا محالة، فلذلك قدم و أزيل عنه ما يؤذن بتأخره لمنافاته الاهتمام، ثم إن ذلك الاهتمام تأتّى به اعتبار الاهتمام بتقديمه أيضا على ذكر اللّه تعالى اعتدادا بأهمية الحمد العارضة في المقام و إن ذكر اللّه أهمّ في نفسه لأن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لأنها أمر يقتضيه المقام و الحال و الآخر يقتضيه الواقع، و البلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال و المقام، و لأن ما كان الاهتمام به لعارض هو المحتاج للتنبيه على عارضه إذ قد يخفى، بخلاف الأمر المعروف المقرر فلا فائدة في التنبيه عليه بل و لا يفيته التنبيه على غيره.
فإن قلت كيف يصح كون تقديم الحمد و هو مبتدأ مؤذنا بالاهتمام مع أنه الأصل،
التحرير و التنوير، ج1، ص: 157
و شأن التقديم المفيد للاهتمام هو تقديم ما حقه التأخير؟
قلت لو سلم ذلك فإن معنى تقديمه هو قصد المتكلم للإتيان به مقدما مع إمكان الإتيان به مؤخرا؛ لأن للبلغاء صيغتين متعارفتين في حمد اللّه تعالى إحداهما الْحَمْدُ لِلَّهِ كما في الفاتحة و الأخرى فَلِلَّهِ كما في سورة الجاثية [36].
و أما قصد العموم فسيتضح عند بيان معنى التعريف فيه.
و التعريف فيه بالألف و اللام تعريف الجنس لأن المصدر هنا في الأصل عوض عن الفعل فلا جرم أن يكون الدال على الفعل و الساد مسده دالا على الجنس فإذا دخل عليه اللام فهو لتعريف مدلوله لأن اللام تدل على التعريف للمسمى فإذا كان المسمى جنسا فاللام تدل على تعريفه. و معنى تعريف الجنس أن هذا الجنس هو معروف عند السامع فإذا قلت الحمد للّه أو العجب لك فكأنك تريد أن هذا الجنس معروف لديك ولدي مخاطبك لا يلتبس بغيره كما أنك إذا قلت الرجل و أردت معينا في تعريف العهد النحوي فإنك تريد أن هذا الواحد من الناس معروف بينك و بين مخاطبك فهو في المعنى كالنكرة من حيث إن تعريف الجنس ليس معه كبير معنى إذ تعين الجنس من بين بقية الأجناس حاصل بذكر لفظه الدال عليه لغة و هو كاف في عدم الدلالة على غيره، إذ ليس غيره من الأجناس بمشارك له في اللفظ و لا متوهم دخوله معه في ذهن المخاطب بخلاف تعريف العهد الخارجي فإنه يدل على واحد معين بينك و بين مخاطبك من بين بقية أفراد الجنس التي يشملها اللفظ، فلا يفيد هذا التعريف أعني تعريف الجنس إلا توكيد اللفظ و تقريره و إيضاحه للسامع؛ لأنك لما جعلته معهودا فقد دللت على أنه واضح ظاهر، و هذا يقتضي الاعتناء بالجنس و تقريبه من المعروف المشهور، و هذا معنى قول صاحب «الكشاف»: «و هو نحو التعريف في أرسلها العراك «1» و معناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو و العراك ما هو من بين أجناس الأفعال» و هو مأخوذ من كلام سيبويه.
و ليست لام التعريف هنا للاستغراق لما علمت أنها لام الجنس و لذلك قال صاحب
(1) إشارة إلى بيت لبيد:
فأرسلها العراك و لم يذدها
و لم يشفق على نغص الدّخال
يصف حمار وحش. و الضمير المؤنث للأتن، أي أطلقها الحمار أمامه إلى الماء فانطلقت متزاحمة. و النغص: الكمد. و الدخال: دخول الدابة بين الدواب لتشرب.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 158
«الكشاف»: «و الاستغراق الذي توهمه كثير من الناس و هم منهم» غير أن معنى الاستغراق حاصل هنا بالمثال لأن الحكم باختصاص جنس الحمد به تعالى لوجود لام تعريف الجنس في قوله: الْحَمْدُ و لام الاختصاص في قوله: لِلَّهِ يستلزم انحصار أفراد الحمد في التعلق باسم اللّه تعالى لأنه إذا اختص الجنس اختصت الأفراد؛ إذ لو تحقق فرد من أفراد الحمد لغير اللّه تعالى لتحقق الجنس في ضمنه فلا يتم معنى اختصاص الجنس المستفاد من لام الاختصاص الداخلة على اسم الجلالة، ثم هذا الاختصاص اختصاص ادعائي فهو بمنزلة القصر الادعائي للمبالغة.
و اللام في قوله تعالى: لِلَّهِ يجوز أن يكون للاختصاص على أنه اختصاص ادعائي كما مر، و يجوز أن يكون لام التقوية قوت تعلق العامل بالمفعول لضعف العامل بالفرعية و زاده التعريف باللام ضعفا لأنه أبعد شبهه بالأفعال، و لا يفوت معنى الاختصاص لأنه قد استفيد من تعريف الجزأين.
هذا و قد اختلف في أن جملة (الحمد) هل هي خبر أو إنشاء؟ فإن لذلك مزيد تعلق بالتفسير لرجوعه إلى المعنى بقول القائل (الحمد للّه).
و جماع القول في ذلك أن الإنشاء قد يحصل بنقل المركب من الخبرية إلى الإنشاء و ذلك كصيغ العقود مثل بعت و اشتريت، و كذلك أفعال المدح و الذم و الرجاء كعسى و نعم و بئس و هذا الأخير قسمان منه ما استعمل في الإنشاء مع بقاء استعماله في الخبر و منه ما خص بالإنشاء فالأول كصيغ العقود فإنها تستعمل أخبارا تقول بعت الدار لزيد التي أخبرتك بأنه ساومني إياها فهذا خبر، و تقول بعت الدار لزيد أو بعتك الدار بكذا فهذا إنشاء بقرينة أنه جاء للإشهاد أو بقرينة إسناد الخبر للمخاطب مع أن المخبر عنه حال من أحواله، و الثاني كنعم و عسى.
فإذا تقرر هذا فقد اختلف العلماء في أن جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ هل هي إخبار عن ثبوت الْحَمْدُ لِلَّهِ أو هي إنشاء ثناء عليه إلى مذهبين، فذهب فريق إلى أنها خبر، و هؤلاء فريقان منهم من زعم أنها خبر باق على الخبرية و لا إشعار فيه بالإنشائية، و أورد عليه أن المتكلم بها لا يكون حامدا للّه تعالى مع أن القصد أنه يثني و يحمد اللّه تعالى، و أجيب بأن الخبر بثبوت الحمد له تعالى اعتراف بأنه موصوف بالجميل إذ الحمد هو عين الوصف بالجميل، و يكفي أن يحصل هذا الوصف من الناس و ينقله المتكلم. و يمكن أن يجاب أيضا بأن المخبر داخل في عموم خبره عند الجمهور من أهل أصول الفقه. و أجيب أيضا
التحرير و التنوير، ج1، ص: 159
بأن كون المتكلم حامدا قد يحصل بالالتزام من الخبر يريدون أنه لازم عرفي لأن شأن الأمر الذي تضافر عليه الناس قديما أن يقتدي بهم فيه غيرهم من كل من علمه، فإخبار المتكلم بأنه علم ذلك يدل عرفا على أنه مقتد بهم في ذلك هذا وجه اللزوم، و قد خفي على كثير أي فيكون مثل حصول لازم الفائدة من الخبر المقررة في علم المعاني، مثل قولك سهرت الليلة و أنت تريد أنك علمت بسهره، فلا يلزم أن يكون ذلك إنشاء لأن التقدير على هذا القول أن المتكلم يخبر عن كونه حامدا كما يخبر عن كون جميع الناس حامدين فهي خبر لا إنشاء و المستفاد منها بطريق اللزوم معنى إخباري أيضا. و يرد على هذا التقرير أيضا أن حمد المتكلم يصير غير مقصود لذاته بل حاصلا بالتبع مع أن المقام مقام حمد المتكلم لا حمد غيره من الناس، و أجيب بأن المعنى المطابقي قد يؤتى به لأجل المعنى الالتزامي لأنه وسيلة له، و نظيره قولهم طويل النجاد و المراد طول القامة فإن طول النجاد أتى به ليدل على معنى طول القامة.
و ذهب فريق ثان إلى أن جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ هي خبر لا محالة إلا أنه أريد منه الإنشاء مع اعتبار الخبرية كما يراد من الخبر إنشاء التحسر و التحزن في نحو: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمران: 36] و قول جعفر بن علبة الحارثي:
هواي مع الركب اليمانين مصعد
فيكون المقصد الأصلي هو الإنشاء و لكن العدول إلى الإخبار لما يتأتى بواسطة الإخبار من الدلالة على استغراق و الاختصاص و الدوام و الثبات و وجه التلازم بين الإخبار عن حمد الناس و بين إنشاء الحمد واضح مما علمته في وجه التلازم على التقرير الأول، بل هو هنا أظهر لأن المخبر عن حمد الناس للّه تعالى لا جرم أنه منشىء ثناء عليه بذلك، و كون المعنى الالتزامي في الكناية هو المقصود دون المعنى المطابقي أظهر منه في اعتبار الخبرية المحضة لما عهد في الكناية من أنها لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة الأصل معه، فدل على أن المعنى الأصلي إما غير مراد أو مراد تبعا لأن مع تدخل على المتبوع.