کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج2، ص: 71
كتمانهم الشهادة له الواردة في كتبهم و إطلاق التوبة على الإيمان بعد الكفر وارد كثيرا لأن الإيمان هو توبة الكافر من كفره، و إنما زاد بعده وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا لأن شرط كل توبة أن يتدارك التائب ما يمكن تداركه مما أضاعه بفعله الذي تاب عنه. و لعل عطف وَ بَيَّنُوا على أَصْلَحُوا عطف تفسير.
و قوله: فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ جملة مستأنفة لغير بيان بل لفائدة جديدة لأنه لما استثنى الَّذِينَ تابُوا فقد تم الكلام و علم السامع أن من تابوا من الكاتمين لا يلعنهم اللّه و لا يلعنهم اللاعنون، و جيء باسم الإشارة مسند إليه يمثل النكتة التي تقدمت.
و قرنت الجملة بالفاء للدلالة على شيء زائد على مفاد الاستثناء و هو أن توبتهم يعقبها رضي اللّه عنهم.
و
في «صحيح البحاري» «1» عن ابن مسعود قال رسول اللّه: «للّه أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا و به مهلكة و معه راحلته عليها طعامه و شرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ و قد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر و العطش أو «2» ما شاء اللّه، قال أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده».
فجاء في الآية نظم بديع تقديره إلّا الذين تابوا انقطعت عنهم اللعنة فأتوب عليهم، أي أرضى، و زاد توسط اسم الإشارة للدلالة على التعليل و هو إيجاز بديع.
[161، 162]
[سورة البقرة (2): الآيات 161 الى 162]
استئناف كلام لإفادة حال فريق آخر مشارك للذي قبله في استحقاق لعنة اللّه و اللاعنين و هي لعنة أخرى.
و هذا الفريق هم المشركون فإن الكفر يطلق كثيرا في القرآن مرادا به الشرك قال تعالى: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: 10]، و ذلك أن المشركين قد قرنوا سابقا
(1) أخرجه البخاري في: (80) «كتاب الدعوات» (4)، «باب التوبة»، حديث (6308. انظر «فتح الباري» (11/ 102).
(2) في المطبوعة واو العطف و التصويب من المصدر السابق. قال ابن حجر: «أو، شك من أبي شهاب».
التحرير و التنوير، ج2، ص: 72
مع أهل الكتاب قال تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ [البقرة:
105] الآية وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة: 118] فلما استؤنف الكلام ببيان لعنة أهل الكتاب الذين يكتمون عقّب ذلك ببيان عقوبة المشركين أيضا فالقول في الاستئناف هنا كالقول في الاستئناف في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ [البقرة: 159] من كونه بيانيا أو مجردا.
و قال الفخر الَّذِينَ كَفَرُوا عام و هو شامل للذين يكتمون و غيرهم و الجملة تذييل أي لما فيها من تعميم الحكم بعد إناطته ببعض الأفراد، و جعل في «الكشاف» المراد من الَّذِينَ كَفَرُوا خصوص الذين يكتمون «1» و ماتوا على ذلك و أنه ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتا، و هو بعيد عن معنى الآية لأن إعادة و كفروا لا نكتة لها للاستغناء بأن يقال و الذين ماتوا و هم كفار، على أنه مستغنى عن ذلك أيضا بأنه مفاد الجملة السابقة مع استثنائها، و اللعنة لا يظهر أثرها إلّا بعد الموت فلا معنى لجعلهما لعنتين، و لأن تعقيبه بقوله: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة: 163] يؤذن بأن المراد هنا المشركون لتظهر مناسبة الانتقال.
و إنما قال هنا وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ لأن المشركين يلعنهم أهل الكتاب و سائر المتدينين الموحدين للخالق بخلاف الذين يكتمون ما أنزل من البينات فإنما يلعنهم اللّه و الصالحون من أهل دينهم كما تقدم و تلعنهم الملائكة، و عموم (الناس) عرفي أي الذين هم من أهل التوحيد.
و قوله: خالِدِينَ فِيها تصريح بلازم اللعنة الدائمة فالضمير عائد لجهنم لأنها معروفة من المقام مثل حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32]، كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ [القيامة: 26]، و يجوز أن يعود إلى اللعنة و يراد أثرها و لازمها.
و قوله: لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أي لأن كفرهم عظيم يصدهم عن خيرات كثيرة بخلاف كفر أهل الكتاب.
و الإنظار الإمهال، نطره نظرة أمهله، و الظاهر أن المراد و لا هم يمهلون في نزول العذاب بهم في الدنيا و هو عذاب القتل إذ لا يقبل منهم إلّا الإسلام دون الجزية بخلاف أهل الكتاب و هذا كقوله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ
(1) يشير إلى قوله تعالى السابق: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ [البقرة: 159].
التحرير و التنوير، ج2، ص: 73
الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدخان: 15، 16] و هي بطشة يوم بدر. و قيل: يُنْظَرُونَ هنا من نظر العين و هو يتعدى بنفسه كما يتعدى بإلى أي لا ينظر اللّه إليهم يوم القيامة و هو كناية عن الغضب و التحقير.
و جيء بالجملة الاسمية لدلالتها على الثبات و الاستقرار بخلاف قوله: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ فالمقصود التجدد ليكونوا غير آيسين من التوبة.
[163]
[سورة البقرة (2): آية 163]
وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)
معطوف على جملة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ [البقرة: 161]. و المناسبة أنه لما ذكر ما ينالهم على الشرك من اللعنة و الخلود في النار بين أن الذي كفروا به و أشركوا هو إله واحد و في هذا العطف زيادة ترجيح لما انتميناه من كون المراد من الَّذِينَ كَفَرُوا المشركين لأن أهل الكتاب يؤمنون بإله واحد.
و الخطاب بكاف الجمع لكل من يتأتى خطابه وقت نزول الآية أو بعده من كل قارئ للقرآن و سامع فالضمير عام، و المقصود به ابتداء المشركون لأنهم جهلوا أن الإله لا يكون إلّا واحدا.
و الإله في كلام العرب هو المعبود و لذلك تعددت الآلهة عندهم و أطلق لفظ الإله على كل صنم عبدوه و هو إطلاق ناشئ عن الضلال في حقيقة الإله لأن عبادة من لا يغني عن نفسه و لا عن عابده شيئا عبث و غلط، فوصف الإله هنا بالواحد لأنه في نفس الأمر هو المعبود بحق فليس إطلاق الإله على المعبود بحق نقلا في لغة الإسلام و لكنه تحقيق للحق.
و ما ورد في القرآن من إطلاق جمع الآلهة على أصنامهم فهو في مقام التغليط لزعمهم نحو فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [الأحقاف: 28]، و القرينة هي الجمع، و لذلك لم يطلق في القرآن الإله بالإفراد على المعبود بغير حق، و بهذا تستغنى عن إكداد عقلك في تكلفات تكلفها بعض المفسرين في معنى وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ .
و الإخبار عن إلهكم بإله تكرير ليجري عليه الوصف بواحد و المقصود و إلهكم واحد لكنه وسط لفظ إِلهٌ بين المبتدأ و الخبر لتقرير معنى الألوهية في المخبر عنه كما تقول عالم المدينة عالم فائق و ليجيء ما كان أصله مجيء النعت فيفيد أنه وصف ثابت
التحرير و التنوير، ج2، ص: 74
للموصوف لأنه صار نعتا إذ أصل النعت أن يكون وصفا ثابتا و أصل الخبر أن يكون وصفا حادثا، و هذا استعمال متبع في فصيح الكلام أن يعاد الاسم أو الفعل بعد ذكره ليبنى على وصف أو متعلق كقوله إِلهاً واحِداً [البقرة: 133]. و قوله: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان: 27] و قد تقدم عند قوله تعالى: ... و التنكير في إِلهٌ للنوعية لأن المقصود منه تقرير معنى الألوهية، و ليس للإفراد لأن الإفراد استفيد من قوله واحِدٌ خلافا لصاحب «المفتاح» في قوله تعالى: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ* [الأنعام: 19] إذ جعل التنكير في إِلهٌ للإفراد و جعل تفسيره بالواحد بيانا للوحدة لأن المصير إلى الإفراد في القصد من التنكير مصير لا يختاره البليغ ما وجد عنه مندوحة.
و قوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تأكيد لمعنى الوحدة و تنصيص عليها لرفع احتمال أن يكون المراد الكمال كقولهم في المبالغة هو نسيج وحده، أو أن يكون المراد إله المسلمين خاصة كما يتوهمه المشركون ألا ترى إلى قول أبي سفيان: «لنا العزّى و لا عزّى لكم».
و قد أفادت جملة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ التوحيد لأنها نفت حقيقة الألوهية عن غير اللّه تعالى. و خبر لا محذوف دل عليه ما في لا من معنى النفي لأن كل سامع يعلم أن المراد نفي هذه الحقيقة فالتقدير لا إله موجود إلّا هو. و قد عرضت حيرة للنحاة في تقدير الخبر في هاته الكلمة لأن تقدير موجود يوهم أنه قد يوجد إله ليس هو موجودا في وقت التكلم بهاته الجملة، و أنا أجيب بأن المقصود إبطال وجود إله غير اللّه ردا على الذين ادعوا آلهة موجودة الآن و أما انتفاء وجود إله في المستقبل فمعلوم لأن الأجناس التي لم توجد لا يترقب وجودها من بعد لأن مثبتي الآلهة يثبتون لها القدم فلا يتوهم تزايدها، و نسب إلى الزمخشري أنه لا تقدير لخبر هنا و أن أصل لا إله إلا هو هو إله فقدم إِلهٌ و أخر (هو) لأجل الحصر بإلّا و ذكروا أنه ألف في ذلك «رسالة»، و هذا تكلف و الحق عندي أن المقدرات لا مفاهيم لها فليس تقدير لا إله موجود بمنزلة النطق بقولك لا إله موجود بل إن التقدير لإظهار معاني الكلام و تقريب الفهم و إلّا فإن لا النافية إذا نفت النكرة فقد دلت على نفي الجنس أي نفي تحقق الحقيقة فمعنى لا إله انتفاء الألوهية إلا الله أي إلّا اللّه.
و قوله: الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ و صفان للضمير، أي المنعم بجلائل النعم و دقائقها و هما و صفان للمدح و فيهما تلميح لدليل الألوهية و الانفراد بها لأنه منعم، و غيره ليس بمنعم و ليس في الصفتين دلالة على الحصر و لكنهما تعريض به هنا لأن الكلام مسوق لإبطال
التحرير و التنوير، ج2، ص: 75
ألوهية غيره فكان ما يذكر من الأوصاف المقتضية للألوهية هو في معنى قصرها عليه تعالى، و في الجمع بين وصفي الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ما تقدم ذكره في سورة الفاتحة على أن في ذكر صفة الرحمن إغاظة للمشركين فإنهم أبوا وصف اللّه بالرحمن كما حكى اللّه عنهم بقوله: قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ [الفرقان: 60].
و اعلم أن قوله: إِلَّا هُوَ استثناء من الإله المنفي أي إن جنس الإله منفي إلّا هذا الفرد، و خبر (لا) في مثل هاته المواضع يكثر حذفه لأن لا التبرئة مفيدة لنفي الجنس فالفائدة حاصلة منها و لا تحتاج للخبر إلّا إذا أريد تقييد النفي بحالة نحو لا رجل في الدار غير أنهم لما كرهوا بقاء صورة اسم و حرف بلا خبر ذكروا مع اسم لا خبرا ألا ترى أنهم إذا وجدوا شيئا يسد مسد الخبر في الصورة حذفوا الخبر مع لا نحو الاستثناء في لا إله إلّا اللّه، و نحو التكرير في قوله لا نسب اليوم و لا خلة. و لأبي حيان هنا تكلفات.
[164]
[سورة البقرة (2): آية 164]
موقع هاته الآية عقب سابقتها موقع الحجة من الدعوى، ذلك أن اللّه تعالى أعلن أن الإله إله واحد لا إله غيره و هي قضية من شأنها أن تتلقى بالإنكار من كثير من الناس فناسب إقامة الحجة لمن لا يقتنع فجاء بهذه الدلائل الواضحة التي لا يسع الناظر إلّا التسليم إليها.
فإن هنا لمجرد الاهتمام بالخبر للفت الأنظار إليه، و يحتمل أنهم نزلوا منزلة من ينكر أن يكون في ذلك آيات لقوم يعقلون) لأنهم لم يجروا على ما تدل عليه تلك الآيات.
و ليست إِنَ هنا بمؤذنة بتعليل للجملة التي قبلها لأن شرط ذلك أن يكون مضمون الجملة التي بعدها صالحا لتعليل مضمون التي قبلها بحيث يكون الموقع لفاء العطف فحينئذ يغني وقوع (إن) عن الإتيان بفاء العطف كما ذكره الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» و قد بسطنا فيه عند قوله تعالى: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ [البقرة: 61].
و المقصود من هاته الآية إثبات دلائل وجود اللّه تعالى و وحدانيته و لذلك ذكرت إثر ذكر الوحدانية لأنها إذا أثبتت بها الوحدانية ثبت الوجود بالضرورة. فالآية صالحة للرد
التحرير و التنوير، ج2، ص: 76
على كفار قريش دهريهم و مشركهم و المشركون هم المقصود ابتداء، و قد قرر اللّه في هاته الآية دلائل كلها واضحة من أصناف المخلوقات و هي مع وضوحها تشتمل على أسرار يتفاوت الناس في دركها حتى يتناول كل صنف من العقلاء مقدار الأدلة منها على قدر قرائحهم و علومهم.
و الخلق هنا بمعنى المصدر و اختير هنا لأنه جامع لكل ما فيه عبرة من مخلوقات السماوات و الأرض، و للعبرة أيضا في نفس الهيئة الاجتماعية من تكوين السماوات و الأرض و النظام الجامع بينها فكما كل مخلوق منها أو فيها هو آية و عبرة فكذلك مجموع خلقها، و لعل الآية تشير إلى ما يعبر عنه في علم الهيئة بالنظام الشمسي و هو النظام المنضبط في أحوال الأرض مع الكواكب السيارة المعبر عنها بالسماوات.
و السَّماواتِ جمع سماء و السماء إذا أطلقت مفردة فالمراد بها الجو المرتفع فوقنا الذي يبدو كأنه قبة زرقاء و هو الفضاء العظيم الذي تسبح فيه الكواكب و ذلك المراد في نحو قوله تعالى: وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الملك: 5]، إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصافات: 6]، وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً [البقرة: 22]. و إذا جمعت فالمراد بها أجرام عظيمة ذات نظام خاص مثل الأرض و هي السيارات العظيمة المعروفة و التي عرفت من بعد و التي ستعرف: عطارد و الزهرة و المريخ و الشمس و المشتري و زحل و أرانوس و نبتون. و لعلها هي السموات السبع و العرش العظيم، و هذا السر في جمع (السموات) هنا و إفراد (الأرض) لأن الأرض عالم واحد و أما جمعها في بعض الآيات فهو على معنى طبقاتها أو أقسام سطحها.
و المعنى إن في خلق مجموع السموات مع الأرض آيات، فلذلك أفرد الخلق و جعلت الأرض معطوفا على السموات ليتسلط المضاف عليهما.
و الآية في هذا الخلق لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ آية عظيمة لمن عرف أسرار هذا النظام و قواعد الجاذبية التي أودعها اللّه تعالى في سير مجموع هاته السيارات على وجه لا يعتريه خلل و لا خرق لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40]، و أعظم تلك الأسرار تكوينها على هيئة كرية قال الفخر كان عمر بن الحسام يقرأ «كتاب المجسطي» على عمر الأبهري فقال لهما بعض الفقهاء يوما ما الذي تقرءونه فقال الأبهري أفّسر قوله تعالى: أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها [ق:
6] فأنا أفسر كيفية بنائها و لقد صدق الأبهري فيما قال فإن كل من كان أكثر توغلا في بحار
التحرير و التنوير، ج2، ص: 77
المخلوقات كان أكثر علما بجلال اللّه تعالى و عظمته اه.
قلت و من بديع هذا الخلق أن جعله اللّه تعالى يمد بعضه بعضا بما يحتاجه كل فلا ينقص من الممدّ شيء، لأنه يمده غيره يما يخلف له ما نقص، و هكذا نجد الموجودات متفاعلة، فالبحر يمد الجو بالرطوبة فتكون منه المياه النازلة ثم هو لا ينقص مع طول الآباد لأنه يمده كل نهر و واد.
و هي آية لمن كان في العقل دون هاته المرتبة فأدرك من مجموع هذا الخلق مشهدا بديعا في طلوع الشمس و غروبها و ظهور الكواكب في الجو و غروبها.
و أما الاعتبار بما فيها من المخلوقات و ما يحف بها من الموجودات كالنجوم الثوابت و الشهب و ما في الأرض من جبال و بحار و أنهار و حيوان فذلك من تفاريع تلك الهيئة الاجتماعية.
و قوله: وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ تذكير بآية أخرى عظيمة لا تخفى على أحد من العقلاء و هي اختلاف الليل و النهار أعني اختلاف حالتي الأرض في ضياء و ظلمة، و ما في الضياء من الفوائد للناس و ما في الظلمة من الفوائد لهم لحصول سكونهم و استرجاع قواهم المنهوكة بالعمل.
و في ذلك آية لخاصة العقلاء إذ يعلمون أسباب اختلاف الليل و النهار على الأرض و أنه من آثار دوران الأرض حول الشمس في كل يوم و لهذا جعلت الآية في اختلافهما و ذلك يقتضي أن كلا منهما آية.
و الاختلاف افتعال من الخلف و هو أن يجيئ شيء عوضا عن شيء آخر يخلفه في مكانه و الخلفة بكسر الخاء الخلف قال زهير:
«بها العين و الآرام يمشين خلفة» و قد أضيف الاختلاف لكل من الليل و النهار لأن كل واحد منهما يخلف الآخر فتحصل منه فوائد تعاكس فوائد الآخر بحيث لو دام أحدهما لانقلب النفع ضررا قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ [القصص: 71، 72].