کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج1، ص: 707
بوحي و أمره بما تضمنه قوله أَسْلِمْ من معان جماعها التوحيد و البراءة من الحول و القوة و إخلاص الطاعة، و هو أيضا وقت ظهور أن اللّه أراد إصلاح حاله في الآخرة إذ كلّ ميسّر لما خلق له.
و قد فهم أن مفعول أَسْلِمْ و متعلقه محذوفان يعلمان من المقام أي أسلم نفسك لي كما دل عليه الجواب بقوله: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ و شاع الاستغناء عن مفعول أسلم فنزل الفعل منزلة اللازم يقال أسلم أي دان بالإسلام كما أنبأ به قوله تعالى: وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمران: 67].
و قوله: قالَ أَسْلَمْتُ فصلت الجملة على طريقة حكاية المحاورات كما قدمناه في وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30].
و قوله: قالَ أَسْلَمْتُ مشعر بأنه بادر بالفور دون تريث كما اقتضاه وقوعه جوابا، قال ابن عرفة: إنما قال لرب العالمين دون أن يقول أسلمت لك ليكون قد أتى بالإسلام و بدليله ا ه. يعني أن إبراهيم كان قد علم أن لهذا العالم خالقا عالما حصل له بإلهام من اللّه فلما أوحى اللّه إليه بالإيمان صادف ذلك عقلا رشدا.
[132]
[سورة البقرة (2): آية 132]
لما كان من شأن أهل الحق و الحكمة أن يكونوا حريصين على صلاح أنفسهم و صلاح أمتهم كان من مكملات ذلك أن يحرصوا على دوام الحق في الناس متّبعا مشهورا فكان من سننهم التوصية لمن يظنونهم خلفا عنهم في الناس بأن لا يحيدوا عن طريق الحق و لا يفرطوا فيما حصل لهم منه، فإن حصوله بمجاهدة نفوس و مرور أزمان فكان لذلك أمرا نفيسا يجدر أن يحتفظ به.
و الإيصاء أمر أو نهي يتعلق بصلاح المخاطب خصوصا أو عموما، و في فوته ضر، فالوصية أبلغ من مطلق أمر و نهي فلا تطلق إلا في حيث يخاف الفوات إما بالنسبة للموصى و لذلك كثر الإيصاء عند توقع الموت كما سيأتي عند قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة: 133]، و في حديث العرباض: «و عظنا رسول اللّه موعظة و جلت منها القلوب و ذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول اللّه كأنها موعظة مودّع فأوصنا» الحديث، و إما بالنسبة إلى الموصى كالوصية عند
التحرير و التنوير، ج1، ص: 708
السفر
في حديث معاذ حين بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لليمن: «كان آخر ما أوصاني رسول اللّه حين وضعت رجلي في الغرز أن قال حسّن خلقك للناس»
، و
جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال له أوصني قال: «لا تغضب».
فوصية إبراهيم و يعقوب إما عند الموت كما تشعر به الآية الآتية: إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [البقرة: 133] و إما في مظان خشية الفوات.
و الضمير المجرور بالباء عائد على الملة أو على الكلمة أي قوله: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [البقرة: 131] فإن كان بالملة فالمعنى أنه أوصى أن يلازموا ما كانوا عليه معه في حياته، و إن كان الثاني فالمعنى أنه أوصى بهذا الكلام الذي هو شعار جامع لمعاني ما في الملة.
و بنو إبراهيم ثمانية: إسماعيل و هو أكبر بنيه و أمه هاجر، و إسحاق و أمه سارة و هو ثاني بنيه، و مديان، و مدان، و زمران، و يقشان، و بشباق، و شوح، و هؤلاء أمهم قطورة التي تزوجها إبراهيم بعد موت سارة، و ليس لغير إسماعيل و إسحاق خبر مفصل في التوراة سوى أن ظاهر التوراة أن مديان هو جد أمة مدين أصحاب الأيكة و أن موسى عليه السلام لما خرج خائفا من مصر نزل أرض مديان و أن يثرون أو رعوئيل (هو شعيب) كان كاهن أهل مدين. و أما يعقوب فهو ابن إسحاق من زوجه رفقة الأرامية تزوجها سنة ست و ثلاثين و ثمانمائة و ألف قبل المسيح في حياة جده إبراهيم فكان في زمن إبراهيم رجلا و لقب بإسرائيل و هو جد جميع بني إسرائيل و مات يعقوب بأرض مصر سنة تسع و ثمانين و تسعمائة و ألف قبل المسيح و دفن بمغارة المكفلية بأرض كنعان (بلد الخليل) حيث دفن جده و أبوه عليهم السلام.
و عطف يعقوب على إبراهيم هنا إدماج مقصود به تذكير بني إسرائيل (الذي هو يعقوب) بوصية جدهم فكما عرض بالمشركين في إعراضهم عن دين أوصى به أبوهم عرض باليهود كذلك لأنهم لما انتسبوا إلى إسرائيل و هو يعقوب الذي هو جامع نسبهم بعد إبراهيم لتقام الحجة عليهم بحق اتباعهم الإسلام.
و قوله: يا بَنِيَ إلخ حكاية صيغة وصية إبراهيم و سيجيء ذكر وصية يعقوب.
و لما كان فعل (أوصى) متضمنا للقول صح مجيء جملة بعده من شأنها أن تصلح لحكاية الوصية لتفسر جملة (أوصى)، و إنما لم يؤت بأن التفسيرية التي كثر مجيئها بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه، لأن أن التفسيرية تحتمل أن يكون ما بعدها محكيا بلفظه أو
التحرير و التنوير، ج1، ص: 709
بمعناه و الأكثر أن يحكى بالمعنى، فلما أريد هنا التنصيص على أن هذه الجملة حكاية لقول إبراهيم بنصه (ما عدا مخالفة المفردات العربية) عوملت معاملة فعل القول نفسه فإنه لا تجيء بعده أن التفسيرية بحال، و لهذا يقول البصريون في هذه الآية إنه مقدر قول محذوف خلافا للكوفيين القائلين بأن وصى و نحوه ناصب للجملة المقولة، و يشبه أن يكون الخلاف بينهم لفظيا.
و اصْطَفى لَكُمُ اختار لكم الدين أي الدين الكامل، و فيه إشارة إلى أنه اختاره لهم من بين الأديان و أنه فضلهم به لأن اصطفى لك يدل على أنه ادخره لأجله، و أراد به دين الحنيفية المسمى بالإسلام فلذلك قال: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .
و معنى فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ النهي عن مفارقة الإسلام أعني ملة إبراهيم في جميع أوقات حياتهم، و ذلك كناية عن ملازمته مدة الحياة لأن الحي لا يدري متى يأتيه الموت فنهي أحد عن أن يموت غير مسلم أمر بالاتصاف بالإسلام في جميع أوقات الحياة فالمراد من مثل هذا النهي شدة الحرص على تلك المنهي.
و للعرب في النهي المراد منه النهي عن لازمه طرق ثلاثة: الأول: أن يجعلوا المنهي عنه مما لا قدرة للمخاطب على اجتنابه فيدلوا بذلك على أن المراد نفي لازمه مثل قولهم لا تنس كذا أي لا ترتكب أسباب النسيان، و مثل قولهم: لا أعرفنك تفعل كذا أي لا تفعل فأعرفك لأن معرفة المتكلم لا ينهى عنها المخاطب، و
في الحديث: «فلا يذادن أقوام عن حوضي»
، الثاني: أن يكون المنهي عنه مقدورا للمخاطب و لا يريد المتكلم النهي عنه و لكن عما يتصل به أو يقارنه فيجعل النهي في اللفظ عن شيء و يقيده بمقارنه للعلم بأن المنهي عنه مضطر لإيقاعه فإذا أوقعه اضطر لإيقاع مقارنه نحو قولك لا أراك بثياب مشوهة، و منه قوله تعالى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ، الثالث: أن يكون المنهي عنه ممكن الحصول و يجعله مفيدا مع احتمال المقام لأن يكون النهي عن الأمرين إذا اجتمعا و لو لم يفعل أحدهما نحو لا تجئني سائلا و أنت تريد أن لا يسألك فإما أن يجيء و لا يسأل و إما أن لا يجيء بالمرة، و في الثانية إثبات أن بني إبراهيم و يعقوب كانوا على ملة الإسلام و أن الإسلام جاء بما كان عليه إبراهيم و بنوه حين لم يكن لأحد سلطان عليهم، و فيه إيماء إلى أن ما طرأ على بنيه بعد ذاك من الشرائع إنما اقتضته أحوال عرضت و هي دون الكمال الذي كان عليه إبراهيم و لهذا قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19] و قال: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ
التحرير و التنوير، ج1، ص: 710
الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الحج: 78].
[133]
[سورة البقرة (2): آية 133]
تفصيل لوصية يعقوب بأنه أمر أبناءه أن يكونوا على ملة إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و هي نظير ما وصى به إبراهيم بنيه فأجمل هنا اعتمادا على ما صرح به في قوله سابقا:
يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة: 132] و هذا تنويه بالحنيفية التي هي أساس الإسلام، و تمهيد لإبطال قولهم: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [البقرة: 135] و إبطال لزعمهم أن يعقوب كان على اليهودية و أنه أوصى بها بنيه فلزمت ذريته فلا يحولون عنها. و قد ذكر أن اليهود قالوا ذلك قاله الواحدي و البغوي بدون سند، و يدل عليه قوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 140] الآية فلذلك جيء هنا بتفصيل وصية يعقوب إبطالا لدعاوى اليهود و نقضا لمعتقدهم الذي لا دليل عليه كما أنبأ به الإنكار في قوله:
و أَمْ عاطفة جملة كُنْتُمْ شُهَداءَ على جملة وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ [البقرة:
132] فإن أم من حروف العطف كيفما وقعت، و هي هنا منقطعة للانتقال من الخبر عن إبراهيم و يعقوب إلى مجادلة من اعتقدوا خلاف ذلك الخبر، و لما كانت أم يلازمها الاستفهام كما مضى عند قوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ [البقرة: 108] إلخ فالاستفهام هنا غير حقيقي لظهور أن عدم شهودهم احتضار يعقوب محقق، فتعين أن الاستفهام مجاز، و محمله على الإنكار لأنه أشهر محامل الاستفهام المجازي، و لأن مثل هذا المستفهم عنه مألوف في الاستفهام الإنكاري.
ثم إن كون الاستفهام إنكاريا يمنع أن يكون الخطاب الواقع فيه خطابا للمسلمين لأنهم ليسوا بمظنة حال من يدعي خلاف الواقع حتى ينكر عليهم، خلافا لمن جوز كون الخطاب للمسلمين من المفسرين، توهموا أن الإنكار يساوي النفي مساواة تامة و غفلوا عن الفرق بين الاستفهام الإنكاري و بين النفي المجرد فإن الاستفهام الإنكاري مستعمل في الإنكار مجازا بدلالة المطابقة و هو يستلزم النفي بدلالة الالتزام، و من العجيب وقوع
التحرير و التنوير، ج1، ص: 711
الزمخشري في هذه الغفلة، فتعين أن المخاطب اليهود و أن الإنكار متوجه إلى اعتقاد اعتقدوه يعلم من سياق الكلام و سوابقه و هو ادعاؤهم أن يعقوب مات على اليهودية و أوصى بها فلزمت ذريته، فكان موقع الإنكار على اليهود واضحا و هو أنهم ادعوا ما لا قبل لهم بعلمه إذ لم يشهدوا كما سيأتي، فالمعنى ما كنتم شهداء احتضار يعقوب. ثم أكمل اللّه القصة تعليما و تفصيلا و استقصاء في الحجة بأن ذكر ما قاله يعقوب حين اختصاره و ما أجابه أبناؤه و ليس ذلك بداخل في حيز الإنكار، فالإنكار ينتهي عند قوله:
(الموت) و البقية تكملة للقصة، و القرينة على الأمرين ظاهرة اعتمادا على مألوف الاستعمال في مثله فإنه لا يطال فيه المستفهم عنه بالإنكار ألا ترى إلى قوله تعالى: أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف: 19]، فلما قال هنا: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ، علم السامع موقع الإنكار، ثم يعلم أن قول أبناء يعقوب نَعْبُدُ إِلهَكَ لم يكن من دعوى اليهود حتى يدخل في حيز الإنكار لأنهم لو ادعوا ذلك لم ينكر عليهم إذ هو عين المقصود من الخبر، و بذلك يستقر كلا الكلامين في قراره، و لم يكن داع لجعل (أم) متصلة بتقدير محذوف قبلها تكون هي معادلة له، كأن يقدر أ كنتم غائبين إذ حضر يعقوب الموت أم شهداء و أن الخطاب لليهود أو للمسلمين و الاستفهام للتقرير، و لا لجعل الخطاب في قوله: كُنْتُمْ للمسلمين على معنى جعل الاستفهام للنفي المحض أي ما شهدتم احتضار يعقوب أي على حد وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ [القصص: 44] و حد وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ [آل عمران: 44] كما حاوله الزمخشري و متابعوه، و إنما حداه إلى ذلك قياسه على غالب مواقع استعمال أمثال هذا التركيب مع أن موقعه هنا موقع غير معهود و هو من الإيجاز و الإكمال إذ جمع الإنكار عليهم في التقول على من لم يشهدوه، و تعليمهم ما جهلوه، و لأجل التنبيه على هذا الجمع البديع أعيدت إذ في قوله: إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ليكون كالبدل من إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ فيكون مقصودا بالحكم أيضا.
و الشهداء جمع شهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للأمر و الشأن، و وجه دلالة نفي المشاهدة على نفي ما نسبوه إلى يعقوب هو أن تنبيههم إلى أنهم لم يشهدوا ذلك يثير في نفوسهم الشك في معتقدهم.
و قوله تعالى: قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ هو من بقية القصة المنفي شهود المخاطبين محضرها فهذا من مجيء القول في المحاورات كما قدمنا، فقوله: قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] فيكون الكلام نفيا لشهودهم مع إفادة تلك الوصية، أي و لو شاهدتم
التحرير و التنوير، ج1، ص: 712
ما اعتقدتم خلافها فلما اعتقدوا اعتقادا كالضروري وبخهم و أنكر عليهم حتى يرجعوا إلى النظر في الطرق التي استندوا إليها فيعلموا أنها طرق غير موصلة، و بهذا تعلمون وجهة الاقتصار على نفي الحضور مع أن نفي الحضور لا يدل على كذب المدعى لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، فالمقصود هنا الاستدراج في إبطال الدعوى بإدخال الشك على مدعيها.
و قوله تعالى: إِذْ قالَ لِبَنِيهِ بدل من إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ و فائدة المجيء بالخبر على هذه الطريقة دون أن يقال أم كنتم شهداء إذ قال يعقوب لبنيه عند الموت، هي قصد استقلال الخبر و أهمية القصة و قصد حكايتها على ترتيب حصولها، و قصد الإجمال ثم التفصيل لأن حالة حضور الموت لا تخلو من حدث هام سيحكى بعدها فيترقبه السامع.
و هذه الوصية جاءت عند الموت و هو وقت التعجيل بالحرص على إبلاغ النصيحة في آخر ما يبقى من كلام الموصى فيكون له رسوخ في نفوس الموصين، أخرج أبو داوود و الترمذي عن العرباض بن سارية قال: «وعظنا رسول اللّه موعظة و جلت منها القلوب و ذرفت منها العيون فقلنا يا رسول اللّه كأنها موعظة مودّع فأوصنا» الحديث.
و جاء يعقوب في وصيته بأسلوب الاستفهام لينظر مقدار ثباتهم على الدين حتى يطّلع على خالص طويتهم ليلقي إليهم ما سيوصيهم به من التذكير و جيء في السؤال بما الاستفهامية دون من لأن ما هي الأصل عند قصد العموم لأنه سألهم عما يمكن أن يعبده العابدون.
و اقترن ظرف بَعْدِي بحرف (من) لقصد التوكيد فإن (من) هذه في الأصل ابتدائية فقولك: حئت من بعد الزوال يفيد أنك جئت في أول الأزمنة بعد الزوال ثم عوملت معاملة حرف تأكيد.
و بنو يعقوب هم الأسباط أي أسباط إسحاق و منهم تشعبت قبائل بني إسرائيل و هم اثنا عشر ابنا: رأوبين، و شمعون، و لاوى، و يهوذا، و يساكر، و زبولون، (و هؤلاء أمهم ليئة) و يوسف و بنيامين (أمهما راحيل) و دان و نفتالي (أمهما بلهة) و جاد و أشير (أمهما زلفة).
و قد أخبر القرآن بأن جميعهم صاروا أنبياء و أن يوسف كان رسولا.
التحرير و التنوير، ج1، ص: 713
و واحد الأسباط سبط- بكسر السين و سكون الباء- و هو ابن الابن أي الحفيد، و قد اختلف في اشتقاق سبط قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً في سورة الأعراف [160] عن الزجاج: الأظهر أن السبط عبراني عرب ا ه.
قلت: و في العبرانية سيبط بتحتية بعد السين ساكنة.
و جملة: قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ جواب عن قوله: ما تَعْبُدُونَ جاءت على طريقة المحاورات بدون واو و ليست استئنافا لأن الاستئناف إنما يكون بعد تمام الكلام و لا تمام له قبل حصول الجواب.
و جيء في قوله: نَعْبُدُ إِلهَكَ معرفا بالإضافة دون الاسم العلم بأن يقول نعبد اللّه لأن إضافة إله إلى ضمير يعقوب و إلى آبائه تفيد جميع الصفات التي كان يعقوب و آباؤه يصفون اللّه بها فيما لقنه لأبنائه منذ نشأتهم، و لأنهم كانوا سكنوا أرض كنعان و فلسطين مختلطين و مصاهرين لأمم تعبد الأصنام من كنعانيين و فلسطينيين و حثيين و أراميين ثم كان موت يعقوب في أرض الفراعنة و كانوا يعبدون آلهة أخرى. و أيضا فمن فوائد تعريف الذي يعبدونه بطريق الإضافة إلى ضمير أبيهم و إلى لفظ آبائه أن فيها إيماء إلى أنهم مقتدون بسلفهم.
و في الإتيان بعطف البيان من قولهم إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ ضرب من محسن الاطراد تنويها بأسماء هؤلاء الأسلاف كقول ربيعة بن نصر بن قعين:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم
بعتيبة بن الحارث بن شهاب
و إنما أعيد المضاف في قوله: وَ إِلهَ آبائِكَ لأن إعادة المضاف مع المعطوف على المضاف إليه أفصح في الكلام و ليست بواجبة، و إطلاق الآباء على ما شمل إسماعيل و هو عم ليعقوب إطلاق من باب التغليب و لأن العم بمنزلة الأب.
و قد مضى التعريف بإبراهيم و إسماعيل.
و أما إسحاق فهو ابن إبراهيم و هو أصغر من إسماعيل بأربع عشرة سنة و أمه سارة.
ولد سنة 1896 ست و تسعين و ثمانمائة و ألف قبل ميلاد المسيح و هو جد بني إسرائيل و غيرهم من أمم تقرب لهم.