کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج1، ص: 189
مجال العقول النيرة و الأفعال الصالحة بحيث لا يعتريهم زيغ و شبهات في دينهم و هذا أولى ليكون الدعاء طلب تحصيل ما ليس بحاصل وقت الطلب و إنّ المرء بحاجة إلى هذه الهداية في جميع شؤونه كلها حتى في الدوام على ما هو متلبس به من الخير للوقاية من التقصير فيه أو الزيغ عنه. و الهداية إلى الإسلام لا تقصر على ابتداء اتباعه و تقلده بل هي مستمرة باستمرار تشريعاته و أحكامه بالنص أو الاستنباط. و به يظهر موقع قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ مصادفا المحز.
[7] صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ (7).
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ .
بدل أو عطف بيان من الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، و إنما جاء نظم الآية بأسلوب الإبدال أو البيان دون أن يقال: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم المستقيم، لفائدتين: الأولى: أن المقصود من الطلب ابتداء هو كون المهدى إليه وسيلة للنجاة واضحة سمحة سهلة، و أما كونها سبيل الذين أنعم اللّه عليهم فأمر زائد لبيان فضله. الفائدة الثانية: ما في أسلوب الإبدال من الإجمال المعقب بالتفصيل ليتمكن معنى الصراط للمطلوب فضل تمكن في نفوس المؤمنين الذين لقنوا هذا الدعاء فيكون له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي، و أيضا لما في هذا الأسلوب من تقرير حقيقة هذا الصراط و تحقيق مفهومه في نفوسهم فيحصل مفهومه مرتين فيحصل له من الفائدة ما يحصل بالتوكيد اللفظي و اعتبار البدلية مساو لاعتباره عطف بيان لا مزية لأحدهما على الآخر خلافا لمن حاول التفاضل بينهما، إذ التحقيق عندي أن عطف البيان اسم لنوع من البدل و هو البدل المطابق و هو الذي لم يفصح أحد من النحاة على تفرقة معنوية بينهما و لا شاهدا يعين المصير إلى أحدهما دون الآخر.
قال في «الكشاف»: «فإن قلت ما فائدة البدل؟ قلت فائدته التوكيد لما فيه من التثنية و التكرير» ا ه فأفهم كلامه أن فائدة الإبدال أمران يرجعان إلى التوكيد و هما ما فيه من التثنية أي تكرار لفظ البدل و لفظ المبدل منه و عنى بالتكرير ما يفيده البدل عند النحاة من تكرير العامل و هو الذي مهد له في صدر كلامه بقوله: «و هو في حكم تكرير العامل كأنه قيل: اهدنا الصراط المستقيم اهدنا صراط الذين، و سماه تكريرا لأنه إعادة للفظ بعينه،
التحرير و التنوير، ج1، ص: 190
بخلاف إعادة لفظ المبدل منه فإنه إعادة له بما يتحد مع ما صدقه فلذلك عبر بالتكرير و بالتثنية، و مراده أن مثل هذا البدل و هو الذي فيه إعادة لفظ المبدل منه يفيد فائدة البدل و فائدة التوكيد اللفظي، و قد علمت أن الجمع بين الأمرين لا يتأتى على وجه معتبر عند البلغاء إلا بهذا الصوغ البديع.
و إن إعادة الاسم في البدل أو البيان ليبنى عليه ما يراد تعلقه بالاسم الأول أسلوب بهيج من الكلام البليغ لإشعار إعادة اللفظ بأن مدلوله بمحلّ العناية و أنه حبيب إلى النفس، و مثله تكرير الفعل كقوله تعالى: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان: 72] و قوله: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [القصص: 63] فإن إعادة فعل مَرُّوا و فعل أَغْوَيْناهُمْ و تعليق المتعلّق بالفعل المعاد دون الفعل الأول تجد له من الروعة و البهجة ما لا تجده لتعليقه بالفعل الأول دون إعادة، و ليست الإعادة في مثله لمجرد التأكيد لأنه قد زيد عليه ما تعلق به. قال ابن جني في «شرح مشكل الحماسة» عند قول الأحوص:
فإذا تزول تزول عن متخمّط
تخشى بوادره على الأقران
محال أن تقول إذا قمت قمت و إذا أقعد أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول و إنما جاز أن يقول فإذا تزول تزول لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفادة منه الفائدة، و مثله قول اللّه تعالى: هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا و قد كان أبو علي (يعني الفارسي) امتنع في هذه الآية مما أخذناه ا ه.
قلت و لم يتضح توجيه امتناع أبي علي فلعله امتنع من اعتبار أَغْوَيْناهُمْ بدلا من أَغْوَيْنا و جعله استئنافا و إن كان المآل واحدا. و في استحضار المنعم عليهم بطريق الموصول، و إسناد فعل الإنعام عليهم إلى ضمير الجلالة، تنويه بشأنهم خلافا لغيرهم من المغضوب عليهم و الضالين.
ثم إن في اختيار وصف الصراط المستقيم بأنه صراط الذين أنعمت عليهم دون بقية أوصافه تمهيدا لبساط الإجابة فإن الكريم إذا قلت له أعطني كما أعطيت فلانا كان ذلك أنشط لكرمه، كما قرره الشيخ الجد قدس اللّه سره
في قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «كما صليت على إبراهيم»
، فيقول السائلون: اهدنا الصراط المستقيم الصراط الذين هديت إليه عبيد نعمك مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن يكونوا لا حقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم، و تهمما بالاقتداء بهم في الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات، قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: 6]، و توطئة لما سيأتي بعد من التبري
التحرير و التنوير، ج1، ص: 191
من أحوال المغضوب عليهم و الضالين فتضمن ذلك تفاؤلا و تعوذا.
و النعمة- بالكسر و بالفتح- مشتقة من النعيم و هو راحة العيش و ملائم الإنسان و الترفه، و الفعل كسمع و نصر و ضرب. و النعمة الحالة الحسنة لأن بناء الفعلة بالكسر للهيئات و متعلق النعمة اللذات الحسية ثم استعملت في اللذات المعنوية العائدة بالنفع و لو لم يحس بها صاحبها. فالمراد من النعمة في قوله: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ النعمة التي لم يشبها ما يكدرها و لا تكون عاقبتها سوأى، فهي شاملة لخيرات الدنيا الخالصة من العواقب السيئة و لخيرات الآخرة، و هي الأهم، فيشمل النعم الدنيوية الموهوبيّ منها و الكسبيّ، و الرّوحانيّ و الجثماني، و يشمل النعم الأخروية. و النعمة بهذا المعنى يرجع معظمها إلى الهداية، فإن الهداية إلى الكسبي من الدنيويّ و إلى الأخرويّ كلّه ظاهرة فيها حقيقة الهداية، و لأن الموهوب في الدنيا و إن كان حاصلا بلا كسب إلا أن الهداية تتعلق بحسن استعماله فيما وهب لأجله.
فالمراد من المنعم عليهم الذين أفيضت عليهم النعم الكاملة و لا تخفى تمام المناسبة بين المنعم عليهم و بين المهديين حينئذ فيكون في إبدال صِراطَ الَّذِينَ من الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ معنى بديع و هو أن الهداية نعمة و أن المنعم عليهم بالنعمة الكاملة قد هدوا إلى الصراط المستقيم. و الذين أنعم اللّه عليهم هم خيار الأمم السابقة من الرسل و الأنبياء الذين حصلت لهم النعمة الكاملة. و إنما يلتئم كون المسئول طريق المنعم عليهم فيما مضى و كونه هو دين الإسلام الذي جاء من بعد باعتبار أن الصراط المستقيم جار على سنن الشرائع الحقة في أصول الديانة و فروع الهداية و التقوى، فسألوا دينا قويما يكون في استقامته كصراط المنعم عليهم فأجيبوا بدين الإسلام، و قد جمع استقامة الأديان الماضية و زاد عليها، أو المراد من المنعم عليهم الأنبياء و الرسل فإنهم كانوا على حالة أكمل مما كان عليه أممهم، و لذلك وصف اللّه كثيرا من الرسل الماضين بوصف الإسلام و قد قال يعقوب لأبنائه: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة: 132] ذلك أن اللّه تعالى رفق بالأمم فلم يبلغ بهم غاية المراد من الناس لعدم تأهلهم للاضطلاع بذلك و لكنه أمر المرسلين بأكمل الحالات و هي مراده تعالى من الخلق في الغاية، و لنمثل لذلك بشرب الخمر فقد كان القدر غير المسكر منه مباحا و إنما يحرم السّكر أو لا يحرم أصلا غير أن الأنبياء لم يكونوا يتعاطون القليل من المسكرات و هو المقدار الذي هدى اللّه إليه هذه الأمة كلها، فسواء فسرنا المنعم عليهم بالأنبياء أو بأفضل أتباعهم أو المسلمين السابقين فالمقصد
التحرير و التنوير، ج1، ص: 192
الهداية إلى صراط كامل و يكون هذا الدعاء محمولا في كل زمان على ما يناسب طرق الهداية التي سبقت زمانه و التي لم يبلغ إلى نهايتها.
و القول في المطلوب من اهْدِنَا على هذه التقادير كلها كالقول فيما تقدم من كون اهْدِنَا لطلب الحصول أو الزيادة أو الدوام.
و الدعاء مبني على عدم الاعتداد بالنعمة غير الخالصة، فإن نعم اللّه على عباده كلهم كثيرة و الكافر منعم عليه بما لا يمترى في ذلك و لكنها نعم تحفها آلام الفكرة في سوء العاقبة و يعقبها عذاب الآخرة، فالخلاف المفروض بين بعض العلماء في أن الكافر هل هو منعم عليه خلاف لا طائل تحته فلا فائدة في التطويل بظواهر أدلة الفريقين.
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ .
كلمة غير مجرورة باتفاق القراء العشرة، و هي صفة للذين أنعمت عليهم، أو بدل منه و الوصف و البدلية سواء في المقصود، و إنما قدم في «الكشاف» بيان وجه البدلية لاختصار الكلام عليها ليفضي إلى الكلام على الوصفية، فيورد عليها كيفية صحة توصيف المعرفة بكلمة (غير) التي لا تتعرف، و إلا فإن جعل غَيْرِ الْمَغْضُوبِ صفة للذين هو الوجه و كذلك أعربه سيبويه فيما نقل عنه أبو حيان و وجهه بأن البدل بالوصف ضعيف إذ الشأن أن البدل هو عين المبدل منه أي اسم ذات له، يريد أن معنى التوصيف في غَيْرِ أغلب من معنى ذات أخرى ليست السابقة، و هو وقوف عند حدود العبارات الاصطلاحية حتى احتاج صاحب «الكشاف» إلى تأويل غَيْرِ الْمَغْضُوبِ بالذين سلموا من الغضب، و أنا لا أظن الزمخشري أراد تأويل غير بل أراد بيان المعنى. و إنما صح وقوع (غير) صفة للمعرفة مع قولهم إن غير لتوغلها في الإبهام لا تفيدها الإضافة تعريفا أي فلا يكون في الوصف بها فائدة التمييز فلا توصف بها المعرفة لأن الصفة يلزم أن تكون أشهر من الموصوف، فغير و إن كانت مضافة للمعرفة إلا أنها لما تضمنه معناها من الإبهام انعدمت معها فائدة التعريف، إذ كل شيء سوى المضاف إليه هو غير، فماذا يستفاد من الوصف في قولك مررت بزيد غير عمرو، فالتوصيف هنا إما باعتبار كون الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ليس مرادا به فريق معين فكان وزان تعريفه بالصلة وزان المعرف بأل الجنسية المسماة عند علماء المعاني بلام العهد الذهني، فكان في المعنى كالنكرة و إن كان لفظه لفظ المعرفة فلذلك عرف بمثله لفظا و معنى، و هو غَيْرِ الْمَغْضُوبِ الذي هو في صورة المعرفة لإضافته لمعرفة و هو في المعنى كالنكرة لعدم إرادة شيء معين، و إما باعتبار تعريف غير في مثل
التحرير و التنوير، ج1، ص: 193
هذا لأن غير إذا أريد بها نفي ضد الموصوف أي مساوي نقيضه صارت معرفة، لأن الشيء يتعرف بنفي ضده نحو عليك بالحركة غير السكون، فلما كان من أنعم عليه لا يعاقب كان المعاقب هو المغضوب عليه، هكذا نقل ابن هشام عن ابن السراج و السيرافي و هو الذي اختاره ابن الحاجب في أماليه على قوله تعالى: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النساء: 95] و نقل عن سيبوبه أن غيرا إنما لم تتعرف لأنها بمعنى المغاير فهي كاسم الفاعل و ألحق بها مثلا و سوى و حسب و قال: إنها تتعرف إذا قصد بإضافتها الثبوت. و كأن مآل المذهبين واحد لأن غيرا إذا أضيفت إلى ضد موصوفها و هو ضد واحد أي إلى مساوي نقيضه تعينت له الغيرية فصارت صفة ثابتة له غير منتقلة، إذ غيرية الشيء لنقيضه ثابتة له أبدا فقولك عليك بالحركة غير السكون هو غير قولك مررت بزيد غير عمرو و قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ من النوع الأول.
و من غرض وصف الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بأنهم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ التعوذ مما عرض لأمم أنعم اللّه عليهم بالهداية إلى صراط الخير بحسب زمانهم بدعوة الرسل إلى الحق فتقلدوها ثم طرأ عليهم سوء الفهم فيها فغيروها و ما رعوها حق رعايتها، و التبرّؤ من أن يكونوا مثلهم في بطر النعمة و سوء الامتثال و فساد التأويل و تغليب الشهوات الدنيوية على إقامة الدين حتى حق عليهم غضب اللّه تعالى، و كذا التبرؤ من حال الذين هدوا إلى صراط مستقيم فما صرفوا عنايتهم للحفاظ على السير فيه باستقامة، فأصبحوا من الضالين بعد الهداية إذ أساءوا صفة العلم بالنعمة فانقلبت هدايتهم ضلالا.
و الظاهر أنهم لم يحق عليهم غضب اللّه قبل الإسلام لأنهم ضلوا عن غير تعمد فلم يسبق غضب اللّه عليهم قديما و اليهود من جملة الفريق الأول، و النصارى من جملة الفريق الثاني كما يعلم من الاطلاع على تاريخ ظهور الدينين فيهم. و ليس يلزم اختصاص أول الوصفين باليهود و الثاني بالنصارى فإن في الأمم أمثالهم و هذا الوجه في التفسير هو الذي يستقيم معه مقام الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم و لو كان المرادين اليهودية و دين النصرانية لكان الدعاء تحصيلا للحاصل فإن الإسلام جاء ناسخا لهما.
و يشمل المغضوب عليهم و الضالون فرق الكفر و الفسوق و العصيان، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك و استخفت بالديانة عن عمد أو عن تأويل بعيد جدا، و الضالون جنس للفرق التي أخطأت الدين عن سوء فهم و قلة إصغاء؛ و كلا الفريقين مذموم لأننا مأمورون باتباع سبيل الحق و صرف الجهد إلى إصابته، و اليهود من الفريق الأول
التحرير و التنوير، ج1، ص: 194
و النصارى من الفريق الثاني. و ما ورد في الأثر مما ظاهره تفسير المغضوب عليهم باليهود و الضالين بالنصارى فهو إشارة إلى أن في الآية تعريضا بهذين الفريقين اللذين حق عليهما هذان الوصفان لأن كلا منهما صار علما فيما أريد التعريض به فيه. و قد تبين لك من هذا أن عطف وَ لَا الضَّالِّينَ على غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ارتقاء في التعوذ من شر سوء العاقبة لأن التعوذ من الضلال الذي جلب لأصحابه غضب اللّه لا يغني عن التعوذ من الضلال الذي لم يبلغ بأصحابه تلك الدركات و ذلك وجه تقديم الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ على وَ لَا الضَّالِّينَ ، لأن الدعاء كان بسؤال النفي، فالتدرج فيه يحصل بنفي الأضعف بعد نفي الأقوى، مع رعاية الفواصل.
و الغضب المتعلق بالمغضوب عليهم هو غضب اللّه. و حقيقة الغضب المعروف في الناس أنه كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح إلى الخارج و ثورانها فتطلب الانتقام، فالكيفية سبب لطلب الانتقام و طلب الانتقام سبب لحصول الانتقام. و الذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه و لكنها قد تكون من آثاره، و أن الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه و كراهية فاعله، و يلازمه الإعراض عن المغضوب عليه و معاملته بالعنف و بقطع الإحسان و بالأذى و قد يفضى ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات و اختلاف العادات في اعتبار أسبابه، فلعل الذين جعلوا إرادة الانتقام لازمة للغضب بنوا على القوانين العربية.
و إذ كانت حقيقة الغضب يستحيل اتصاف اللّه تعالى بها و إسنادها إليه على الحقيقة للأدلة القطعية الدالة على تنزيه اللّه تعالى عن التغيرات الذاتية و العرضية، فقد وجب على المؤمن صرف إسناد الغضب إلى اللّه عن معناه الحقيقي، و طريقة أهل العلم و النظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه فالذي يكون صفة للّه من معنى الغضب هو لازمه، أعني العقاب و الإهانة يوم الجزاء و اللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين و الصلاح في الدنيا أو هو من قبيل التمثيلية.
و كان السلف في القرن الأول و منتصف القرن الثاني يمسكون عن تأويل هذه المتشابهات لما رأوا في ذلك الإمساك من مصلحة الاشتغال بإقامة الأعمال التي هي مراد الشرع من الناس فلما نشأ النظر في العلم و طلب معرفة حقائق الأشياء و حدث قول الناس في معاني الدين بما لا يلائم الحق، لم يجد أهل العلم بدا من توسيع أساليب التأويل
التحرير و التنوير، ج1، ص: 195
الصحيح لإفهام المسلم و كبت الملحد، فقام الدين بصنيعهم على قواعده، و تميز المخلص له عن ماكره و جاحده. و كلّ فيما صنعوا على هدى. و بعد البيان لا يرجع إلى الإجمال أبدا. و ما تأوّلوه إلا بما هو معروف في لسان العرب مفهوم لأهله.
فغضب اللّه تعالى على العموم يرجع إلى معاملته الحائدين عن هديه العاصين لأوامره و يترتب عليه الانتقام و هو مراتب أقصاها عقاب المشركين و المنافقين بالخلود في الدرك الأسفل من النار و دون الغضب الكراهية فقد
ورد في الحديث: «و يكره لكم قيل و قال و كثرة السؤال»
، و يقابلهما الرضى و المحبة و كل ذلك غير المشيئة و الإرادة بمعنى التقدير و التكوين، وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7] وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ [الأنعام: 112] وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس: 99] و تفصيل هذه الجملة في علم الكلام.
و اعلم أن الغضب عند حكماء الأخلاق مبدأ من مجموع الأخلاق الثلاثة الأصلية التي يعبر عن جميعها بالعدالة و هي: الحكمة و العفة و الشجاعة، فالغضب مبدأ الشجاعة إلا أن الغضب يعبر به عن مبدأ نفساني لأخلاق كثيرة متطرفة و معتدلة فيلقّبون بالقوة الغضبية ما في الإنسان من صفات السّبعية و هي حب الغلبة و من فوائدها دفع ما يضره و لها حد اعتدال و حد انحراف فاعتدالها الشجاعة و كبر الهمة، و ثبات القلب في المخاوف، و انحرافها إما بالزيادة فهي التهور و شدة الغضب من شيء قليل و الكبر و العجب و الشراسة و الحقد و الحسد و القساوة، أو بالنقصان فالجبن و خور النفس و صغر الهمة فإذا أطلق الغضب لغة انصرف إلى بعض انحراف الغضبية، و لذلك كان من جوامع
كلم النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم: «أن رجلا قال له أوصني قال: لا تغضب فكرّر مرارا فقال: لا تغضب» رواه الترمذي.
و سئل بعض ملوك الفرس بم دام ملككم؟ فقال: لأنا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب. فالغضب المنهي عنه هو الغضب للنّفس لأنه يصدر عنه الظلم و العدوان، و من الغضب محمود و هو الغضب لحماية المصالح العامة و خصوصا الدينية و قد ورد أن النبيء كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمة من حرمات اللّه غضب للّه.