کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج3، ص: 299
[سورة آلعمران (3): الآيات 183 الى 184]
أبدل الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ من الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ [آل عمران: 181] لذكر قولة أخرى شنيعة منهم، و هي كذبهم على اللّه في أنّه عهد إليهم على ألسنة أنبيائهم أنّ لا يؤمنوا لرسول حتّى يأتيهم بقربان، أي حتّى يذبح قربانا فتأكله نار تنزل من السماء، فتلك علامة القبول، و قد كان هذا حصل في زمن موسى عليه السلام حين ذبح أوّل قربان على النحو الذي شرعه الله لبني إسرائيل فخرجت نار من عند الرّب فأحرقته. كما في سفر اللاويين. إلّا أنه معجزة لا تطّرد لسائر الأنبياء كما زعمه اليهود لأنّ معجزات الرسل تجيء على ما يناسب تصديق الأمّة. و
في الحديث: «ما من الأنبياء نبيء إلّا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، و إنّما كان الذي أوتيت وحيا أوحى اللّه إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة»
فقال اللّه تعالى لنبيّه: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ .
و هذا الضرب من الجدل مبنيّ على التسليم، أي إذا سلّمنا ذلك فليس امتناعكم من اتّباع الإسلام لأجل انتظار هذه المعجزة فإنّكم قد كذّبتم الرسل الذين جاؤوكم بها و قتلتموهم، و لا يخفي أنّ التسليم يأتي على مذهب الخصم إذ لا شكّ أنّ بني إسرائيل قتلوا أنبياء منهم بعد أن آمنوا بهم، مثل زكرياء و يحيى و أشعياء و أرمياء، فالإيمان بهم أوّل الأمر يستلزم أنهم جاؤوا بالقربان تأكله النار على قولهم، و قتلهم آخرا يستلزم أنّ عدم الثبات على الإيمان بالأنبياء شنشنة قديمة في اليهود و أنّهم إنّما يتّبعون أهواءهم، فلا عجب أن يأتي خلفهم بمثل ما أتى به سلفهم.
و قوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ظاهر في أنّ ما زعموه من العهد لهم بذلك كذب و معاذير باطلة.
و إنّما قال: وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ عدل إلى الموصول للاختصار و تسجيلا عليهم في نسبة ذلك لهم و نظيره قوله تعالى: وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً إلى قوله: وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ [مريم: 77، 80] أي نرث ماله و ولده.
ثم سلى اللّه نبيه صلى اللّه عليه و سلم
بقوله: «فإن كذّبوك فقد كذّب رسل من قبلك»
و المذكور بعد
التحرير و التنوير، ج3، ص: 300
الفاء دليل الجواب لأنّه علّته، و التقدير: فإن كذّبوك فلا عجب أو فلا تخزن لأنّ هذه سنّة قديمة في الأمم مع الرسل مثلك، و ليس ذلك لنقص فيما جئت به. و البيّنات: الدلائل على الصدق، و الزبر جمع زبور و هو فعول بمعنى مفعول مثل رسول، أي مزبور بمعنى مخطوط. و قد قيل: إنه مأخوذ من زبر إذا زجر أو حبس لأنّ الكتاب يقصد للحكم. و أريد بالزبر كتب الأنبياء و الرسل، ممّا يتضمّن مواعظ و تذكيرا مثل كتاب داوود و الإنجيل.
و المراد بالكتاب المنير: إن كان التعريف للجنس فهو كتب الشرائع مثل التوراة و الإنجيل، و إن كان للعهد فهو التوراة، و وصفه بالمنير مجاز بمعنى المبيّن للحق كقوله:
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ [المائدة: 44] و العطف منظور فيه إلى التوزيع، فبعض الرسل جاء بالزّبر، و بعضهم بالكتاب المنير، و كلّهم جاء بالبيّنات.
و قرأ الجمهور وَ الزُّبُرِ بعطف الزبر بدون إعادة باء الجرّ.
و قرأه ابن عامر: و بالزبر- بإعادة باء الجرّ بعد واو العطف- و كذلك هو مرسوم في المصحف الشامي.
و قرأ الجمهور: و الكتاب- بدون إعادة باء الجرّ- و قرأه هشام عن ابن عامر- و بالكتاب- باعادة باء الجرّ- و هذا انفرد به هشام، و قد قيل: إنّه كتب كذلك في بعض مصاحف الشام العتيقة، و ليست في المصحف الإمام. و يوشك أن تكون هذه الرواية لهشام عن ابن عامر شاذّة في هذه الآية، و أنّ المصاحف التي كتبت بإثبات الباء في قوله:
وَ بِالْكِتابِ [فاطر: 25] كانت مملاة من حفّاظ هذه الرواية الشاذّة.
[185]
[سورة آلعمران (3): آية 185]
هذه الآية مرتبطة بأصل الغرض المسوق له الكلام، و هو تسلية المؤمنين على ما أصابهم يوم أحد، و تفنيد المنافقين في مزاعمهم أنّ الناس لو استشاروهم في القتال لأشاروا بما فيه سلامتهم فلا يهلكوا، فبعد أنّ بيّن لهم ما يدفع توهّمهم أنّ الانهزام كان خذلانا من اللّه و تعجّبهم منه كيف يلحق قوما خرجوا لنصر الدين و أن لا سبب للهزيمة بقوله: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ [آل عمران: 155] ثم بيّن لهم أنّ في تلك الرّزية فوائد بقول اللّه تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ [آل عمران: 153] و قوله: وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 166]، ثم أمرهم بالتسليم للّه في كلّ حال فقال: وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ
التحرير و التنوير، ج3، ص: 301
فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: 166] و قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ [آل عمران: 156] الآية. و بيّن لهم أنّ قتلى المؤمنين الذين حزنوا لهم إنّما هم أحياء، و أنّ المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم لا يضيع اللّه أجرهم و لا فضل ثباتهم، و بيّن لهم أنّ سلامة الكفّار لا ينبغي أن تحزن المؤمنين و لا أن تسرّ الكافرين، و أبطل في خلال ذلك مقال المنافقين بقوله: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ [آل عمران: 154] و بقوله: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا [آل عمران: 168] إلى قوله: قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: 168] ختم ذلك كلّه بما هو جامع للغرضين في قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لأنّ المصيبة و الحزن إنّما نشآ على موت من استشهد من خيرة المؤمنين، يعني أنّ الموت لمّا كان غاية كلّ حيّ فلو لم يموتوا اليوم لماتوا بعد ذلك فلا تأسفوا على موت قتلاكم في سبيل اللّه، و لا يفتنكم المنافقون بذلك، و يكون قوله بعده: وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ قصر قلب لتنزيل المؤمنين فيما أصابهم من الحزن على قتلاهم و على هزيمتهم، منزلة من لا يترقّب من عمله إلّا منافع الدنيا و هو النصر و الغنيمة، مع أنّ نهاية الأجر في نعيم الآخرة، و لذلك قال: تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ أي تكمل لكم، و فيه تعريض، بأنّهم قد حصلت لهم أجور عظيمة في الدنيا على تأييدهم للدين: منها النصر يوم بدر، و منها كفّ أيدي المشركين عنهم في أيام مقامهم بمكّة إلى أن تمكّنوا من الهجرة.
و الذوق هنا أطلق على وجدان الموت، تقدّم بيان استعماله عند قوله آنفا: وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [آل عمران: 181] و شاع إطلاقه على حصول الموت، قال تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ [الدخان: 56] و يقال ذاق طعم الموت.
و التوفية: إعطاء الشيء وافيا. و يطلقها الفقهاء على مطلق الإعطاء و التسليم، و الأجور جمع الأجر بمعنى الثواب، و وجه جمعه مراعاة أنواع الأعمال. و يوم القيامة يوم الحشر سمّي بذلك لأنّه يقوم فيه الناس من خمود الموت إلى نهوض الحياة.
و الفاء في قوله: فَمَنْ زُحْزِحَ للتفريع على تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ ، و معنى: زُحْزِحَ أبعد. و حقيقة فعل زحزح أنها جذب بسرعة، و هو مضاعف زحّه عن المكان إذا جذبه بعجلة.
و إنّما جمع بين زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ ، مع أنّ في الثاني غنية عن الأوّل، للدلالة على أنّ دخول الجنة يشتمل على نعمتين عظيمتين: النجاة من النار، و نعيم الجنّة.
التحرير و التنوير، ج3، ص: 302
و معنى فَقَدْ فازَ نال مبتغاه من الخير لأنّ ترتّب الفوز على دخول الجنّة و الزحزحة عن النار معلوم فلا فائدة في ذكر الشرط إلّا لهذا. و العرب تعتمد في هذا على القرائن، فقد يكون الجواب عين الشرط لبيان التحقّق، نحو قول القائل: من عرفني فقد عرفني، و قد يكون عينه بزيادة قيد نحو قوله تعالى: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً و قد يكون على معنى بلوغ أقصى غايات نوع الجواب و الشرط كما في هذه الآية و قوله: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ على أحد وجهين، و قول العرب: «من أدرك مرعى الصّمّان فقد أدرك» و جميع ما قرّر في الجواب يأتي مثله في الصفة و نحوها كقوله: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [القصص: 63].
[186]
[سورة آلعمران (3): آية 186]
استئناف لإيقاظ المؤمنين إلى ما يعترض أهل الحقّ و أنصار الرسل من البلوى، و تنبيه لهم على أنّهم إن كانوا ممّن توهنهم الهزيمة فليسوا أحرياء بنصر الحقّ، و أكّد الفعل بلام القسم و بنون التوكيد الشديدة لإفادة تحقيق الابتلاء، إذ نون التوكيد الشديدة أقوى في الدلالة على التوكيد من الخفيفة.
فأصل لَتُبْلَوُنَ لتبلووننّ فلمّا توالى ثلاث نونات ثقل في النطق فحذفت نون الرفع فالتقى ساكنان: واو الرفع و نون التوكيد الشديدة، فحذفت واو الرفع لأنّها ليست أصلا في الكلمة فصار لتبلونّ. و كذلك القول في تصريف قوله تعالى: وَ لَتَسْمَعُنَ و في توكيده.
و الابتلاء: الاختبار، و يراد به هنا لازمه و هو المصيبة، لأنّ في المصائب اختبارا لمقدار الثبات. و الابتلاء في الأموال هو نفقات الجهاد، و تلاشي أموالهم التي تركوها بمكّة. و الابتلاء في الأنفس هو القتل و الجراح. و جمع مع ذلك سماع المكروه من أهل الكتاب و المشركين في يوم أحد و بعده.
و الأذى هو الضرّ بالقول كقوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمران: 111] كما تقدّم آنفا، و لذلك وصفه هنا بالكثير، أي الخارج عن الحدّ الذي تحتمله النفوس غالبا، و كلّ ذلك ممّا يفضي إلى الفشل، فأمرهم اللّه بالصبر على ذلك حتّى يحصل لهم النصر، و أمرهم بالتقوى أي الدوام على أمور الإيمان و الإقبال على بثّه و تأييده، فأمّا الصبر على
التحرير و التنوير، ج3، ص: 303
الابتلاء في الأموال و الأنفس فيشمل الجهاد، و أمّا الصبر على الأذى ففي وقتى الحرب و السلم، فليست الآية مقتضية عدم الإذن بالقتال من حيث إنه أمرهم بالصبر على أذى الكفّار حتّى تكون منسوخة بآيات السيف، لأنّ الظاهر أنّ الآية نزلت بعد وقعة أحد، و هي بعد الأمر بالقتال. قاله القفّال.
و قوله: فَإِنَّ ذلِكَ الإشارة إلى ما تقدّم من الصبر و التقوى بتأويل: فإنّ المذكور.
و (عزم الأمور) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور العزم، و وصف الأمور و هو جمع بعزم و هو مفرد لأنّ أصل عزم أنه مصدر فيلزم لفظه حالة واحدة، و هو هنا مصدر بمعنى المفعول، أي من الأمور المعزوم عليها. و العزم إمضاء الرأي و عدم التردّد بعد تبيين السداد. قال تعالى: وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:
159] و المراد هنا العزم في الخيرات، قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] و قال: وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115].
و وقع قوله: فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ دليلا على جواب الشرط، و التقدير: و إن تصبروا و تتّقوا تنالوا ثواب أهل العزم فإنّ ذلك من عزم الأمور.
[187]
[سورة آلعمران (3): آية 187]
معطوف على قوله: وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [آل عمران: 186] فإنّ تكذيب الرسول من أكبر الأذى للمسلمين و إنّ الطعن في كلامه و أحكام شريعته من ذلك كقولهم: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: 181]. و القول في معنى أخذ اللّه تقدّم في قوله: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ* [البقرة: 34] و نحوه.
و الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هم اليهود، و هذا الميثاق أخذ على سلفهم من عهد رسولهم و أنبيائهم، و كان فيه ما يدلّ على عمومه لعلماء أمّتهم في سائر أجيالهم إلى أن يجيء رسول.
و جملة لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ بيان للميثاق، فهي حكاية اليمين حين اقترحت عليهم، و لذلك جاءت بصيغة خطابهم بالمحلوف عليه كما قرأ بذلك الجمهور، و قرأه ابن كثير، و أبو عمرو، و أبو بكر عن عاصم: ليبيّننّه- بياء الغيبة- على طريقة الحكاية بالمعنى، حيث
التحرير و التنوير، ج3، ص: 304
كان المأخوذ عليهم هذا العهد غائبين في وقت الإخبار عنهم. و للعرب في مثل هذه الحكايات وجوه: باعتبار كلام الحاكي، و كلام المحكي عنه، فقد يكون فيه و جهان كالمحكي بالقول في نحو: أقسم زيد لا يفعل كذا، و أقسم لا أفعل كذا، و قد يكون فيه ثلاثة أوجه: كما في قوله تعالى: قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ [النمل: 49] قرىء- بالنون و التاء الفوقية و الياء التحتية- لنبيّتنّه لتبيّتنّه ليبيّتنّه، إذا جعل تقاسموا فعلا ماضيا فإذا جعل أمرا جاز و جهان: في لنبيّتنّه النون و التاء الفوقية. و القول في تصريف و إعراب لَتُبَيِّنُنَّهُ كالقول في لَتُبْلَوُنَ المتقدّم قريبا.
و قد أخذ عليهم الميثاق بأمرين: هما بيان الكتاب أي عدم إجمال معانيه أو تحريف تأويله، و عدم كتمانه إي إخفاء شيء منه. فقوله: وَ لا تَكْتُمُونَهُ عطف على لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ و لم يقرن بنون التوكيد لأنّها لا تقارن الفعل المنفي لتنافي مقتضاهما.
و قوله: فَنَبَذُوهُ عطف بالفاء الدالّة على التعقيب للإشارة إلى مسارعتهم إلى ذلك، و الذين نبذوه هم علماء اليهود في عصورهم الأخيرة القريبة من عهد الرسالة المحمّدية، فالتعقيب الذي بين أخذ الميثاق عليهم و بين نبذهم إيّاه منظور فيه إلى مبادرتهم بالنبذ عقب الوقت الذي تحقّق فيه أثر أخذ الميثاق، و هو وقت تأهّل كلّ واحد من علمائهم لتبيين الكتاب و إعلانه فهو إذا أنس من نفسه المقدرة على فهم الكتاب و التصرّف في معانيه بادر باتّخاذ تلك المقدرة وسيلة لسوء التأويل و التحريف و الكتمان. و يجوز أن تكون الفاء مستعملة في لازم التعقيب، و هو شدّة المسارعة لذلك عند اقتضاء الحال إيّاه و الاهتمام به و صرف الفكرة فيه. و يجوز أن يكون التعقيب بحسب الحوادث التي أساؤوا فيها التأويل و اشتروا بها الثمن القليل، لأنّ الميثاق لمّا كان عامّا كانت كلّ جزئية مأخوذا عليها الميثاق، فالجزئية التي لم يعملوا فيها بالميثاق يكون فيها تعقيب ميثاقها بالنبذ و الاشتراء.
و النبذ: الطرح و الإلقاء، و هو هنا مستعار لعدم العمل بالعهد تشبيها للعهد بالشيء المنبوذ في عدم الانتفاع به.
و وراء الظّهور هنا تمثيل للإضاعة و الإهمال، لأنّ شأن الشيء المهتمّ به المتنافس فيه أن يجعل نصب العين و يحرس و يشاهد. قال تعالى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 48]. و شأن الشيء المرغوب عنه أن يستدبر و لا يلتفت إليه، و في هذا التمثيل ترشيح لاستعارة النبذ لإخلاف العهد.
و الضميران: المنصوب و المجرور، يجوز عودهما إلى الميثاق أي استخفّوا بعهد اللّه
التحرير و التنوير، ج3، ص: 305
و عوّضوه بثمن قليل، و ذلك يتضمّن أنّهم أهملوا ما واثقوا عليه من تبيين الكتاب و عدم كتمانه، و يجوز عودهما إلى الكتاب أي أهملوا الكتاب و لم يعتنوا به، و المراد إهمال أحكامه و تعويض إقامتها بنفع قليل، و ذلك يدلّ على نوعي الإهمال، و هما إهمال آياته و إهمال معانيه.
و الاشتراء هنا مجاز في المبادلة و الثمن القليل، و هو ما يأخذونه من الرّشى و الجوائز من أهل الأهواء و الظلم من الرؤساء و العامّة على تأييد المظالم و المفاسد بالتأويلات الباطلة، و تأويل كلّ حكم فيه ضرب على أيدي الجبابرة و الظلمة بما يطلق أيديهم في ظلم الرعيّة من ضروب التأويلات الباطلة، و تحذيرات الذين يصدعون بتغيير المنكر. و هذه الآية و إن كانت في أهل الكتاب إلّا أنّ حكمها يشمل من يرتكب مثل صنيعهم من المسلمين لاتّحاد جنس الحكم و العلّة فيه.
[188]
[سورة آلعمران (3): آية 188]
تكملة لأحوال أهل الكتاب المتحدّث عنهم ببيان حالة خلقهم بعد أن بيّن اختلال أمانتهم في تبليغ الدين، و هذا ضرب آخر جاء به فريق آخر من أهل الكتاب فلذلك عبّر عنهم بالموصول للتوصّل إلى ذكر صلته العجيبة من حال من يفعل الشرّ و الخسّة ثم لا يقف عند حدّ الانكسار لما فعل أو تطلّب الستر على شنعته، بل يرتقي فيترقّب ثناء الناس على سوء صنعه، و يتطلّب المحمدة عليه. و قيل: نزلت في المنافقين، و الخطاب لكلّ من يصلح له الخطاب، و الموصول هنا بمعنى المعرّف بلام العهد لأنّ أريد به قوم معيّنون من اليهود أو المنافقين، فمعنى يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا أنّهم يفرحون بما فعلوا ممّا تقدّم ذكره، و هو نبذ الكتاب و الاشتراء به ثمنا قليلا و إنّما فرحهم بما نالوا بفعلهم من نفع في الدنيا.
و معنى: يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا أنّهم يحبّون الثناء عليهم بأنّهم حفظة الشريعة و حرّاسها و العالمون بتأويلها، و ذلك خلاف الواقع. هذا ظاهر معنى الآية. و هو قول مجاهد. و عن ابن عباس أنّهم أتوا إضلال أتباعهم عن الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه و سلم و أحبّوا الحمد بأنّهم علماء بكتب الدين.