کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج2، ص: 202
و بالقياس و هو أن حرمة المسجد الحرام متقررة في الشريعة فلما أذن اللّه بقتل من قاتل في المسجد الحرام علمنا أن العلة هي أن القتال فيه تعريض بحرمته للاستخفاف، فكذلك عياذ الجاني به، و بمثل قوله قال الشافعي، لكن قال الشافعي إذا التجأ المجرم المسلم إلى المسجد الحرام يضيق عليه حتى يخرج فإن لم يخرج جاز قتله، و قال أبو حنيفة: لا يقتل الكافر إذا التجأ إلى الحرم إلّا إذا قاتل فيه لنص هاته الآية و هي محكمة عنده غير منسوخة و هو قول طاووس و مجاهد.
قال ابن العربي في «الأحكام»: حضرت في بيت المقدس بمدرسة أبي عقبة الحنفي و القاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة فبينا نحن كذلك إذ دخل رجل عليه أطمار فسلم سلام العلماء و تصدر في المجلس، فقال القاضي الزنجاني: من السيد؟
فقال: رجل من طلبة العلم بصاغان سلبه الشطار أمس، و مقصدي هذا الحرم المقدس فقال القاضي الزنجاني: سلوه عن العادة في مبادرة العلماء بمبادرة أسئلتهم، و وقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا؟ فأجاب بأنه لا يقتل، فسئل عن الدليل فقال: قوله تعالى: وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فإن قرئ (و لا تقتلوهم) فالآية نص و إن قرئ (و لا تقاتلوهم) فهي تنبيه، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا على النهي عن القتل فاعترض عليه الزنجاني منتصرا لمالك و الشافعي و إن لم ير مذهبهما على العادة، فقال هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] فقال الصاغاني هذا لا يليق بمنصب القاضي، فإن الآية التي اعترضت بها عامة في الأماكن و التي احتججت بها خاصة و لا يجوز لأحد أن يقول: إن العام ينسخ الخاص فأبهت القاضي الزنجاني، و هذا من بديع الكلام ا ه.
و جواب هذا أن العام المتأخر عن العمل بالخاص ناسخ و حديث ابن خطل دل على أن الآية التي في براءة ناسخة لآية البقرة. و أما قول الحنفية و بعض المالكية: إن قتل ابن خطل كان في اليوم الذي أحل اللّه له فيه مكة فيدفعه أن تلك الساعة انتهت بالفتح و قد ثبت في ذلك الحديث أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قد نزع حينئذ المغفر و ذلك أمارة انتهاء ساعة الحرب.
و قال ابن العربي في «الأحكام»: الكافر إذا لم يقاتل و لم يجن جناية و لجأ إلى الحرم فإنه لا يقتل، يريد أنه لا يقتل القتل الذي اقتضته آية وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ
التحرير و التنوير، ج2، ص: 203
و هو مما شمله قوله تعالى: لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ .
و قوله: كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ، الإشارة إلى القتل المأخوذ من قوله: فَاقْتُلُوهُمْ أي كذلك القتل جزاؤهم على حد ما تقدم في قوله: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] و نكتة الإشارة تهويله أي لا يقل جزاء المشركين عن القتل و لا مصلحة في الإبقاء عليهم؛ و هذا تهديد لهم، فقوله كَذلِكَ خبر مقدم للاهتمام و ليست الإشارة إلى وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 190] لأن المقاتلة ليست جزاء؛ إذ لا انتقام فيها بل القتال سجال يوما بيوم.
و قوله: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي فإن انتهوا عن قتالكم فلا تقتلوهم؛ لأن اللّه غفور رحيم، فينبعي أن يكون الغفران سنة المؤمنين، فقوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ جواب الشرط و هو إيجاز بديع؛ إذ كل سامع يعلم أن وصف اللّه بالمغفرة و الرحمة لا يترتب على الانتهاء فيعلم أنه تنبيه لوجوب المغفرة لهم إن انتهوا بموعظة و تأييد للمحذوف، و هذا من إيجاز الحذف.
و الانتهاء: أصله مطاوع نهى يقال: نهاه فانتهى ثم توسع فيه فأطلق على الكف عن عمل أو عن عزم؛ لأن النهي هو طلب ترك فعل سواء كان الطلب بعد تلبس المطلوب بالفعل أو قبل تلبسه به قال النابغة:
لقد نهيت بني ذبيان عن أقر
و عن تربّعهم في كل إصفار
أي عن الوقوع في ذلك.
[193]
[سورة البقرة (2): آية 193]
عطف على جملة وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [البقرة: 190] و كان مقتضى الظاهر ألا تعطف هذه الجملة؛ لأنها مبينة لما أجمل من غاية الأمر بقتال المشركين و لكنها عطفت لما وقع من الفصل بينها و بين الجملة المبيّنة.
و قد تضمنت الجمل السابقة من قوله: وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة:
191] إلى هنا تفصيلا لجملة وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ؛ لأن عموم الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ تنشأ عنه احتمالات في الأحوال و الأزمنة و البقاع و قد انقضى بيان أحوال
التحرير و التنوير، ج2، ص: 204
البقاع و أفضت التوبة الآن إلى بيان تحديد الأحوال بغاية ألا تكون فتنة. فإذا انتهت الفتنة فتلك غاية القتال، أي إن خاسوا بالعهد و خفروا الذمة في المدة التي بينكم على ترك القتال فقد أصبحتم في حل من عهدهم فلكم أن تقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أخرى من بعد يفتنونكم بها و حتى يدخلوا في الإسلام، فهذا كله معلق بالشرط المتقدم في قوله: فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: 191]، فإعادة فعل وَ قاتِلُوهُمْ لتبنى عليه الغاية بقوله: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ و بتلك الغاية حصلت المغايرة بينه و بين وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ و هي التي باعتبارها ساغ عطفه على مثله. ف (حتى) في قوله: حَتَّى لا تَكُونَ إما أن تجعل للغاية مرادفة إلى، و إما أن تجعل بمعنى كي التعليلية و هما متلازمان؛ لأن القتال لما غيي بذلك تعين أن الغاية هي المقصد، و متى كانت الغاية غير حسية نشأ عن (حتى) معنى التعليل، فإن العلة غاية اعتبارية كقوله تعالى: وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ [البقرة: 217]. و أيّا ما كان فالمضارع منصوب بعد (حتى) بأن مضمرة للدلالة على ترتب الغاية.
و الفتنة تقدمت قريبا. و المراد بها هنا كالمراد بها هنالك، و لما وقعت هنا في سياق النفي عمت جميع الفتن فلذلك ساوت المذكورة هنا المذكورة في قوله تعالى: وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 191] فإعادة الفتنة منكرة هنا لا يدل على المغايرة كما هو الشائع بين المعربين في أن المعرفة إذا أعيدت نكرة فهي غير الأولى؛ لأن وقوعها في سياق النفي أفاد العموم فشمل جميع أفراد الفتنة مساويا للفتنة المعرفة بلام الاستغراق إلّا أنه استغراق عرفي بقرينة السياق فتقيد بثلاثة قيود بالقرينة أي حتى لا تكون فتنة منهم للمسلمين في أمر الدين و إلّا فقد وقعت فتن بين المسلمين أنفسهم كما
في حديث: «ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلّا دخلته»
. و انتفاء الفتنة يتحقق بأحد أمرين: إما بأن يدخل المشركون في الإسلام فتنزل فتنتهم فيه، و إما بأن يقتلوا جميعا فتزول الفتنة بفناء الفاتنين. و قد يفرض انتفاء الفتنة بظهور المسلمين عليهم و مصير المشركين ضعفاء أمام قوة المسلمين، بحيث يخشون بأسهم، إلّا أن الفتنة لما كانت ناشئة عن التصلب في دينهم و شركهم لم تكن بالتي تضمحل عند ضعفهم، لأن الإقدام على إرضاء العقيدة يصدر حتى من الضعيف كما صدر من اليهود غير مرة في المدينة في مثل قصة الشاة المسمومة، و قتلهم عبد اللّه بن سهل الحارثي في خيبر، و لذلك فليس المقصود هنا إلّا أحد أمرين: إما دخولهم في الإسلام و إما إفناؤهم بالقتل،
التحرير و التنوير، ج2، ص: 205
و قد حصل كلا الأمرين في المشركين ففريق أسلموا، و فريق قتلوا يوم بدر و غيره من الغزوات، و من ثم قال علماؤنا: لا تقبل من مشركين العرب الجزية، و من ثم فسر بعض المفسرين الفتنة هنا بالشرك تفسيرا باعتبار المقصود من المعنى لا باعتبار مدلول اللفظ.
و قوله: وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ عطف على لا تَكُونَ فِتْنَةٌ فهو معمول لأن المضمرة بعد (حتى) أي و حتى يكون الدين للّه، أي حتى لا يكون دين هنالك إلّا للّه أي وحده.
فالتعريف في الدين تعريف الجنس، لأن الدين من أسماء المواهي التي لا أفراد لها في الخارج فلا يحتمل تعريفه معنى الاستغراق.
و اللام الداخلة على اسم الجلالة لام الاختصاص أي حتى يكون جنس الدين مختصا باللّه تعالى على نحو ما قرر في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة: 2]، و ذلك يئول إلى معنى الاستغراق و لكنه ليس عينه، إذ لا نظر في مثل هذا للأفراد، و المعنى: و يكون دين الذين تقاتلونهم خالصا للّه لا حظ للإشراك فيه.
و المقصود من هذا تخليص بلاد العرب من دين الشرك و عموم الإسلام لها؛ لأن اللّه اختارها لأن تكون قلب الإسلام و منبع معينه فلا يكون القلب صالحا إذا كان مخلوط العناصر.
و قد أخرج البخاري عن عبد اللّه بن عمر أثرا جيدا قال: جاء رجلان إلى ابن عمر أيام فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس صنعوا ما ترى و أنت ابن عمر و صاحب النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن اللّه حرم دم أخي، فقالا: ألم يقل اللّه تعالى:
وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فقال ابن عمر: قاتلنا مع رسول اللّه حتى لم تكن فتنة و كان الدين للّه و أنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة و يكون الدين لغير اللّه، قال ابن عمر: كان الإسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه و إما عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة. و سيأتي بيان آخر في نظير هذه الآية من سورة الأنفال.
و قوله: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ، أي فإن انتهوا عن نقض الصلح أو فإن انتهوا عن الشرك بأن آمنوا فلا عدوان عليهم، و هذا تصريح بمفهوم قوله: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [البقرة: 190] و احتيج إليه لبعد الصفة بطول الكلام و لاقتضاء المقام التصريح بأهم الغايتين من القتال؛ لئلا يتوهم أن آخر الكلام نسخ أوله و أوجب قتال المشركين في كل حال.
التحرير و التنوير، ج2، ص: 206
و قوله: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ قائم مقام جواب الشرط لأنه علة الجواب المحذوف، و المعنى فإن انتهوا عن قتالكم و لم يقدموا عليه فلا تأخذوهم بالظنة و لا تبدءوهم بالقتال، لأنهم غير ظالمين؛ و إذ لا عدوان إلّا على الظالمين، و هو مجاز بديع.
و العدوان هنا إما مصدر عدا بمعنى و ثب و قاتل أي فلا هجوم عليهم، و إما مصدر عدا بمعنى ظلم كاعتدى فتكون تسميته عدوانا مشاكلة لقوله: عَلَى الظَّالِمِينَ كما سمي جزاء السيئة بالسوء سيئة. و هذه المشاكلة تقديرية.
[194]
[سورة البقرة (2): آية 194]
جملة مستأنفة فصلت عن سوابقها لأنه استئناف بياني؛ فإنه لما بين تعميم الأمكنة و أخرج منها المسجد الحرام في حالة خاصة كان السامع بحيث يتساءل عما يماثل البقاع الحرام و هو الأزمنة الحرام أعني الأشهر الحرم التي يتوقع حظر القتال فيها. فإن كان هذا تشريعا نازلا على غير حادثة فهو استكمال و استفصال لما تدعو الحاجة إلى بيانه في هذا المقام المهم، و إن كان نازلا على سبب كما قيل: إن المسلمين في عام القضية لما قصدوا مكة في ذي القعدة سنة سبع معتمرين خشوا ألّا يفي لهم المشركون بدخول مكة أو أن يغدروهم و يتعرضوا لهم بالقتال قبل دخول مكة و هم في شهر حرام، فإن دافعوا عن أنفسهم انتهكوا حرمة الشهر فنزلت هذه الآية، أو ما
روي عن الحسن أن المشركين قالوا للنبيء صلّى اللّه عليه و سلّم حين اعتمر عمرة القضية: أنهيت يا محمد عن القتال في الشهر الحرام قال:
نعم، فأرادوا قتاله فنزلت هذه الآية
أي إن استحلوا قتالكم في الشهر الحرام فقاتلوهم أي أباح اللّه لهم قتال المدافعة، فإطلاق الشهر هنا على حذف مضاف واضح التقدير من المقام و من وصفه بالحرام، و التقدير حرمة الشهر الحرام، و تكرير لفظ الشهر على هذا الوجه غير مقصود منه التعدد بل التكرير باعتبار اختلاف جهة إبطال حرمته أي انتهاكهم حرمته تسوغ لكم انتهاك حرمته.
و قيل: معنى قوله: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ، أن قريشا صدتهم عن البيت عام الحديبية سنة ست و يسر اللّه لهم الرجوع عام القضية سنة سبع فقال لهم: هذا الشهر الذي دخلتم فيه بدل عن الذي صددتم فيه، و نقل هذا عن ابن عباس و قتادة و الضحاك و السدي، يعني أنه من قبيل قولهم: «يوم بيوم و الحرب سجال».
التحرير و التنوير، ج2، ص: 207
و الباء في قوله: بِالشَّهْرِ الْحَرامِ للتعويض كقولهم: صاعا بصاع و ليس ثمة شهران بل المراد انتهاك الحرمة منهم و منكم و هما انتهاكان.
و التعريف في الشهر هنا في الموضعين يجوز أن يكون تعريف الجنس و هو الأظهر، لأنه يفيد حكما عاما و يشمل كل شهر خاص من الأشهر الحرم على فرض كون المقصود شهر عمرة القضية، و يجوز أن يكون التعريف للعهد إن كان المراد شهر عمرة القضية.
و الأشهر الحرم أربعة: ثلاثة متتابعة هي ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم، و حرمتها لوقوع الحج فيها ذهابا و رجوعا و أداء، و شهر واحد مفرد و هو رجب و كان في الجاهلية شهر العمرة و قد حرّمته مضر كلها و لذلك يقال له: رجب مضر، و قد أشير إليها في قوله تعالى: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة: 36].
و قوله: وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ تعميم للحكم و لذلك عطفه ليكون كالحجة لما قبله من قوله: وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة: 191] و قوله:
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ إلخ، فالجملة تذييل و الواو اعتراضية. و معنى كونها قصاصا أي مماثلة في المجازاة و الانتصاف، فمن انتهكها بجناية يعاقب فيها جزاء جنايته، و ذلك أن اللّه جعل الحرمة للأشهر الحرم لقصد الأمن فإذا أراد أحد أن يتخذ ذلك ذريعة إلى غدر الأمن أو الإضرار به فعلى الآخر الدفاع عن نفسه، لأن حرمة الناس مقدمة على حرمة الأزمنة، و يشمل ذلك حرمة المكان كما تقدم في قوله تعالى: وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة: 191]، و الإخبار عن الحرمات بلفظ (قصاص) إخبار بالمصدر للمبالغة.
و قوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ تفريع عن قوله: وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ و نتيجة له، و هذا وجه قول «الكشاف»: إنه فذلكة، و سمي جزاء الاعتداء اعتداء مشاكلة على نحو ما تقدم آنفا في قوله: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة: 193].
و قوله: بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ يشمل المماثلة في المقدار و في الأحوال ككونه في الشهر الحرام أو البلد الحرام.
و قوله: وَ اتَّقُوا اللَّهَ أمر بالاتقاء في الاعتداء أي بألا يتجاوز الحد، لأن شأن المنتقم أن يكون عن غضب فهو مظنة الإفراط.
و قوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ افتتاح الكلام بكلمة اعلم إيذان بالاهتمام بما
التحرير و التنوير، ج2، ص: 208
سيقوله، فإن قولك في الخطاب: اعلم إنباء بأهمية ما سيلقى للمخاطب و سيأتي بسط الكلام فيه عند قوله تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ في سورة الأنفال [24]، و المعية هنا مجاز في الإعانة بالنصر و الوقاية، و يجوز أن يكون المعنى: و اتقوا اللّه في حرماته في غير أحوال الاضطرار: و اعلموا أن اللّه مع المتقين فهو يجعلهم بمحل عنايته.
[195]
[سورة البقرة (2): آية 195]
هذه الجملة معطوفة على جملة وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 190] إلخ فإنهم لما أمروا بقتال عدوهم و كان العدو أوفر منهم عدة حرب أيقظهم إلى الاستعداد بإنفاق الأموال في سبيل اللّه، فالمخاطبون بالأمر بالإنفاق جميع المسلمين لا خصوص المقاتلين.
و وجه الحاجة إلى هذا الأمر. مع أن الاستعداد للحرب مركوز في الطباع- تنبيه المسلمين فإنهم قد يقصرون في الإتيان على منتهى الاستعداد لعدو قوي، لأنهم قد ملئت قلوبهم إيمانا باللّه و ثقة به، و ملئت أسماعهم بوعد اللّه إياهم النصر و أخيرا بقوله:
وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ نبهوا على أن تعهد اللّه لهم بالتأييد و النصر لا يسقط عنهم أخذ العدة المعروفة فلا يحسبوا أنهم غير مأمورين ببذل الوسع لوسائل النصر التي هي أسباب ناط اللّه تعالى بها مسبباتها على حسب الحكمة التي اقتضاها النظام الذي سنه اللّه في الأسباب و مسبباتها، فتطلب المسببات دون أسبابها غلط و سوء أدب مع خالق الأسباب و مسبباتها كي لا يكونوا كالذين قالوا لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 24] فالمسلمون إذا بذلوا و سعهم، و لم يفرطوا في شيء ثم ارتبكوا في أمر بعد ذلك فاللّه ناصرهم، و مؤيدهم فيما لا قبل لهم بتحصيله و لقد نصرهم اللّه ببدر هم أذلة، إذ هم يؤمئذ جملة المسلمين و إذ لم يقصروا في شيء، فأما أقوام يتلفون أموال المسلمين في شهواتهم، و يفيتون الفرص وقت الأمن فلا يستعدون لشيء ثم يطلبون بعد ذلك من اللّه النصر و الظفر فأولئك قوم مغرورون، و لذلك يسلط اللّه عليهم أعداءهم بتفريطهم، و لعله يتداركهم في خلال ذلك بلطفه فيما يرجع إلى استبقاء الدين.
و الإنفاق تقدم في قوله تعالى: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3].