کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج9، ص: 97
عن ذلك كله بالإيمان.
و ما قَدْ سَلَفَ هو ما أسلفوه من الكفر و آثاره، و هذا، و إن كان قضية خاصة بالمشركين المخاطبين، فهو شامل كل كافر لتساوي الحال.
و لفظ الغفران حقيقة شرعية في العفو عن جزاء الذنوب في الآخرة، و ذلك مهيع الآية فهو معلوم منها بالقصد الأول لا محالة، و يلحق به هنا عذاب اللّه في الدنيا لقوله:
فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ .
و استنبط أئمتنا من هذه الآية أحكاما للأفعال و التبعات التي قد تصدر من الكفار في حال كفره فإذا هو أسلم قبل أن يؤاخذ بها هل يسقط عنه إسلامه التبعات بها.
و ذلك يرجع إلى ما استقريته و أصّلته في دلالة آي القرآن على ما يصح أن تدل عليه ألفاظها و تراكيبها في المقدمة التاسعة من هذا التفسير، فروى ابن العربي في «الأحكام» أن ابن القاسم، و أشهب، و ابن وهب، رووا عن مالك في هذه الآية: أن من طلّق في الشرك ثم أسلم فلا طلاق عليه، و من حلف يمينا ثم أسلم فلا حنث عليه فيها، و روى عن مالك: إنما يعني عز و جل ما قد مضى قبل الإسلام من مال أو دم أو شيء، قال ابن العربي و هو الصواب لعموم قوله: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ، و إن ابن القاسم، و ابن وهب، رويا عن مالك أن الكافر إذا افترى على مسلم أو سرق ثم أسلم يقام عليه الحد، و لو زنى ثم أسلم أو اغتصب مسلمة ثم أسلم لسقط عنه الحد تفرقة بين ما كان حقا للّه محضا و ما كان فيه حق للناس.
و ذكر القرطبي عن ابن المنذر: أنه حكى مثل ذلك عن الشافعي، و أنه احتج بهذه الآية، و في «المدونة» تسقط عنه الحدود كلها.
و ذكر في «الكشاف» عن أبي حنيفة أن الحربي إذا أسلم لم تبق عليه تبعة، و أما الذميّ فلا يلزمه قضاء حقوق اللّه و تبقى عليه حقوق الآدميين، و احتج بهذه الآية، و في كتب الفتوى لعلماء الحنفية بعض مخالفة لهذا، و حكوا في المرتد إذا تاب و عاد إلى الإسلام أنه لا يلزمه قضاء ما فاته من الصلاة و لا غرم ما أصاب من جنايات و متلفات.
و عن الشافعي يلزم ذلك كله و هو ما نسبه ابن العربي إلى الشافعي بخلاف ما نسبه إليه ابن المنذر كما تقدم و عن أبي حنيفة يسقط عنه كل حق هو للّه و لا يسقط عنه حق الناس و حجة الجميع هذه الآية تعميما و تخصيصا بمخصصات أخرى.
التحرير و التنوير، ج9، ص: 98
و في قوله تعالى: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ محسن بديعي و هو الاتزان لأنه في ميزان الرجز.
و المراد بالعود الرجوع إلى ما هم فيه من مناوأة الرسول صلى اللّه عليه و سلم و المسلمين، و التجهز لحربهم، مثل صنعهم يوم بدر، و ليس المراد عودهم إلى الكفر بعد الانتهاء لأن مقابلته بقوله: إِنْ يَنْتَهُوا تقتضي أنه ترديد بين حالتين لبيان ما يترتب على كل واحدة منهما و هذا كقول العرب بعضهم لبعض: «أسلم أنت أم حرب» و لأن الذين كفروا لما يفارقوا الكفر بعد فلا يكون المراد بالعود عودهم إلى الكفر بعد أن يسلموا.
و السنة العادة المألوفة و السيرة. و قد تقدم في قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ في آل عمران [137].
و معنى مَضَتْ تقدمت و عرفها الناس.
و هذا الخبر تعريض بالوعيد بأنهم سيلقون ما لقيه الأولون، و القرينة على إرادة التعريض بالوعيد أن ظاهر الإخبار بمضي سنة الأولين، و هو من الإخبار بشيء معلوم للمخبرين به، و بهذا الاعتبار حسن تأكيده بقد إذ المراد تأكيد المعنى التعريضي.
و بهذا الاعتبار صح وقوع قوله: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ جزاء للشرط. و لولا ذلك لما كان بين الشرط و جوابه ملازمة في شيء.
و الأولون: السابقون المتقدمون في حالة، و المراد هنا الأمم التي سبقت و عرفوا أخبارهم أنهم كذبوا رسل اللّه فلقوا عذاب الاستيصال مثل عاد و ثمود قال تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ [فاطر: 43].
و يجوز أن المراد بالأولين أيضا السابقون للمخاطبين من قومهم من أهل مكة الذين استأصلهم السيف يوم بدر، و في كل أولئك عبرة للحاضرين الباقين، و تهديد بأن يصيروا مصيرهم.
[39، 40]
[سورة الأنفال (8): الآيات 39 الى 40]
عطف على جملة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ [الأنفال: 36] الآية، و يجوز أن
التحرير و التنوير، ج9، ص: 99
تكون عطفا على جملة فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال: 38] فتكون مما يدخل في حكم جواب الشرط. و التقدير: فإن يعودوا فقاتلوهم، كقوله: وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الإسراء: 8]- و قوله- وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [التوبة: 3] و الضمير عائد إلى مشركي مكة.
و الفتنة اضطراب أمر الناس و مرجهم، و قد تقدم بيانها غير مرة، منها عند قوله تعالى: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ في سورة البقرة [102] و قوله: وَ حَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ في سورة العقود [71].
و المراد هنا أن لا تكون فتنة من المشركين لأنه لما جعل انتفاء و الفتنة غاية لقتالهم، و كان قتالهم مقصودا منه إعدامهم أو إسلامهم، و بأحد هذين يكون انتفاء الفتنة، فنتج من ذلك أن الفتنة المراد نفيها كانت حاصلة منهم و هي فتنتهم المسلمين لا محالة، لأنهم إنما يفتنون من خالفهم في الدين فإذا أسلموا حصل انتفاء فتنتهم و إذا أعدمهم اللّه فكذلك.
و هذه الآية دالة على ما ذهب إليه جمهور علماء الأمة من أن قتال المشركين واجب حتى يسلموا، و أنهم لا تقبل منهم الجزية، و لذلك قال اللّه تعالى هنا: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ - و قال في الآية الأخرى- قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ [التوبة: 29].
و هي أيضا دالة على ما رآه المحققون من مؤرخينا: من أن قتال المسلمين المشركين إنما كان أوله دفاعا لأذى المشركين ضعفاء المسلمين، و التضييق عليهم حيثما حلوا، فتلك الفتنة التي أشار إليها القرآن و لذلك قال في الآية الأخرى: وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 191].
و التعريف في الدِّينُ للجنس و تقدم الكلام على نظيرها في سورة البقرة، إلّا أن هذه الآية زيد فيها اسم التأكيد و هو كُلُّهُ و ذلك لأن هذه الآية أسبق نزولا من آية البقرة فاحتيج فيها إلى تأكيد مفاد صيغة اختصاص جنس الدين بأنه للّه تعالى، لئلا يتوهم الاقتناع بإسلام غالب المشركين فلما تقرر معنى العموم و صار نصا من هذه الآية عدل عن إعادته في آية البقرة تطلبا للإيجاز.
و قوله: فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي عليم كناية عن حسن مجازاته إياهم لأن
التحرير و التنوير، ج9، ص: 100
القادر على نفع أوليائه و مطيعيه لا يحول بينه و بين إيصال النفع إليهم الإخفاء حال من يخلص إليه، فلما أخبروا بأن اللّه مطلع على انتهائهم عن الكفر إن انتهوا عنه و كان ذلك لا يظن خلافه علم أن المقصود لازم ذلك.
و قرأ الجمهور: يَعْمَلُونَ - بياء الغائب- و قرأه رويس عن يعقوب- بتاء الخطاب.
و التولي: الإعراض و قد تقدم عند قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ في سورة العقود [92].
و المولى الذي يتولى أمر غيره و يدفع عنه و فيه معنى النصر.
و المعنى و إن تولوا عن هاته الدعوة فاللّه مغن لكم عن ولائهم، أي لا يضركم توليهم فقوله: أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ يؤذن بجواب محذوف تقديره: فلا تخافوا توليهم فإن اللّه مولاكم و هو يقدر لكم ما فيه نفعكم حتى لا تكون فتنة. و هذا
كقول النبيء صلى اللّه عليه و سلم لمسيلمة الكذاب «و لئن توليت ليعفرنك اللّه»
و إنما الخسارة عليهم إذ حرموا السلامة و الكرامة.
و افتتاح جملة جواب الشرط ب فَاعْلَمُوا لقصد الاهتمام بهذا الخبر و تحقيقه، أي لا تغفلوا عن ذلك، كما مر آنفا عند قوله تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ [الأنفال: 24].
و جملة: نِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ مستأنفة لأنها إنشاء ثناء على اللّه فكانت بمنزلة التذييل.
و عطف على نِعْمَ الْمَوْلى قوله: وَ نِعْمَ النَّصِيرُ لما في المولى من معنى النصر كما تقدم و قد تقدم بيان عطف قوله تعالى: وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ على قوله: حَسْبُنَا اللَّهُ سورة آل عمران [173].
[41]
[سورة الأنفال (8): آية 41]
انتقال لبيان ما أجمل من حكم الأنفال، الذي افتتحته السورة، ناسب الانتقال إليه ما جرى من الأمر بقتال المشركين إن عادوا إلى قتال المسلمين. و الجملة معطوفة على جملة وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال: 39].
التحرير و التنوير، ج9، ص: 101
و افتتاحه ب فَاعْلَمُوا للاهتمام بشأنه، و التنبيه على رعاية العمل به، كما تقدّم في قوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ [الأنفال: 24] فإنّ المقصود بالعلم تقرّر الجزم بأنّ ذلك حكم اللّه، و العمل بذلك المعلوم، فيكون فَاعْلَمُوا كناية مرادا به صريحه و لازمه. و الخطاب لجميع المسلمين و بالخصوص جيش بدر، و ليس هذا نسخا لحكم الأنفال المذكور أوّل السورة، بل هو بيان لإجمال قوله: لِلَّهِ ... وَ لِلرَّسُولِ و قال أبو عبيد: إنّها ناسخة، و أنّ اللّه شرع ابتداء أنّ قسمة المغانم لرسوله صلى اللّه عليه و سلم، يريد أنها لاجتهاد الرسول بدون تعيين، ثم شرع التخميس. و ذكروا: أنّ رسول اللّه لم يخمّس مغانم بدر، ثم خمّس مغانم أخرى بعد بدر، أي بعد نزول آية سورة الأنفال، و
في حديث علي: أنّ رسول اللّه أعطاه شارفا من الخمس يوم بدر
، فاقتضت هذه الرواية أنّ مغانم بدر خمّست.
و قد اضطربت أقوال المفسّرين قديما في المراد من المغنم في هذه الآية، و لم تنضبط تقارير أصحاب التفاسير في طريقة الجمع بين كلامهم على تفاوت بينهم في ذلك، و منهم من خلطها مع آية سورة الحشر، فجعل هذه ناسخة لآية الحشر و العكس، أو أنّ إحدى الآيتين مخصّصة للأخرى: إمّا في السهام، و إمّا في أنواع المغانم، و تفصيل ذلك يطول. و تردّدوا في مسمّى الفيء فصارت ثلاثة أسماء مجالا لاختلاف الأقوال: النفل، و الغنيمة، و الفيء.
و الوجه عندي في تفسير هذه الآية، و اتّصالها بقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الأنفال: 1] أنّ المراد بقوله: أَنَّما غَنِمْتُمْ في هذه الآية: ما حصلتم من الغنائم من متاع الجيش، و ذلك ما سمّي بالأنفال، في أوّل السورة، فالنفل و الغنيمة مترادفان، و ذلك مقتضى استعمال اللغة، فعن ابن عبّاس، و مجاهد، و الضحاك، و قتادة، و عكرمة، و عطاء:
الأنفال الغنائم. و عليه فوجه المخالفة بين اللفظين إذ قال تعالى هنا غَنِمْتُمْ و قال في أوّل السورة [الأنفال: 1]: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ لاقتضاء الحال التعبير هنا بفعل، و ليس في العربية فعل من مادّة النفل يفيد إسناد معناه إلى من حصل له، و لذلك فآية وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ سيقت هنا بيانا لآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ فإنّهما وردتا في انتظام متّصل من الكلام. و نرى أنّ تخصيص اسم النفل بما يعطيه أمير الجيش أحد المقاتلين زائدا على سهمه من الغنيمة سواء كان سلبا أو نحوه ممّا يسعه الخمس أو من أصل مال الغنيمة على الخلاف الآتي، إنّما هو اصطلاح شاع بين أمراء الجيوش بعد نزول هذه الآية، و قد وقع ذلك في كلام عبد اللّه بن عمر، و أمّا ما روي عن ابن عبّاس: أنّ الأنفال ما يصل إلى
التحرير و التنوير، ج9، ص: 102
المسلمين بغير قتال، فجعلها بمعنى الفيء، فمحمله على بيان الاصطلاح الذي اصطلحوا عليه من بعد.
تعبيرات السلف في التفرقة بين الغنيمة و النفل غير مضبوطة، و هذا ملاك الفصل في هذا المقام لتمييز أصناف الأموال المأخوذة في القتال، فأما صور قسمتها فسيأتي بعضها في هذه الآية.
فاصطلحوا على أنّ الغنيمة، و يقال: لها المغنم، ما يأخذه الغزاة من أمتعة المقاتلين غصبا، بقتل أو بأسر، أو يقتحمون ديارهم غازين، أو ما يتركه الأعداء في ديارهم، إذا فرّوا عند هجوم الجيش عليهم بعد ابتداء القتال. فأمّا ما يظفر به الجيش في غير حالة الغزو من مال العدوّ، و ما يتركه العدوّ من المتاع إذا أخلوا بلادهم قبل هجوم جيش المسلمين، فذلك الفيء و سيجيء في سورة الحشر.
و قد اختلف فقهاء الأمصار في مقتضى هذه الآية مع آية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الأنفال: 1] إلخ. فقال مالك: ليس أموال العدوّ المقاتل حقّ لجيش المسلمين إلّا الغنيمة و الفيء. و أمّا النفل فليس حقّا مستقلا بالحكم، و لكنّه ما يعطيه الإمام من الخمس لبعض المقاتلين زائدا على سهمه من الغنيمة، على ما يرى من الاجتهاد، و لا تعيين لمقدار النفل في الخمس و لا حدّ له، و لا يكون فيما زاد على الخمس. هذا قول مالك و رواية عن الشافعي. و هو الجاري على ما عمل به الخلفاء الثلاثة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم. و قال أبو حنيفة، و الشافعي، في أشهر الروايتين عنه، و سعيد بن المسيّب: النفل من الخمس و هو خمس الخمس.
و عن الأوزاعي، و مكحول، و جمهور الفقهاء: النفل ما يعطى من الغنيمة يخرج من ثلث الخمس.
و (ما) في قوله: أَنَّما اسم موصول و هو اسم (أنّ) و كتبت هذه في المصحف متّصلة ب (أنّ) لأنّ زمان كتابة المصحف كان قبل استقرار قواعد الرسم و ضبط الفروق فيه بين ما يتشابه نطقه و يختلف معناه، فالتفرقة في الرسم بين (ما) الكافّة و غيرها لم ينضبط زمن كتابة المصاحف الأولى، و بقيت كتابة المصاحف على مثال المصحف الإمام مبالغة في احترام القرآن عن التغيير.
و مِنْ شَيْءٍ بيان لعموم (ما) لئلا يتوهّم أنّ المقصود غنيمة معيّنة خاصّة. و الفاء في
التحرير و التنوير، ج9، ص: 103
قوله: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ لما في الموصول من معنى الاشتراط، و ما في الخبر من معنى المجازاة بتأويل: إن غنمتم فحقّ للّه خمسه إلخ.
و المصدر المؤوّل بعد (أنّ) في قوله: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مبتدأ حذف خبره، أو خبر حذف مبتدؤه، و تقدير المحذوف بما يناسب المعنى الذي دلّت عليه لام الاستحقاق، أي فحقّ للّه خمسه. و إنّما صيغ على هذا النظم، مع كون معنى اللام كافيا في الدلالة على الأحقّيّة، كما قرئ في الشاذ فلله خمسه لما يفيده الإتيان بحرف (أنّ) من الإسناد مرتين تأكيدا، و لأنّ في حذف أحد ركني الإسناد تكثيرا لوجوه الاحتمال في المقدّر، من نحو تقدير: حقّ، أو ثبات، أو لازم، أو واجب.
و اللام للملك، أو الاستحقاق، و قد علم أنّ أربعة الأخماس للغزاة الصادق عليهم ضمير غَنِمْتُمْ فثبت به أنّ الغنيمة لهم عدا خمسها.
و قد جعل اللّه خمس الغنيمة حقّا للّه و للرسول و من عطف عليهما، و كان أمر العرب في الجاهلية أنّ ربع الغنيمة يكون لقائد الجيش، و يسمّى ذلك «المرباع» بكسر الميم.
و في عرف الإسلام إذا جعل شيء حقّا للّه، من غير ما فيه عبادة له: أنّ ذلك يكون للذين يأمر اللّه بتسديد حاجتهم منه، فلكلّ نوع من الأموال مستحقّون عيّنهم الشرع، فالمعنى في قوله: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أنّ الابتداء باسم اللّه تعالى للإشارة إلى أنّ ذلك الخمس حقّ اللّه يصرفه حيث يشاء، و قد شاء فوكل صرفه إلى رسوله صلى اللّه عليه و سلم و لمن يخلف رسوله من أئمّة المسلمين. و بهذا التأويل يكون الخمس مقسوما على خمسة أسهم، و هذا قول عامّة علماء الإسلام و شذّ أبو العالية رفيع «1» الرياحي ولاء من التابعين، فقال: إنّ الخمس يقسم على خمسة أسهم فيعزل منها سهم فيضرب الأمير بيده على ذلك السهم الذي عزله فما قبضت عليه يده من ذلك جعله للكعبة: أي على وجه يشبه القرعة، ثم يقسم بقية ذلك السهم على خمسة: سهم للنبيء صلى اللّه عليه و سلم، و سهم لذوي القربى، و سهم لليتامى، و سهم للمساكين، و سهم لابن السبيل. و نسب أبو العالية ذلك إلى فعل النبيء صلى اللّه عليه و سلم.
و أمّا الرسول- عليه الصلاة و السلام- فلحقه حالتان: حالة تصرّفه في مال اللّه بما ائتمنه اللّه على سائر مصالح الأمة، و حالة انتفاعه بما يحبّ انتفاعه به من ذلك. فلذلك