کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج1، ص: 384
عليه أيضا قول بعض شعراء عبد القيس أو غيره:
و لست لإنسيّ و لكن لملأك
تنزّل من جوّ السّماء يصوّب «1»
ثم قالوا ملك تخفيفا.
و قد اختلفوا في اشتقاقه فقال أبو عبيدة هو مفعل من لأك بمعنى أرسل و منه قولهم في الأمر بتبليغ رسالة ألكني إليه أي كن رسولي إليه و أصل ألكني ألإكني و إن لم يعرف له فعل. و إنما اشتق اسم الملك من الإرسال لأن الملائكة رسل اللّه إما بتبليغ أو تكوين كما
في الحديث: «ثم يرسل إليه (أي للجنين في بطن أمه) الملك فينفخ فيه الروح»
، فعلى هذا القول هو مصدر ميمي بمعنى اسم المفعول، و قال الكسائي هو مقلوب و وزنه الآن معفل و أصله مألك من الألوك و الألوكة و هي الرسالة و يقال مألك و مألكة (بفتح اللام و ضمها) فقلبوا فيه قلبا مكانيا فقالوا ملأك فهو صفة مشبهة. و قال ابن كيسان هو مشتق من الملك (بفتح الميم و سكون اللام) و الملك بمعنى القوة قال تعالى: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ [التحريم: 6] و الهمزة مزيدة فوزنه فعأل بسكون العين و فتح الهمزة كشمأل، ورد بأن دعوى زيادة حرف بلا فائدة دعوى بعيدة، ورد مذهب الكسائي بأن القلب خلاف الأصل، فرجح مذهب أبي عبيدة، و نقل القرطبي عن النضر بن شميل أنه قال لا اشتقاق للملك عند العرب يريد أنهم عرّبوه من اللغة العبرانية و يؤيده أن التوراة سمت الملك ملاكا بالتخفيف، و ليس وجود كلمة متقاربة اللفظ و المعنى في لغتين بدال على أنها منقولة من إحداهما إلى الأخرى إلا بأدلة أخرى.
و الملائكة مخلوقات نورانية سماوية مجبولة على الخير قادرة على التشكل في خرق العادة لأن النور قابل للتشكل في كيفيات و لأن أجزاءه لا تتزاحم و نورها لا شعاع له فلذلك لا تضىء إذا اتصلت بالعالم الأرضي و إنما تتشكل إذا أراد اللّه أن يظهر بعضهم لبعض رسله و أنبيائه على وجه خرق العادة. و قد جعل اللّه تعالى لها قوة التوجه إلى الأشياء التي يريد اللّه تكوينها فتتولى التدبير لها و لهذه التوجهات الملكية حيثيات و مراتب كثيرة تتعذر الإحاطة بها و هي مضادة لتوجهات الشياطين، فالخواطر الخيرية من توجهات
(1) قال أبو عبيدة البيت لشاعر جاهلي من عبد القيس يمدح بعض الملوك كما في «الصحاح»، و قيل:
الممدوح النعمان، و قال ابن السيرافي: البيت لأبي و جزة يمدح عبد اللّه بن الزبير. قلت ذكر ابن السيرافي في «شرح أبيات صلاح المنطق» القولين و لم يقتصر على ما نسبه إليه «شارح القاموس»، و أنشده الكسائي لعلقمة بن عبدة يمدح الحارث بن جبلة بن أبي شمر.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 385
الملائكة و علاقتها بالنفوس البشرية و بعكسها خواطر الشر.
و الخليفة في الأصل الذي يخلف غيره أو يكون بدلا عنه في عمل يعمله، فهو فعيل بمعنى فاعل و التاء فيه للمبالغة في الوصف كالعلّامة. و المراد من الخليفة هنا إما المعنى المجازي و هو الذي يتولى عملا يريده المستخلف مثل الوكيل و الوصي، أي جاعل في الأرض مدبرا يعمل ما نريده في الأرض فهو استعارة أو مجاز مرسل و ليس بحقيقة لأن اللّه تعالى لم يكن حالا في الأرض و لا عاملا فيها العمل الذي أودعه في الإنسان و هو السلطنة على موجودات الأرض، و لأن اللّه تعالى لم يترك عملا كان يعمله فوكله إلى الإنسان بل التدبير الأعظم لم يزل للّه تعالى فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي استطاع بما أودع اللّه في خلقته أن يتصرف في مخلوقات الأرض بوجوه عظيمة لا تنتهي خلاف غيره من الحيوان، و إما أن يراد من الخليفة معناه الحقيقي إذا صح أن الأرض كانت معمورة من قبل بطائفة من المخلوقات يسمّون الحن و البن- بحاء مهملة مكسورة و نون في الأول، و بموحدة مكسورة و نون في الثاني- و قيل اسمهم الطّم و الرّم- بفتح أولهما-، و أحسبه من المزاعم، و أن وضع هذين الاسمين من باب قول الناس: هيّان بن بيّان إشارة إلى غير موجود أو غير معروف. و لعل هذا أنجز لأهل القصص من خرافات الفرس أو اليونان فإن الفرس زعموا أنه كان قبل الإنسان في الأرض جنس اسمه الطّم و الرّم كان اليونان يعتقدون أن الأرض كانت معمورة بمخلوقات تدعى التيتان و أن زفس و هو المشتري كبير الأرباب في اعتقادهم جلاهم من الأرض لفسادهم. و كل هذا ينافيه سياق الآية فإن تعقيب ذكر خلق الأرض ثم السماوات بذكر إرادته تعالى جعل الخليفة دليل على أن جعل الخليفة كان أول الأحوال على الأرض بعد خلقها فالخليفة هنا الذي يخلف صاحب الشيء في التصرف في مملوكاته و لا يلزم أن يكون المخلوف مستقرا في المكان من قبل، فالخليفة آدم و خلفيّته قيامه بتنفيذ مراد اللّه تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي و تلقين ذريته مراد اللّه تعالى من هذا العالم الأرضي، و مما يشمله هذا التصرف تصرف آدم بسن النظام لأهله و أهاليهم على حسب و فرة عددهم و اتساع تصرفاتهم، فكانت الآية من هذا الوجه إيماء إلى حاجة البشر إلى إقامة خليفة لتنفيذ الفصل بين الناس في منازعاتهم إذ لا يستقيم نظام يجمع البشر بدون ذلك، و قد بعث اللّه الرسل و بين الشرائع فربما اجتمعت الرسالة و الخلافة و ربما انفصلتا بحسب ما أراد اللّه من شرائعه إلى أن جاء الإسلام فجمع الرسالة و الخلافة لأن دين الإسلام غاية مراد اللّه تعالى من الشرائع و هو الشريعة الخاتمة و لأن امتزاج الدين و الملك هو أكمل مظاهر الخطتين قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ
التحرير و التنوير، ج1، ص: 386
إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64] و لهذا أجمع أصحاب رسول اللّه بعد وفاة النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم على إقامة الخليفة لحفظ نظام الأمة و تنفيذ الشريعة و لم ينازع في ذلك أحد من الخاصة و لا من العامة إلا الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، من جفاة الأعراب و دعاة الفتنة فالمناظرة مع أمثالهم سدّى.
و للخليفة شروط محل بيانها كتب الفقه و الكلام، و ستجيء مناسبتها في آيات آتية.
و الظاهر أن خطابه تعالى هذا للملائكة كان عند إتمام خلق آدم عند نفخ الروح فيه أو قبل النفخ و الأول أظهر، فيكون المراد بالمخبر عن جعله خليفة هو ذلك المخلوق كما يقول الذي كتب كتابا بحضرة جليس إني مرسل كتابا إلى فلان فإن السامع يعلم أن المراد أن ذلك الذي هو بصدد كتابته كتاب لفلان، و يجوز أن يكون خطابهم بذلك قبل خلق آدم، و على الوجوه كلها يكون اسم الفاعل في قوله: جاعِلٌ للزمن المستقبل لأن وصف الخليفة لم يكن ثابتا لآدم ساعتئذ.
و قول اللّه هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه يزيل ما علم اللّه أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس، و ليكون كالاستشارة لهم تكريما لهم فيكون تعليما في قالب تكريم مثل إلقاء المعلم فائدة للتلميذ في صورة سؤال و جواب و ليسنّ الاستشارة في الأمور، و لتنبيه الملائكة على ما دقّ و خفي من حكمة خلق آدم كذا ذكر المفسرون.
و عندي أن هاته الاستشارة جعلت لتكون حقيقة مقارنة في الوجود لخلق أول البشر حتى تكون ناموسا أشربته نفوس ذريته لأن مقارنة شيء من الأحوال و المعاني لتكوين شيء ما، تؤثر تآلفا بين ذلك الكائن و بين المقارن. و لعل هذا الاقتران يقوم في المعاني التي لا توجد إلا تبعا لذوات مقام أمر التكوين في الذوات فكما أن أمره إذا أراد شيئا أي إنشاء ذات أن يقول له كن فيكون، كذلك أمره إذا أراد اقتران معنى بذات أو جنس أن يقدر حصول مبدأ ذلك المعنى عند تكوين أصل ذلك الجنس أو عند تكوين الذات، ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يكون قبول العلم من خصائص الإنسان علّم آدم الأسماء عند ما خلقه.
و هذا هو وجه مشروعية تسمية اللّه تعالى عند الشروع في الأفعال ليكون اقتران ابتدائها بلفظ اسمه تعالى مفيضا للبركة على جميع أجزاء ذلك الفعل، و لهذا أيضا طلبت منا الشريعة تخيّر أكمل الحالات و أفضل الأوقات للشروع في فضائل الأعمال و مهمات المطالب، و تقدم هذا في الكلام على البسملة، و سنذكر ما يتعلق بالشورى عند قوله
التحرير و التنوير، ج1، ص: 387
تعالى: وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ في سورة آل عمران [159].
و أسندت حكاية هذا القول إلى اللّه سبحانه بعنوان الرب لأنه قول منبىء عن تدبير عظيم في جعل الخليفة في الأرض، ففي ذلك الجعل نعمة تدبير مشوب بلطف و صلاح و ذلك من معاني الربوبية كما تقدم في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2]، و لما كانت هذه النعمة شاملة لجميع النوع أضيف وصف الرب إلى ضمير أشرف أفراد النوع و هو النبيء محمد صلّى اللّه عليه و سلّم مع تكريمه بشرف حضور المخاطبة.
قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ .
هذا جواب الملائكة عن قول اللّه لهم: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فالتقدير فقالوا على وزان قوله: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [البقرة: 34] و فصل الجواب و لم يعطف بالفاء أو الواو جريا به على طريقة متبعة في القرآن في حكاية المحاورات و هي طريقة عربية قال زهير:
قيل لهم ألا اركبوا ألاتا
قالوا جميعا كلهم آلافا
أي فاركبوا و لم يقل فقالوا. و قال رؤبة بن العجاج:
قالت بنات العم يا سلمى و إن
كان فقيرا معدما قالت و إن
و إنما حذفوا العاطف في أمثاله كراهية تكرير العاطف بتكرير أفعال القول فإن المحاورة تقتضي الإعادة في الغالب فطردوا الباب فحذفوا العاطف في الجميع و هو كثير في التنزيل و ربما عطفوا ذلك بالفاء لنكتة تقتضي مخالفة الاستعمال و إن كان العطف بالفاء هو الظاهر و الأصل، و هذا مما لم أسبق إلى كشفه من أساليب الاستعمال العربي.
و مما عطف بالفاء قوله تعالى: فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ فَقالَ الْمَلَأُ في سورة المؤمنين [23، 24] و قد يعطف بالواو أيضا كما في قوله:
فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إلخ في سورة المؤمنون [32، 33] و ذلك إذا لم يكن المقصود حكاية التحاور بل قصد الإخبار عن أقوال جرت أو كانت الأقوال المحكية ممّا جرى في أوقات متفرّقة أو أمكنة متفرّقة. و يظهر ذلك لك في قوله تعالى: قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [غافر: 25] إلى قوله: وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى [26] ثم قال تعالى: وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ [27] ثم قال: وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [28]
التحرير و التنوير، ج1، ص: 388
الآية في سورة غافر، و ليس قوله: قالُوا أَ تَجْعَلُ جوابا لإذ عاملا فيها لما قدمناه آنفا من أنه يفضي إلى أن يكون قولهم: أَ تَجْعَلُ فِيها هو المقصود من القصة و أن تصير جملة (إذ) تابعة له إذ الظرف تابع للمظروف.
و الاستفهام المحكي عن كلام الملائكة محمول على حقيقته مضمن معنى التعجب و الاستبعاد من أن تتعلق الحكمة بذلك فدلالة الاستفهام على ذلك هنا بطريق الكناية مع تطلب ما يزيل إنكارهم و استبعادهم فلذلك تعين بقاء الاستفهام على حقيقته خلافا لمن توهم الاستفهام هنا لمجرد التعجب، و الذي أقدم الملائكة على هذا السؤال أنهم علموا أن اللّه لما أخبرهم أراد منهم إظهار علمهم تجاه هذا الخبر لأنهم مفطورون على الصدق و النزاهة من كل مؤاربة فلما نشأ ذلك في نفوسهم أفصحت عنه دلالة تدل عليه يعلمها اللّه تعالى من أحوالهم لا سيما إذا كان من تمام الاستشارة أن يبدي المستشار ما يراه نصحا و
في الحديث: «المستشار مؤتمن و هو بالخيار ما لم يتكلم»
يعني إذا تكلم فعليه أداء أمانة النصيحة.
و عبر بالموصول وصلته للإيماء إلى وجه بناء الكلام و هو الاستفهام و التعجب لأن من كان من شأنه الفساد و السفك لا يصلح للتعمير لأنه إذا عمر نقض ما عمره. و عطف سفك الدماء على الإفساد للاهتمام به. و تكرير ضمير (الأرض) للاهتمام بها و التذكير بشأن عمرانها و حفظ نظامها ليكون ذلك أدخل في التعجب من استخلاف آدم و في صرف إرادة اللّه تعالى عن ذلك إن كان في الاستشارة ائتمار.
و الإفساد تقدم في قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة: 12].
و السفك الإراقة و قد غلب في كلامهم تعديته إلى الدماء و أما إراقة غير الدم فهي سفح بالحاء. و في المجيء بالصلة جملة فعلية دلالة على توقع أن يتكرر الإفساد و السفك من هذا المخلوق و إنما ظنوا هذا الظن بهذا المخلوق من جهة ما استشعروه من صفات هذا المخلوق المستخلف بإدراكهم النوراني لهيئة تكوينه الجسدية و العقلية و النطقية إما بوصف اللّه لهم هذا الخليفة أو برؤيتهم صورة تركيبه قبل نفخ الروح فيه و بعده، و الأظهر أنهم رأوه بعد نفخ الروح فيه فعلموا أنه تركيب يستطيع صاحبه أن يخرج عن الجبلة إلى الاكتساب و عن الامتثال إلى العصيان فإن العقل يشتمل على شاهية و غاضبة و عاقلة و من مجموعها و مجموع بعضها تحصل تراكيب من التفكير نافعة و ضارة، ثم إن القدرة التي في الجوارح تستطيع تنفيذ كل ما يخطر للعقل و قواه أن يفعله ثم إن النطق يستطيع إظهار
التحرير و التنوير، ج1، ص: 389
خلاف الواقع و ترويج الباطل، فيكون من أحوال ذلك فساد كبير و من أحواله أيضا صلاح عظيم و إن طبيعة استخدام ذي القوة لقواه قاضية بأنه سيأتي بكل ما تصلح له هذه القوى خيرها و شرها فيحصل فعل مختلط من صالح و سيء، و مجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل عليه من عجائب الصفات على نحو ما سيظهر منها في الخارج لأن مداركهم غاية في السمو لسلامتها من كدرات المادة، و إذا كان أفراد البشر يتفاوتون في الشعور بالخفيات، و في توجه نورانية النفوس إلى المعلومات، و في التوسم و التفرس في الذوات بمقدار تفاوتهم في صفات النفس جبلية و اكتسابية و لدنية التي أعلاها النبوة، فما ظنك بالنفوس الملكية البحتة؟
و في هذا ما يغنيك عما تكلف له بعض المفسرين من وجه اطلاع الملائكة على صفات الإنسان قبل بدوها منه من توقيف و اطلاع على ما في اللوح أي علم اللّه، أو قياس على أمة تقدمت و انقرضت، أو قياس على الوحوش المفترسة إذ كانت قد وجدت على الأرض قبل خلق آدم كما في سفر التكوين من التوراة. و به أيضا تعلم أن حكم الملائكة هذا على ما يتوقع هذا الخلق من البشر لم يلاحظ فيه واحد دون آخر، لأنه حكم عليهم قبل صدور الأفعال منهم و إنما هو حكم بما يصلحون له بالقوة، فلا يدل ذلك على أن حكمهم هذا على بني آدم دون آدم حيث لم يفسد، لأن في هذا القول غفلة عما ذكرناه من البيان.
و أوثر التعبير بالفعل المضارع في قوله: مَنْ يُفْسِدُ وَ يَسْفِكُ لأن المضارع يدل على التجدد و الحدوث دون الدوام أي من يحصل منه الفساد تارة و سفك الدماء تارة لأن الفساد و السفك ليسا بمستمرين من البشر.
و قولهم: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها دليل على أنهم علموا أن مراد اللّه من خلق الأرض هو صلاحها و انتظام أمرها و إلا لما كان للاستفهام المشوب بالتعجب موقع و هم علموا مراد اللّه ذلك من تلقيهم عنه سبحانه أو من مقتضى حقيقة الخلافة أو من قرائن أحوال الاعتناء بخلق الأرض و ما عليها على نظم تقتضي إرادة بقائها إلى أمد، و قد دلت آيات كثيرة على أن إصلاح العالم مقصد للشارع قال تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ [محمد: 22، 23] و قال:
وَ إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ [البقرة: 205].
التحرير و التنوير، ج1، ص: 390
و لا يرد هنا أن هذا القول غيبة و هم منزهون عنها لأن ذلك العالم ليس عالم تكليف و لأنه لا غيبة في مشورة و نحوها كالخطبة و التجريح لتوقف المصلحة على ذكر ما في المستشار في شأنه من النقائص، و رجحان تلك المصلحة على مفسدة ذكر أحد بما يكره، و لأن الموصوف بذلك غير معين إذ الحكم على النوع، فانتفى جميع ما يترتب على الغيبة من المفاسد في واقعة الحال فلذلك لم يحجم عنها الملائكة.
و نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ .
الواو متعينة للحالية إذ لا موقع للعطف هنا و إن كان ما بعد الواو من مقولهم و محكيا عنهم لكن الواو من المحكي و ليست من الحكاية لأن قولهم وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ يحتمل معنيين أحدهما أن يكون الغرض منه تفويض الأمر إلى اللّه تعالى و اتهام علمهم فيما أشاروا به كما يفعل المستشار مع من يعلم أنه أسدّ منه رأيا و أرجح عقلا فيشير ثم يفوّض كما قال أهل مشورة بلقيس إذ قالت: أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ - أي الرأي أن نحاربه و نصده عما يريد من قوله وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 31]- و الأمر إليك فانظري ماذا تأمرين [النمل: 32، 33]، و كما يفعل التلميذ مع الأستاذ في بحثه معه ثم يصرح بأنه مبلغ علمه، و أن القول الفصل للأستاذ، أو هو إعلان بالتنزيه للخالق عن أن يخفى عليه ما بدا لهم من مانع استخلاف آدم، و براءة من شائبة الاعتراض، و اللّه تعالى و إن كان يعلم براءتهم من ذلك إلا أن كلامهم جرى على طريقة التعبير عما في الضمير من غير قصد إعلام الغير، أو لأنّ في نفس هذا التصريح تبركا و عبادة، أو إعلان لأهل الملإ الأعلى بذلك.
فإذا كان كذلك كان العطف غير جائز لأن الجملة المحكية بالقول إذا عطفت عليها جملة أخرى من القول فالشأن أن لا يقصد العطف على تقدير عامل القول إلا إذا كان القولان في وقتين كما في قوله تعالى: وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173] على أحد الوجوه في عطف جملة نِعْمَ الْوَكِيلُ عند من لا يرون صحة عطف الإنشاء على الخبر و إن كان الحق صحة عطف الإنشاء على الخبر و عكسه و أنه لا ينافي حسن الكلام، فلذلك لم يكن حظ للعطف، ألا ترى أنهم إذا حكوا حادثا ملمّا أو مصابا جمّا أعقبوه بنحو حسبنا اللّه و نعم الوكيل أو إنا للّه و إنا إليه راجعون أو نحو ذلك «1» و لا يعطفون
(1) مثل قول الفرزدق:
أ تعدل أحسابا كراما حماتها