کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج5، ص: 45
قدور المجوس. فقال له: «أنقوها غسلا و اطبخوا فيها»
. و
في البخاري: أنّ أبا ثعلبة سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم عن آنية أهل الكتاب. فقال له: «إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، و إن لم تجدوا فاغسلوها ثمّ كلوا فيها»
. قال ابن العربي: «فغسل آنية المجوس فرض، و غسل آنية أهل الكتاب ندب». يريد لأنّ اللّه أباح لنا طعام أهل الكتاب فقد علم حالهم، و إنّما يسري الشكّ إلى آنيتهم من طعامهم و هو مأذون فيه، و لم يبح لنا طعام المجوس، فذلك منزع التفرقة بين آنية الفريقين.
ثم الطعام الشامل للذكاة إنّما يعتبر طعاما لهم إذا كانوا يستحلّونه في دينهم، و يأكله أحبارهم و علماؤهم، و لو كان ممّا ذكر القرآن أنّه حرّمه عليهم، لأنّهم قد تأوّلوا في دينهم تأويلات، و هذا قول مالك. و أرى أنّ دليله: أنّ الآية عمّمت طعامهم فكان عمومها دليلا للمسلمين، و لا التفات إلى ما حكى اللّه أنّه حرّمه عليهم ثم أباحه للمسلمين، فكان عموم طعامهم في شرعنا مباحا ناسخا للمحرّم عليهم، و لا نصير إلى الاحتجاج «بشرع من قبلنا ...» إلّا إذا لم يكن لنا دليل على حكمه في شرعنا. و قيل: لا يؤكل ما علمنا تحريمه عليهم بنصّ القرآن، و هو قول بعض أهل العلم، و قيل به في مذهب مالك، و المعتمد عن مالك كراهة شحوم بقر و غنم اليهود من غير تحريم؛ لأنّ اللّه ذكر أنه حرّم عليهم الشحوم.
و من المعلوم أن لا تعمل ذكاة أهل الكتاب و لا إباحة طعامهم فيما حرّمه اللّه علينا بعينه: كالخنزير و الدم، و لا ما حرّمه علينا بوصفه، الذي ليس بذكاة: كالميتة و المنخنقة و الموقوذة و المتردّية و النطيحة و أكيلة السبع، إذا كانوا هم يستحلّون ذلك، فأمّا ما كانت ذكاتهم فيه مخالفة لذكاتنا مخالفة تقصير لا مخالفة زيادة فذلك محلّ نظر كالمضروبة بمحدّد على رأسها فتموت، و المفتولة العنق فتتمزّق العروق، فقال جمهور العلماء: لا يؤكل. و قال أبو بكر ابن العربي من المالكية: تؤكل. و قال في «الأحكام»: فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق و حطم الرأس فالجواب: أنّ هذه ميتة، و هي حرام بالنصّ، و إن أكلوها فلا نأكلها نحن، كالخنزير فإنّه حلال لهم و من طعامهم و هو حرام علينا- يريد إباحته عند النصارى- ثم قال: و لقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها؛ هل تؤكل معه أو تؤخذ طعاما منه، فقلت: تؤكل لأنها طعامه و طعام أحباره و رهبانه، و إن لم تكن هذه ذكاة عندنا و لكن اللّه تعالى أباح طعامهم مطلقا و كلّ ما يرونه في دينهم فإنّه حلال لنا في ديننا». و أشكل على كثير من الناظرين وجه الجمع بين كلامي ابن العربي، و إنّما أراد التفرقة بين ما هو من أنواع قطع الحلقوم، و الأوداج و لو بالخنق،
التحرير و التنوير، ج5، ص: 46
و بين نحو الخنق لحبس النفس، و رضّ الرأس و قول ابن العربي شذوذ.
و قوله: وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ لم يعرّج المفسّرون على بيان المناسبة بذكر وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ . و الذي أراه أنّ اللّه تعالى نبّهنا بهذا إلى التيسير في مخالطتهم، فأباح لنا طعامهم، و أباح لنا أن نطعمهم طعامنا، فعلم من هذين الحكمين أنّ علّة الرخصة في تناولنا طعامهم هو الحاجة إلى مخالطتهم، و ذلك أيضا تمهيد لقوله بعد:
وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لأنّ ذلك يقتضي شدّة المخالطة معهم لتزوّج نسائهم و المصاهرة معهم.
عطف وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ على وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ عطف المفرد على المفرد. و لم يعرّج المفسّرون على بيان المناسبة لذكر حلّ المحصنات من المؤمنات في أثناء إباحة طعام أهل الكتاب، و إباحة تزوّج نسائهم. و عندي: أنّه إيماء إلى أنّهنّ أولى بالمؤمنين من محصنات أهل الكتاب، و المقصود هو حكم المحصنات من الذين أوتوا الكتاب فإنّ هذه الآية جاءت لإباحة التزوّج بالكتابيات. فقوله: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عطف على وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ . فالتقدير:
و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم.
و المحصنات: النسوة الّلاء أحصنهنّ ما أحصنهنّ، أي منعهنّ عن الخنا أو عن الريب، فأطلق الإحصان: على المعصومات بعصمة الأزواج كما في قوله تعالى في سورة النساء [24] عطفا على المحرّمات الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ ؛ و على المسلمات لأنّ الإسلام و زعهن عن الخنا، قال الشاعر:
و يصدّهن عن الخنا الإسلام و أطلق على الحرائر، لأنّ الحرائر يترفّعن عن الخنا من عهد الجاهلية. و لا يصلح من هذه المعاني هنا الأوّل، إذ لا يحلّ تزوّج ذات الزوج، و لا الثاني لقوله: مِنَ الْمُؤْمِناتِ الذي هو ظاهر في أنّهنّ بعض المؤمنات فتعيّن معنى الحرية، ففسّرها مالك بالحرائر، و لذلك منع نكاح الحرّ الأمة إلّا إذا خشي العنت و لم يجد للحرائر طولا، و جوّز
التحرير و التنوير، ج5، ص: 47
ذلك للعبد، و كأنّه جعل الخطاب هنا للأحرار بالقرينة و بقرينة آية النساء [25] وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ و هو تفسير بيّن ملتئم. و أصل ذلك لعمر بن الخطاب و مجاهد. و من العلماء من فسّر المحصنات هنا بالعفائف، و نقل عن الشعبي و غيره، فمنعوا تزوّج غير العفيفة من النساء لرقّة دينها و سوء خلقها.
و كذلك القول في تفسير قوله: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي الحرائر عند مالك، و لذلك منع نكاح إماء أهل الكتاب مطلقا للحرّ و العبد. و الذين فسّروا المحصنات بالعفائف منعوا هنا ما منعوا هناك.
و شمل أهل الكتاب: الذمّيّين، و المعاهدين، و أهل الحرب، و هو ظاهر، إلّا أنّ مالكا كره نكاح النساء الحربيّات، و عن ابن عبّاس: تخصيص الآية بغير نساء أهل الحرب، فمنع نكاح الحربيات. و لم يذكروا دليله.
و الأجور: المهور، و سمّيت هنا (أجورا) مجازا في معنى الأعواض عن المنافع الحاصلة من آثار عقدة النكاح، على وجه الاستعارة أو المجاز المرسل. و المهر شعار متقادم في البشر للتفرقة بين النكاح و بين المخادنة. و لو كانت المهور أجورا حقيقة لوجب تحديد مدّة الانتفاع و مقداره و ذلك ممّا تنزّه عنه عقدة النكاح.
و القول في قوله: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ كالقول في نظيره مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ [النساء: 25] تقدّم في هذه السورة.
و جملة وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ معترضة بين الجمل. و المقصود التنبيه على أنّ إباحة تزوّج نساء أهل الكتاب لا يقتضي تزكية لحالهم، و لكن ذلك تيسير على المسلمين. و قد ذكر في سبب نزولها أنّ نساء أهل الكتاب قلن «لولا أنّ اللّه رضي ديننا لم يبح لكم نكاحنا». و المراد بالإيمان الإيمان المعهود و هو إيمان المسلمين الذي بسببه لقّبوا بالمؤمنين، فالكفر هنا الكفر بالرسل، أي: ينكر الإيمان، أي ينكر ما يقتضيه الإيمان من المعتقدات، إذ الإيمان صار لقبا لمجموع ما يجب التصديق به.
و الحبط- بسكون الموحّدة- و الحبوط: فساد شيء كان صالحا، و منه سمّي الحبط- بفتحتين- مرض يصيب الإبل من جرّاء أكل الخضر في أوّل الربيع فتنتفخ أمعاؤها و ربما ماتت. و فعل (حبط) يؤذن بأنّ الحابط كان صالحا فانقلب إلى فساد. و المراد من الفساد هنا الضياع و البطلان، و هو أشدّ الفساد، فدلّ فعل (حبط) على أنّ الأعمال صالحة،
التحرير و التنوير، ج5، ص: 48
و حذف الوصف لدلالة الفعل عليه. و هذا تشبيه لضياع الأعمال الصالحة بفساد الذوات النافعة، و وجه الشبه عدم انتفاع مكتسبها منها. و المراد ضياع ثوابها و ما يترقّبه العامل من الجزاء عليها و الفوز بها.
و المراد التحذير من الارتداد عن الإيمان، و الترغيب في الدخول فيه كذلك، ليعلم أهل الكتاب أنّهم لا تنفعهم قرباتهم و أعمالهم، و يعلم المشركون ذلك.
[6]
[سورة المائدة (5): آية 6]
إذا جرينا على ما تحصحص لدينا و تمحّص: من أنّ سورة المائدة هي من آخر السور نزولا، و أنّها نزلت في عام حجّة الوداع، جزمنا بأنّ هذه الآية نزلت هنا تذكيرا بنعمة عظيمة من نعم التّشريع: و هي منّة شرع التيمّم عند مشقّة التطهّر بالماء، فجزمنا بأنّ هذا الحكم كلّه مشروع من قبل، و إنّما ذكر هنا في عداد النّعم الّتي امتنّ اللّه بها على المسلمين، فإنّ الآثار صحّت بأنّ الوضوء و الغسل شرعا مع وجوب الصّلاة، و بأنّ التيمّم شرع في غزوة المريسيع سنة خمس أو ستّ. و قد تقدّم لنا في تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى - في سورة النّساء [43]- الخلاف في أنّ الآية الّتي نزل فيها شرع التيمّم أ هي آية سورة النّساء، أم آية سورة المائدة. و ذكرنا هنالك أنّ حديث «الموطأ» من رواية مالك عن عبد الرحمان بن القاسم عن أبيه عن عائشة ليس فيه تعيين الآية و لكن سمّاها آية التيمّم، و أنّ القرطبي اختار أنّها آية النّساء لأنّها المعروفة بآية التيمّم، و كذلك اختار الواحدي في «أسباب النّزول»، و ذكرنا أنّ صريح رواية عمرو بن حريث عن عائشة: أنّ الآية الّتي نزلت في غزوة المريسيع هي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية، كما أخرجه البخاري عن يحيى عن ابن وهب عن عمرو بن حريث عن عبد الرحمان بن القاسم، و لا يساعد مختارنا في تاريخ نزول سورة المائدة، فإن لم يكن ما في حديث البخاري سهوا من أحد رواته غير عبد الرحمان بن القاسم و أبيه، أراد أن يذكر آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى
التحرير و التنوير، ج5، ص: 49
تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ، و هي آية النّساء [43]، فذكر آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الآية. فتعيّن تأويله حينئذ بأن تكون آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ قد نزلت قبل نزول سورة المائدة، ثمّ أعيد نزولها في سورة المائدة، أو أمر اللّه أن توضع في هذا الموضع من سورة المائدة، و الأرجح عندي: أن يكون ما في حديث البخاري و هما من بعض رواته لأنّ بين الآيتين مشابهة.
فالأظهر أنّ هذه الآية أريد منها تأكيد شرع الوضوء و شرع التيمّم خلفا عن الوضوء بنصّ القرآن؛ لأنّ ذلك لم يسبق نزول قرآن فيه و لكنّه كان مشروعا بالسنّة. و لا شكّ أنّ الوضوء كان مشروعا من قبل ذلك، فقد ثبت أنّ النّبيء صلى اللّه عليه و سلّم لم يصلّ صلاة إلّا بوضوء.
قال أبو بكر ابن العربي في «الأحكام» «لا خلاف بين العلماء في أنّ الآية مدنية، كما أنّه لا خلاف أنّ الوضوء كان مفعولا قبل نزولها غير متلوّ و لذلك قال علماؤنا: إنّ الوضوء كان بمكّة سنّة، معناه كان بالسنّة. فأمّا حكمه فلم يكن قطّ إلّا فرضا» و قد روى ابن إسحاق و غيره أنّ النّبيء صلى اللّه عليه و سلّم لمّا فرض اللّه سبحانه عليه الصّلاة ليلة الإسراء و نزل جبريل ظهر ذلك اليوم ليصلّي بهم فهمز بعقبه فانبعث ماء و توضّأ معلّما له و توضّأ هو معه فصلّى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم. و هذا صحيح و إن كان لم يروه أهل الصّحيح و لكنّهم تركوه لأنّهم لم يحتاجوا إليه اه.
و في «سيرة ابن إسحاق» ثمّ انصرف جبريل فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم خديجة فتوضّأ لها ليريها كيف الطهور للصّلاة كما أراه جبريل اه. و قولهم: الوضوء سنّة روي عن عبد اللّه بن مسعود. و قد تأوّله ابن العربي بأنّه ثابت بالسنّة. قال بعض علمائنا: و لذلك قالوا في حديث عائشة: فنزلت آية التّيمّم؛ و لم يقولوا: آية الوضوء؛ لمعرفتهم إيّاه قبل الآية.
فالوضوء مشروع مع الصّلاة لا محالة، إذ لم يذكر العلماء إلّا شرع الصّلاة و لم يذكروا شرع الوضوء بعد ذلك، فهذه الآية قرّرت حكم الوضوء ليكون ثبوته بالقرآن.
و كذلك الاغتسال فهو مشروع من قبل، كما شرع الوضوء بل هو أسبق من الوضوء؛ لأنّه من بقايا الحنيفية الّتي كانت معروفة حتّى أيّام الجاهليّة، و قد وضّحنا ذلك في سورة النّساء. و لذلك أجمل التّعبير عنه هنا و هنالك بقوله هنا فَاطَّهَّرُوا ، و قوله هنالك تَغْتَسِلُوا [النساء: 43]، فتمحّضت الآية لشرع التيمّم عوضا عن الوضوء.
و معنى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إذا عزمتم على الصّلاة، لأنّ القيام يطلق في كلام
التحرير و التنوير، ج5، ص: 50
العرب بمعنى الشروع في الفعل، قال الشاعر:
فقام يذود النّاس عنها بسيفه
و قال ألا لا من سبيل إلى هند
و على العزم على الفعل، قال النابغة:
قاموا فقالوا حمانا غير مقروب أي عزموا رأيهم فقالوا. و القيام هنا كذلك بقرينة تعديته ب (إلى) لتضمينه معنى عمدتم إلى أن تصلّوا.
و روى مالك في «الموطّأ» عن زيد بن أسلم أنّه فسّر القيام بمعنى الهبوب من النوم، و هو مروي عن السديّ. فهذه وجوه الأقوال في تفسير معنى القيام في هذه الآية، و كلّها تؤول إلى أنّ إيجاب الطهارة لأجل أداء الصّلاة.
و أمّا ما يرجع إلى تأويل معنى الشرط الذي في قوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الآية فظاهر الآية الأمر بالوضوء عند كلّ صلاة لأنّ الأمر بغسل ما أمر بغسله شرط ب إِذا قُمْتُمْ فاقتضى طلب غسل هذه الأعضاء عند كلّ قيام إلى الصّلاة. و الأمر ظاهر في الوجوب. و قد وقف عند هذا الظاهر قليل من السلف؛ فروي عن علي بن أبي طالب و عكرمة وجوب الوضوء لكلّ صلاة و نسبه الطبرسي إلى داوود الظاهري، و لم يذكر ذلك ابن حزم في «المحلّى» و لم أره لغير الطبرسي. و قال بريدة بن أبي بردة: كان الوضوء واجبا على المسلمين لكلّ صلاة ثمّ نسخ ذلك عام الفتح بفعل النّبيء صلى اللّه عليه و سلّم، فصلّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد، و صلّى في غزوة خيبر العصر و المغرب بوضوء واحد. و قال بعضهم: هذا حكم خاصّ بالنّبيء صلى اللّه عليه و سلّم. و هذا قول عجيب إن أراد به صاحبه حمل الآية عليه، كيف و هي مصدّرة بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا . و الجمهور حملوا الآية على معنى «إذا قمتم محدثين» و لعلّهم استندوا في ذلك إلى آية النّساء [43] المصدّرة بقوله: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى - إلى قوله- وَ لا جُنُباً الآية. و حملوا ما كان يفعله النّبيء صلى اللّه عليه و سلّم من الوضوء لكلّ صلاة على أنّه كان فرضا على النّبيء صلى اللّه عليه و سلّم خاصّا به غير داخل في هذه الآية، و أنّه نسخ وجوبه عليه يوم فتح مكّة؛ و منهم من حمله على أنّ النّبيء صلى اللّه عليه و سلّم كان يلتزم ذلك و حملوا ما كان يفعله الخلفاء الراشدون و ابن عمر من الوضوء لفضل إعادة الوضوء لكلّ صلاة. و هو الّذي لا ينبغي القول بغيره. و الّذين فسّروا القيام بمعنى القيام من النّوم أرادوا تمهيد طريق التأويل بأن يكون الأمر قد نيط بوجود موجب
التحرير و التنوير، ج5، ص: 51
الوضوء. و إنّي لأعجب من هذه الطرق في التأويل مع استغناء الآية عنها؛ لأنّ تأويلها فيها بيّن لأنّها افتتحت بشرط، هو القيام إلى الصّلاة، فعلمنا أنّ الوضوء شرط في الصّلاة على الجملة ثمّ بيّن هذا الإجمال بقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى - إلى قوله- أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ - إلى قوله- فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا فجعل هذه الأشياء موجبة للتّيمّم إذا لم يوجد الماء، فعلم من هذا بدلالة الإشارة أنّ امتثال الأمر يستمرّ إلى حدوث حادث من هذه المذكورات، إمّا مانع من أصل الوضوء و هو المرض و السفر، و إمّا رافع لحكم الوضوء بعد وقوعه و هو الأحداث المذكور بعضها بقوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ، فإن وجد الماء فالوضوء و إلّا فالتيمّم، فمفهوم الشرط و هو قوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى و مفهوم النّفي و هو فَلَمْ تَجِدُوا ماءً تأويل بيّن في صرف هذا الظّاهر عن معناه بل في بيان هذا المجمل، و تفسير واضح لحمل ما فعله الخلفاء على أنّه لقصد الفضيلة لا للوجوب.
و ما ذكره القرآن من أعضاء الوضوء هو الواجب و ما زاد عليه سنّة واجبة. و حدّدت الآية الأيدي ببلوغ المرافق لأنّ اليد تطلق على ما بلغ الكوع و ما إلى المرفق و ما إلى الإبط فرفعت الآية الإجمال في الوضوء لقصد المبالغة في النّظافة و سكتت في التّيمّم فعلمنا أنّ السكوت مقصود و أنّ التيمّم لمّا كان مبناه على الرخصة اكتفى بصورة الفعل و ظاهر العضو، و لذلك اقتصر على قوله: وَ أَيْدِيَكُمْ في التيمّم في هذه السورة و في سورة النّساء. و هذا من طريق الاستفادة بالمقابلة، و هو طريق بديع في الإيجاز أهمله علماء البلاغة و علماء الأصول فاحتفظ به و ألحقه بمسائلهما.
و قد اختلف الأئمّة في أنّ المرافق مغسولة أو متروكة، و الأظهر أنّها مغسولة لأنّ الأصل في الغاية في الحدّ أنّه داخل في المحدود. و في «المدارك» أنّ القاضي إسماعيل بن إسحاق سئل عن دخول الحدّ في المحدود فتوقّف فيها. ثمّ قال للسائل بعد أيّام: قرأت «كتاب سيبويه» فرأيت أنّ الحدّ داخل في المحدود. و في مذهب مالك: قولان في دخول المرافق في الغسل، و أولاهما دخولهما. قال الشيخ أبو محمد: و إدخالهما فيه أحوط لزوال تكلّف التحديد. و عن أبي هريرة: أنّه يغسل يديه إلى الإبطين، و تؤوّل عليه بأنّه أراد إطالة الغرّة يوم القيامة. و قيل: تكره الزيادة.