کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج1، ص: 437
ليس في الكلام نعمة معينة معهودة، و لا يستقيم معنى اللام الجنسية، فتعين أن تكون الإضافة على معنى لام الاستغراق فالعموم حصل من إضافة نعمة إلى المعرفة و قليل من علماء أصول الفقه من يذكرون المفرد المعرف بالإضافة في صيغ العموم، و قد ذكره الإمام الرازي في «المحصول» في أثناء الاستدلال. و قال ولي الدين: الإضافة عند الإمام أدل على العموم من اللام و قال ابن السبكي في «شرح مختصر ابن الحاجب»: دلالة المفرد المضاف على العموم ما لم يتحقق عهد هو الصحيح نحو قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور: 63] أي كل أمره و قد تأيد قصد عموم النعمة بأن المقام للامتنان و الدعوة إلى الإسلام فيناسبه تكثير النعم. و المراد النعم التي أنعم اللّه بها على أسلافهم و على الحاضرين منهم زمن نزول القرآن فإن النعمة على أسلافهم نعمة عليهم و قد تتابعت النعم عليهم إذ بوأهم قرى في بلاد العرب بعد أن سلبت بلادهم فلسطين و جعلهم في بحبوحة من العيش مع الأمن و الثروة و مسالمة العرب لهم.
و الأمر بذكر النعمة هنا مراد منه لازمه و هو شكرها و من أول مراتب الشكر ترك المكابرة في تلقي ما ينسب إلى اللّه من الرسالة بالنظر في أدلتها و متابعة ما يأتي به المرسلون. فقوله: الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وصف أشير به إلى وجوب شكر النعم لما يؤذن الموصول وصلته من التعليل فهو من باب قوله تعالى: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6] و يفيد مع ذلك أمرهم بتفكر النعم التي أنعم بها عليكم لينصرفوا بذلك عن حسد غيرهم فإن تذكير الحسود بما عنده من النعم عظة له و صرف له عن الحسد الناشئ عن الاشتغال بنعم الغير و هذا تعريض بهم أنهم حاسدون للعرب فيما أوتوا من الكتاب و الحكمة ببعثة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و انتقال النبوة من بني إسرائيل إلى العرب و إنما ذكروا بذلك لأن للنفس غفلة عما هو قائم بها و إنما تشتغل بأحوال غيرها لأن الحس هو أصل المعلومات فإذا رأى الحاسد نعم الغير نسي أنه أيضا في نعمة فإذا أريد صرفه عن الحسد ذكر بنعمه حتى يخف حسده فإن حسدهم هو الذي حال دون تصديقهم به فيكون وزانه وزان قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 54]، و تقديمه على قوله: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي من باب تقديم التخلية- بالمعجمة- على التحلية- بالمهملة- و يكون افتتاح خطابهم بهذا التذكير تهيئة لنفوسهم إلى تلقي الخطاب بسلامة طوية و إنصاف.
و قوله تعالى: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي هو فعل مهموز من (و فى) المجرد و أصل معنى و فى
التحرير و التنوير، ج1، ص: 438
أتم الأمر تقول وفيته حقه، و لما كان المجرد متعديا للمفعول و لم يكن في المهموز زيادة تعدية للتساوي بين قولك وفيته حقه و أوفيته حقه تعينت الزيادة لمجرد المبالغة في التوفية مثل بان و أبان و شغل و أشغل و أما وفّى بالتضعيف فهو أبلغ من أوفى لأن فعل و إن شارك أفعل في معانيه إلا أنه لما كان دالا على التقضي شيئا بعد شيء كان أدل على المبالغة لأن شأن الأمر الذي يفعل مدرجا أن يكون أتقن. و قد أطلق الوفاء على تحقيق الوعد و العهد إطلاقا شائعا صيره حقيقة.
و العهد تقدم معناه عند قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ [البقرة:
27] في هذه السورة.
و العهد هنا هو الالتزام للغير بمعاملة التزاما لا يفرط فيه المعاهد حتى يفسخاه بينهما و استعير العهد المضاف إلى ضمير الجلالة لقبول ما يكلفهم به من الدين و استعمل مجازا لقبول التكاليف و الدخول في الدين و استعير المضاف إلى ضمير المخاطبين للوعد على ذلك بالثواب في الآخرة و النصر في الدنيا فلك أن تجعل كل عهد مجازا مفردا استعمل العهد الأول في التكاليف و استعمل العهد الثاني في الوعد بالثواب و النصر و استعمل الإيفاء مع كليهما في تحقيق ما التزم به كلا الجانبين مستعارا من ملائم المشبه به إلى ملائم المشبه ليفيد ترشيحا لاستعارته و لك أن تجعل المجموع استعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من قولهم لما أمرهم اللّه به و أن لا يقصروا في العمل و من وعد اللّه إياهم على ذلك بالثواب بهيئة المتعاهدين على التزام كل منهما بعمل للآخر و وفائه بعهده في عدم الإخلال به فاستعير لهذه الهيئة الكلام المشتمل على قوله: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ و هذا أحسن و به يتبين وجه استعمال لفظ العهد الثاني في قوله تعالى: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ و تقربه المشاكلة.
و على الوجهين فالعهد في الموضعين مضاف للمفعول و هو ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» لأن إضافته إلى المفعول متعينة إذا تعلق به الإيفاء إذ لا يوفي أحد إلا بعهد نفسه فإذا أضيف العهد الذي هو مفعول أَوْفُوا إلى غير فاعل الإيفاء تعين أن تكون إضافته للمفعول و بذلك يتم ترشيح المجاز إن كان مفردا كما أشار له المحقق التفتازانيّ فإن كان مركبا فأخلق به لأن اللفظ الموضوع للهيئة المشبه بها يضاف بقيد الإيفاء إلى مفعوله لا محالة.
و من لطائف القرآن في اختيار لفظ العهد للاستعارة هنا لتكليف اللّه تعالى إياهم أن
التحرير و التنوير، ج1، ص: 439
ذلك خطاب لهم باللفظ المعروف عندهم في كتبهم فإن التوراة المنزلة على موسى عليه السلام تلقب عندهم بالعهد لأنها وصايات اللّه تعالى لهم و لذا عبر عنه في مواضع من القرآن بالميثاق و هذا من طرق الإعجاز العلمي الذي لا يعرفه إلا علماؤهم و هم أشح به منهم في كل شيء بحيث لا يعرف ذلك إلا خاصة أهل الدين فمجيئه على لسان النبيء العربي الأمي دليل على أنه وحي من العلام بالغيوب. و العهد قد أخذ على أسلافهم بواسطة رسلهم و أنبيائهم قال تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران: 81] الآية و إذ قد كان المخاطبون بالآية قد تلقوا الشريعة من أسلافهم بما فيها من عهد فقد كان العهد لازما لهم و كان الوفاء متعينا عليهم لأنهم الذين جاء فيهم الرسول الموعود به.
و قوله: وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ عطفت الواو جملة وَ إِيَّايَ على الجمل المتقدمة من قوله: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي إلى آخرها على طريقه الانتقال من معنى إلى المعنى المتولد عنه و هي أصل طريقة المنشئين أن يراعوا الترتيب الخارجي في الخبر و الإنشاء لأنه الأصل ما لم يطرأ مقتض لتغيير الترتيب الطبيعي و منه في القرآن قوله: وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ [هود: 77] إلخ، فإنه لما افتتح خطابهم بالتذكير بالنعمة الباعث على شكر المنعم و مراقبة حقه و المطهر لهم من الحسد فإنه صارف عن الاعتراف بالنعمة كما قدمنا. ثم عطف عليه قوله: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي و هو مبدأ المقصود من الأمر بتصديق الرسول الموعود به على ألسنة أنبيائهم. ثم عقب ذلك بقوله: وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ فهو تتميم لذلك الأمر السابق بالنهي عما يحول بينهم و بين الإيفاء بالعهد على وجهه و ذلك هو صد كبرائهم و أحبارهم إياهم عن الانتقال عما هم عليه من التمسك بالتوراة فإنهم هم القوم الذين كانوا يقولون لملك بلادهم فرعون مصر يوم بعثة موسى لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا [طه: 72] فكانوا أحرياء بأن يخاطبوا سادتهم و أحبارهم بمثل ذلك الخطاب عند البعثة المحمدية.
فتقديم المفعول هنا متعين للاختصاص ليحصل من الجملة إثبات و نفي و اختير من طرق القصر طريق التقديم دون ما و إلا ليكون الحاصل بالمنطوق هو الأمر برهبة اللّه تعالى و يكون النهي عن رهبة غيره حاصلا بالمفهوم فإنهم إذا رهبوا اللّه تعالى حرصوا على الإيفاء بالعهد و لما كانت رهبتهم أحبارهم تمنعهم من الإيفاء بالعهد أدمج النهي عن رهبة غير اللّه مع الأمر برهبة اللّه تعالى في صيغة واحدة.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 440
و تقديم المفعول مع اشتغال فعله بضميره آكد في إفادة التقديم الحصر من تقديم المفعول على الفعل غير المشتغل بضميره، فإياي ارهبون آكد من نحو إياي ارهبوا كما أشار إليه صاحب «الكشاف» إذ قال: «و هو من قولك زيدا رهبته و هو أوكد في إفادة الاختصاص من إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] ا ه. و وجهه عندي أن تقديم المفعول يحتمل الاختصاص، إلا أن الأصل فيه أن يدل على الاختصاص إلا إذا أقامت القرينة على التقوى فإذا كان مع التقديم اشتغال الفعل بضمير المقدم نحو زيدا ضربته كان الاختصاص أوكد أي كان احتمال التقوى أضعف و ذلك لأن إسناد الفعل إلى الضمير بعد إسناده إلى الظاهر المتقدم يفيد التقوى فتعين أن تقديم المفعول للاختصاص دون التقوى إذ التقوى قد حصل بإسناد الفعل أولا إلى الاسم أو الظاهر المتقدم و ثانيا إلى ضمير المتقدم و لهذا لم يقل صاحب «الكشاف» و هو أكثر اختصاصا و لا أقوى اختصاصا إذ الاختصاص لا يقبل التقوية بل قال و هو أوكد في إفادة الاختصاص أي إن إفادته الاختصاص أقوى لأن احتمال كون التقديم للتقوى قد صار مع الاشتغال ضعيفا جدا. و لسنا ندعي أن الاشتغال متعين للتخصيص فإنه قد يأتي بلا تخصيص في نحو قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]، و قوله: أَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [القمر: 24] و قول زهير:
فكلا أراهم أصبحوا يعقلونه
صحيحات مال طالعات بمخرم
لظهور أن لا معنى للتخصيص في شيء مما ذكرنا غير أن الغالب أن يكون التقديم مع صيغة الاشتغال للتخصيص إذ العرب لا تقدم المفعول غالبا إلا لذلك و لا التفات إلى ما وجه به صاحب «المفتاح» أن احتمال المفعول في الاشتغال التخصيص و التقوي باق على حاله و لكنك إن قدرت الفعل المحذوف متقدما على المفعول كان التقديم للتقوي و إن قدرته بعد المفعول كان التقديم للتخصيص فإنه بناه على حالة موقع الفعل المقدر مع أن تقدير الفعل اعتبار لا يلاحظه البلغاء و لأنهم ينصبون على موقعه قرينه فتعين أن السامع إنما يعتد بالتقديم المحسوس و بتكرير التعلق و أما الاعتداد بموقع الفعل المقدر فحوالة على غير مشاهد لأن التقدير إن كان بنية المتكلم فلا قبل للسامع بمعرفة نيته و لا يصح أن يكون الخيار في التقدير للسامع.
هذا و التقديم إذا اقترن بالفاء كان فيه مبالغة، لأن الفاء كما في هذه الآية مؤذنة بشرط مقدر و لما كان هذا الشرط لا دليل عليه إلا الفاء تعين تقديره عاما نحو إن يكن شيء أو مهما يكن شيء كما أشار له صاحب «الكشاف» في قوله تعالى: وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ
التحرير و التنوير، ج1، ص: 441
[المدثر: 3] حيث قال: «و دخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل مهما كان فلا تدع تكبيره».
فالمعنى هنا و أوفوا بعهدي أوف بعهدكم و مهما يكن شيء فإياي ارهبوني، فلما حذفت جملة الشرط بعد واو العطف بقيت فاء الجواب موالية لواو العطف فزحلقت إلى أثناء الجواب كراهية توالي حرفين فقيل وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ بدلا عن أن يقال فارهبون. و التعليق على الشرط العام يستلزم تحقق وقوع الجواب لأن التعليق الشرطي بمنزلة ربط المسبب بالسبب فإذا كان المعلق عليه أمرا محقق الوقوع لعدم خلو الحدثان عنه تعين تحقق وقوع المعلق، و هذا مبني على مذهب سيبويه في باب الأمر و النهي يختار فيهما النصب في الاسم الذي يبنى عليه الفعل و ذلك مثل قولك زيدا اضربه و مثل ذلك أما زيدا فاقتله فإذا قلت زيد فاضربه لم يستقم أن تحمله على الابتداء ألا ترى أنك لو قلت زيد فمنطلق لم يستقم، ثم أشار إلى أن الفاء هنا في معنى فاء الجزاء فمن ثم جزم الزمخشري بأن هاته الفاء مهما وجدت في الاشتغال دلت على شرط عام محذوف و إن الفاء كانت داخلة على الاسم فزحلقت على حكم فاء جواب أما الشرطية «1» و أحسب أن مثل هذا التركيب من مبتكر أساليب القرآن و لم أذكر أني عثرت على مثله في كلام العرب.
و مما يؤيد ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» المبني على كلام سيبويه من اعتبار الفاء مشعرة بشرط مقدر، أن غالب مواقع هاته الفاء المتقدم معها المفعول على مدخلها أن تقع بعد نهي أو أمر يناقض الأمر و النهي الذي دخلت عليه تلك الفاء نحو قوله تعالى: وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ إلى قوله: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: 65، 66] و قول الأعشى: «و لا تعبد الشيطان و اللّه فاعبدا» فكان ما يتقدم هاته الفاء يتولد منه شرط في المعنى و كانت الفاء مؤذنة بذلك الشرط و علامة عليه فلأجل كونه مدلولا عليه بدليلين
(1) و قيل إن الفاء في مثل هذا عاطفة على محذوف، فقال السيرافي في «شرح الكتاب» إن الفاء تدل على فعل من شأنه أن يكون سببا فيما دخلت عليه الفاء، ففي نحو زيدا فاضرب تأهب فاضرب زيدا أو نحوه فلما حذف المعطوف عليه قدم معمول الفعل ليكون عوضا عن المعطوف عليه المحذوف و لأجل كون تقديمه لعلة صح إعمال ما بعد الفاء فيه كما أعمل ما بعد الفاء الواقعة في جواب أما فيما قبلها لأنه قدم ليحل محل فعل الشرط. و على هذا القول فالتقديم ليس لقصد تخصيص و لا تقو. و قال صاحب «المفتاح»: الفاء عطفت الفعل على فعل مثله للتقوي، و المفعول المذكور مفعول الفعل المحذوف، و التقدير اضرب زيدا فاضرب، و يرد هذين أن الفاء لو كانت عاطفة لما اجتمعت مع حرف عطف في مواضع كثيرة نحو وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 3، 4] إلخ.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 442
أصله و فرعه كان كالمذكور كأنه قيل لئن أشركت ليحبطن عملك، و فإن كنت عابدا شيئا فاللّه فاعبد، و كذا في البيت و هذه فائدة لم يفصح عنها السلف فخذها و لا تخف.
قال التفتازانيّ «و نقل عن صاحب «الكشاف» أنه قال: إن في قوله تعالى: وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ وجوها من التأكيد: تقديم الضمير المنفصل و تأخير المتصل و الفاء الموجبة معطوفا عليه و معطوفا تقديره إياي ارهبوا فارهبون أحدهما مقدر و الثاني مظهر، و ما في ذلك من تكرار الرهبة، و ما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء كأنه قيل: إن كنتم راهبين شيئا فارهبون» ا ه. يريد أن في تقديم الضمير إفادة الاختصاص و الاختصاص تأكيد، قال صاحب «المفتاح» ليس الحصر و التخصيص إلا تأكيدا على تأكيد و أما تأخير الضمير المتصل فلما في إعادة الإسناد من التقوي، و مراد الزمخشري بقوله معطوفا عليه و معطوفا العطف اللغوي أي معقبا و معقبا به لا العطف النحوي إذ لا يستقيم هنا، فتحصل أن في التعبير عن مثل هذا الاختصاص في كلام البلغاء مراتب أربع: مجرد التقديم للمفعول نحو إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:
5]. و تقديمه على فعله العامل في ضميره نحو زيدا رهبته، و تقديمه على فعله مع اقتران الفعل بالفاء نحو وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] و تقديمه على فعله العامل في ضميره مع اقتران الفعل بالفاء نحو وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ . فالثانية و الثالثة و الرابعة أوكد منهما.
و حذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية في قوله: فَارْهَبُونِ للجمهور من العشرة في الوصل و الوقف و أثبتها يعقوب في الوصل و الوقف. و جمهور العرب يحذفونها في الوقف دون الوصل و هذيل يحذفونها في الوقف و الوصل و أهل الحجاز يثبتونها في الحالين و إنما اتفق الجمهور هنا على حذفها في الوصل مثل الوقف لأن كلمة فَارْهَبُونِ كتبت في المصحف الإمام بدون ياء و قرئت كذلك في سنة القراءة. و وجه ذلك أنها وقعت فاصلة فاعتبروها كالموقوف عليها قال سيبويه في باب ما يحذف من أواخر الأسماء في الوقف «و جميع ما لا يحذف في الكلام و ما يختار فيه أن لا يحذف يحذف في الفواصل و القوافي». و لأن لغة هذيل تحذفها مطلقا، و قراءة يعقوب بإثبات الياء في الوصل و الوقف جرى على لغة أهل الحجاز و لأنه رواها بالإثبات و هو وجه في العربية و يكون قد تأول كتابتها بدون ياء في المصحف أنه اعتماد على أن القارئ يجريها على روايته و لذلك لو لم تكن ياء المتكلم في كلمة هي فاصلة من الآي لما اتفق الجمهور على حذفها كما في قوله تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة: 186] كما سيأتي.
[41]
[سورة البقرة (2): آية 41]
التحرير و التنوير، ج1، ص: 443
وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ .
شروع في دعوة بني إسرائيل إلى الإسلام و هدي القرآن و هذا هو المقصود من خطابهم و لكن قدم بين يديه ما يهيىء نفوسهم إلى قبوله كما تتقدم المقدمة على الغرض، و التخلية على التحلية.
و الإيمان بالكتاب المنزل من عند اللّه أو بكتب اللّه و إن كان من جملة ما شمله العهد المشار إليه بقوله: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي [البقرة: 40] إلا أنه لم يلتفت إليه هنا من تلك الجهة لأنهم عاهدوا اللّه على أشياء كثيرة كما تقدم و من جملتها الإيمان بالرسل و الكتب التي تأتي بعد موسى عليه السلام إلا أن ذلك مجمل في العهد فلا يتعين أن يكون ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه و سلّم هو مما عاهدوا اللّه عليه بل حتى يصدقوا بأنه من عند اللّه و أن الجائي به رسول من اللّه فهم مدعوّون إلى ذلك التصديق هنا. فعطف قوله: وَ آمِنُوا على قوله: وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40] كعطف المقصد على المقدمة، و عطفه على قوله: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي من قبيل عطف الخاص على العام في المعنى و لكن هذا من عطف الجمل فلا يقال فيه عطف خاص على عام لأنه إنما يكون في عطف الجزئي على الكلي من المفردات لا في عطف الجمل و إنما أردنا تقريب موقع الجملة و توجيه إيرادها موصولة غير مفصولة.
و في تعليق الأمر باسم الموصول و هو (ما أنزلت) دون غيره من الأسماء نحو الكتاب أو القرآن أو هذا الكتاب إيماء إلى تعليل الأمر بالإيمان به و هو أنه منزل من اللّه و هم قد أوصوا بالإيمان بكل كتاب يثبت أنه منزل من اللّه. و لهذا أتى بالحال التي هي علة الصلة إذ جعل كونه مصدقا لما في التوراة علامة على أنه من عند اللّه. و هي العلامة الدينية المناسبة لأهل العلم من أهل الكتاب فكما جعل الإعجاز اللفظي علامة على كون القرآن من عند اللّه لأهل الفصاحة و البلاغة من العرب كما أشير إليه بقوله: الم ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 1، 2] إلى قوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23]؛ كذلك جعل الإعجاز المعنوي و هو اشتماله على الهدى الذي هو شأن الكتب الإلهية علامة على أنه من عنده لأهل الدين و العلم بالشرائع. ثم الإيمان بالقرآن يستلزم الإيمان بالذي جاء به و بالذي أنزله.