کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج13، ص: 231
لتلبيس آخر مما يلبّسون به على عامّتهم، و ذلك أن يقولوا: إن محمدا يتلقّى القرآن من رجل من أهل مكة. قيل: قائل ذلك الوليد بن المغيرة و غيره، قال عنه تعالى: فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [سورة المدثر: 24]، أي لا يلّقنه ملك بل يعلّمه إنسان، و قد عيّنوه بما دلّ عليه قوله تعالى لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ .
و افتتاح الجملة بالتأكيد بلام القسم و (قد) يشير إلى أن خاصة المشركين كانوا يقولون ذلك لعامّتهم و لا يجهرون به بين المسلمين لأنه باطل مكشوف، و أن اللّه أطلع المسلمين على ذلك. فقد كان في مكّة غلام روميّ كان مولى لعامر بن الحضرمي اسمه جبر كان يصنع السيوف بمكّة و يقرأ من الإنجيل ما يقرأ أمثاله من عامّة النصارى من دعوات الصلوات، فاتّخذ زعماء المشركين من ذلك تمويها على العامة، فإن معظم أهل مكّة كانوا أمّيين فكانوا يحسبون من يتلو كلمات يحفظها و لو محرّفة، أو يكتب حروفا يتعلّمها، يحسبونه على علم، و كان النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم لما جانبه قومه و قاطعوه يجلس إلى هذا الغلام، و كان هذا الغلام قد أظهر الإسلام فقالت قريش. هذا يعلّم محمدا ما يقوله.
و قيل: كان غلام رومي اسمه بلعام، كان عبدا بمكة لرجل من قريش، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقف عليه يدعوه إلى الإسلام، فقالوا: إن محمدا يتعلّم منه، و كان هذا العبد يقول: إنّما يقف عليّ يعلّمني الإسلام.
و ظاهر الإفراد في إِلَيْهِ أن المقصود رجل واحد. و قد قيل: المراد عبدان هما جبر و يسار كانا قنّين، فيكون المراد ب بَشَرٌ الجنس، و بإفراد ضميره جريانه على أفراد معاده.
و قد كشف القرآن هذا اللّبس هنا بأوضح كشف إذ قال قولا فصلا دون طول جدال لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ، أي كيف يعلّمه و هو أعجميّ لا يكاد يبين، و هذا القرآن فصيح عربي معجز.
و الجملة جواب عن كلامهم، فهي مستأنفة استئنافا بيانيا لأن قولهم: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ يتضمّن أنه ليس منزّلا من عند اللّه فيسأل سائل: ماذا جواب قولهم؟ فيقال: لِسانُ الَّذِي ... إلخ، و هذا النّظم نظير نظم قوله تعالى: قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [سورة الأنعام: 124].
و ألحد: مثل لحد، أي مال عن القويم. فهو مما جاء من الأفعال مهموز بمعنى
التحرير و التنوير، ج13، ص: 232
المجرد، كقولهم: أبان بمعنى بان. فمعنى يُلْحِدُونَ يميلون عن الحقّ لأن ذلك اختلاق معاذير، فهم يتركون الحقّ القويم من أنه كلام منزّل من اللّه إلى أن يقولوا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ، فذلك ميل عن الحقّ و هو إلحاد.
و يجوز أن يراد بالإلحاد الميل بكلامهم المبهم إلى قصد معين لأنهم قالوا: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ و سكتوا عن تعيينه توسعة على أنفسهم في اختلاق المعاذير، فإذا وجدوا ساذجا أبله يسأل عن المعني بالبشر قالوا له: هو جبر أو بلعام، و إذا توسّموا نباهة السائل تجاهلوا و قالوا: هو بشر من الناس، فإطلاق الإلحاد على هذا المعنى مثل إطلاق الميل على الاختيار.
و قرأ نافع و الجمهور يُلْحِدُونَ - بضمّ الياء- مضارع ألحد. و قرأ حمزة و الكسائي يُلْحِدُونَ بفتح الياء من لحد مرادف ألحد. و قد تقدّم الإلحاد في قوله تعالى: وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ في سورة الأعراف [180]. و ليست هذه الهمزة كقولهم: ألحد الميت، لأن تلك للجعل ذا لحد.
و اللسان: الكلام. سمّي الكلام باسم آلته. و الأعجمي: المنسوب إلى الأعجم، و هو الذي لا يبين عن مراده من كل ناطق لا يفهمون ما يريده. و لذلك سمّوا الدوابّ العجماوات. فالياء فيه ياء النسب. و لما كان المنسوب إليه وصفا كان النسب لتقوية الوصف.
و المبين: اسم فاعل من أبان، إذا صار ذا إبانة، أي زائد في الإبانة بمعنى الفصاحة و البلاغة، فحصل تمام التضادّ بينه و بين لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ .
[104]
[سورة النحل (16): آية 104]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)
جملة معترضة. و ورود هذه الآية عقب ذكر اختلاق المتقعّرين على القرآن المرجفين بالقالة فيه بين الدهماء يومىء إلى أن المراد بالذين لا يؤمنون هم أولئك المردود عليهم آنفا. و هم فريق معلوم بشدة العداوة للنبيء صلّى اللّه عليه و سلّم و بالتصلّب في التصدّي لصرف الناس عنه بحيث بلغوا من الكفر غاية ما وراءها غاية، فحقّت عليهم كلمة اللّه أنهم لا يؤمنون، فهؤلاء فريق غير معيّن يومئذ و لكنهم مشار إليهم على وجه الإجمال، و تكشف عن تعيينهم عواقب أحوالهم.
التحرير و التنوير، ج13، ص: 233
فقد كان من الكافرين بالنبيء صلّى اللّه عليه و سلّم أبو جهل و أبو سفيان. و كان أبو سفيان أطول مدة في الكفر من أبي جهل؛ و لكن أبا جهل كان يخلط كفره بأذى النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم و الحنق عليه.
و كان أبو سفيان مقتصرا على الانتصار لدينه و لقومه و دفع المسلمين عن أن يغلبوهم فحرم اللّه أبا جهل الهداية فأهلكه كافرا، و هدى أبا سفيان فأصبح من خيرة المؤمنين، و تشرف بصهر النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم. و كان الوليد بن المغيرة و عمر بن الخطاب كافرين و كان كلاهما يدفع الناس من اتّباع الإسلام، و لكن الوليد كان يختلق المعاذير و المطاعن في القرآن و ذلك من الكيد، و عمر كان يصرف الناس بالغلظة علنا دون اختلاق، فحرم اللّه الوليد بن المغيرة الاهتداء، و هدى عمر إلى الإسلام فأصبح الإسلام به عزيز الجانب. فتبيّن الناس أن الوليد من الذين لا يؤمنون بآيات اللّه، و أن عمر ليس منهم، و قد كانا معا كافرين في زمن ما.
و يشير إلى هذا المعنى الذي ذكرناه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ [سورة الزمر: 3] فوصف من لا يهديه اللّه بوصفين الكذب و شدة الكفر.
فتبيّن أن معنى قوله تعالى: الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ من كان الإيمان منافيا لجبلّة طبعه لا لأميال هواه. و هذا يعلم اللّه أنه لا يؤمن و أنه ليس معرّضا للإيمان، فلذلك لا يهديه اللّه، أي لا يكوّن الهداية في قلبه.
و هذا الأسلوب عكس أسلوب قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كلمات رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [سورة يونس: 96]، و كل يرمي إلى معنى عظيم.
فموقع هذه الجملة من التي قبلها موقع التعليل لجميع أقوالهم المحكيّة و التذييل لخلاصة أحوالهم، و لذلك فصلت بدون عطف.
و عطف وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ على لا يَهْدِيهِمُ للدّلالة على حرمانهم من الخير و إلقائهم في الشرّ لأنهم إذا حرموا الهداية فقد وقعوا في الضلالة، و ماذا بعد الحقّ إلا الضلال، و هذا كقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ [سورة الحج: 4]. و يشمل العذاب عذاب الدنيا و هو عذاب القتل مثل ما أصاب أبا جهل يوم بدر من ألم الجراح و هو في سكرات الموت، ثم من إهانة الإجهاز عليه عقب ذلك.
[105]
[سورة النحل (16): آية 105]
التحرير و التنوير، ج13، ص: 234
هذا ردّ لقولهم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [سورة النحل: 101] بقلب ما زعموه عليهم، كما كان قوله تعالى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ [سورة النحل: 103] جوابا عن قولهم: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [سورة النحل: 103]. فبعد أن نزّه القرآن عن أن يكون مفترى و المنزّل عليه عن أن يكون مفتريا ثني العنان لبيان من هو المفتري. و هذا من طريقة القلب في الحال.
و وجه مناسبة ذكره هنا أن قولهم: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ يستلزم تكذيب النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم في أن ما جاء به منزّل إليه من عند اللّه، فصاروا بهذا الاعتبار يؤكّدون بمضمونه قولهم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ يؤكّد أحد القولين القول الآخر، فلما ردّ قولهم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بقوله:
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ* قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ [سورة النحل: 101- 102]. و ردّت مقالتهم الأخرى في صريحها بقوله لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ ، و ردّ مضمونها هنا بقوله إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ الآية، حاصلا به ردّ نظيرها أعني قولهم إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بكلام أبلغ من كلامهم، لأنهم أتوا في قولهم إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بصيغة قصر هي أبلغ مما قالوه، لأن قولهم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ قصر للمخاطب على صفة الافتراء الدائمة، إذ الجملة الاسمية تقتضي الثبات و الدّوام، فردّ عليهم بصيغة تقصرهم على الافتراء المتكرّر المتجدّد، إذ المضارع يدلّ على التجدّد.
و أكّد فعل الافتراء بمفعوله الذي هو بمعنى المفعول المطلق لكونه آئلا إليه المعنى.
و عرّف الْكَذِبَ بأداة تعريف الجنس الدّالة على تميّز ماهية الجنس و استحضارها، فإن تعريف اسم الجنس أقوى من تنكيره، كما تقدّم في قوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [سورة الفاتحة: 2].
و عبّر عن المقصور عليهم باسم الموصول دون أن يذكر ضميرهم، فيقال: إنما يفتري الكذب أنتم، ليفيد اشتهارهم بمضمون الصّلة، و لأن للصّلة أثرا في افترائهم، لما تفيده الموصولية من الإيماء إلى وجه بناء الخبر.
و عليه فإن من لا يؤمن بالدلائل الواضحة التي هي آيات صدق لا يسعه إلا الافتراء لترويج تكذيبه بالدلائل الواضحة. و في هذا كناية عن كون تكذيبهم بآيات اللّه عن مكابرة لا عن شبهة.
ثم أردفت جملة القصر بجملة قصر أخرى بطريق ضمير الفصل و طريق تعريف
التحرير و التنوير، ج13، ص: 235
المسند و هي جملة وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ .
و افتتحت باسم الإشارة، بعد إجراء وصف انتفاء الإيمان بآيات اللّه عنهم، لينبه على أن المشار إليهم جديرون بما يرد من الخبر بعد اسم الإشارة، و هو قصرهم على الكذب، لأن من لا يؤمن بآيات اللّه يتّخذ الكذب ديدنا له متجدّدا.
و جعل المسند في هذه الجملة معرّفا باللام ليفيد أن جنس الكاذبين اتّحد بهم و صار منحصرا فيهم، أي الذين تعرف أنهم طائفة الكاذبين هم هؤلاء. و هذا يؤول إلى معنى قصر جنس المسند على المسند إليه، فيحصل قصران في هذه الجملة: قصر موصوف على صفة، و قصر تلك الصفة على ذلك الموصوف. و القصران الأوّلان الحاصلان من قوله:
إِنَّما يَفْتَرِي و قوله: وَ أُولئِكَ هُمُ إضافيان، أي لا غيرهم الذي رموه بالافتراء و هو محاشى منه، و الثالث أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ قصر حقيقي ادّعائي للمبالغة، إذ نزل بلوغ الجنس فيهم مبلغا قويا منزلة انحصاره فيهم.
و اختير في الصّلة صيغة لا يُؤْمِنُونَ دون: لم يؤمنوا، لتكون على وزان ما عرفوا به سابقا في قوله: الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ ، و لما في المضارع من الدلالة على أنهم مستمرّون على انتفاء الإيمان لا يثبت لهم ضدّ ذلك.
[106]
[سورة النحل (16): آية 106]
لما سبق التّحذير من نقض عهد اللّه الذي عاهدوه، و أن لا يغرّهم ما لأمّة المشركين من السّعة و الربو، و التحذير من زلل القدم بعد ثبوتها، و بشروا بالوعد بحياة طيبة، و جزاء أعمالهم الصالحة من الإشارة إلى التّمسك بالقرآن و الاهتداء به، و أن لا تغرّهم شبه المشركين و فتونهم في تكذيب القرآن، عقب ذلك بالوعيد على الكفر بعد الإيمان، فالكلام استئناف ابتدائي.
و مناسبة الانتقال أن المشركين كانوا يحاولون فتنة الراغبين في الإسلام و الذين أسلموا، فلذلك ردّ عليهم بقوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ إلى قوله: لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة النحل: 102]، و كانوا يقولون: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [سورة النحل: 103] فردّ عليهم بقوله: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ [سورة النحل: 103]. و كان الغلام الذي عنوه بقولهم إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ قد أسلم ثم فتنه المشركون فكفر، و هو جبر مولى
التحرير و التنوير، ج13، ص: 236
عامر بن الحضرمي. و كانوا راودوا نفرا من المسلمين على الارتداد، منهم: بلال، و خبّاب بن الأرتّ، و ياسر، و سميّة أبوا عمار بن ياسر، و عمّار ابنهما، فثبتوا على الإسلام. و فتنوا عمارا فأظهر لهم الكفر و قلبه مطمئن بالإيمان. و فتنوا نفرا آخرين فكفروا، و ذكر منهم الحارث بن ربيعة بن الأسود، و أبو قيس بن الوليد بن المغيرة، و علي بن أمية بن خلف، و العاصي بن منبّه بن الحجّاج، و أحسب أن هؤلاء هم الذين نزل فيهم قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ في سورة العنكبوت [10]، فكان من هذه المناسبة ردّ لعجز الكلام على صدره.
على أن مضمون مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ مقابل لمضمون مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ [سورة النحل: 97]، فحصل الترهيب بعد الترغيب، كما ابتدئ بالتحذير تحفّظا على الصالح من الفساد، ثم أعيد الكلام بإصلاح الذين اعتراهم الفساد، و فتح باب الرخصة للمحافظين على صلاحهم بقدر الإمكان.
و اعلم أن الآية إن كانت تشير إلى نفر كفروا بعد إسلامهم كانت مَنْ موصولة و هي مبتدأ و الخبر فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ . و قرن الخبر بالفاء لأن في المبتدا شبها بأداة الشرط. و قد يعامل الموصول معاملة الشرط، و وقع في القرآن في غير موضع. و منه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [سورة البروج: 10]، و قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ إلى قوله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ في سورة براءة [34]. و قيل إن فريقا كفروا بعد إسلامهم، كما روي في شأن جبر غلام ابن الحضرمي. و هذا الوجه أليق بقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [سورة النحل: 108] الآية.
و إن كان ذلك لم يقع فالآية مجرّد تحذير للمسلمين من العود إلى الكفر، و لذلك تكون مَنْ شرطية، و الشرط غير مراد به معيّن بل هو تحذير، أي من يكفروا باللّه، لأن الماضي في الشرط ينقلب إلى معنى المضارع، و يكون قوله: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ جوابا.
و التّحذير حاصل على كلا المعنيين.
و أما قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فهو ترخيص و معذرة لما صدر من عمار بن ياسر و أمثاله إذا اشتدّ عليهم عذاب من فتنوهم.
التحرير و التنوير، ج13، ص: 237
و قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ استثناء من عموم مَنْ كَفَرَ لئلا يقع حكم الشرط عليه، أي إلا من أكرهه المشركون على الكفر، أي على إظهاره فأظهره بالقول لكنه لم يتغير اعتقاده. و هذا فريق رخّص اللّه لهم ذلك كما سيأتي.
و مصحّح الاستثناء هو أن الذي قال قول الكفّار قد كفر بلفظه.
و الاستدراك بقوله: وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً استدراك على الاستثناء، و هو احتراس من أن يفهم من الاستثناء أن المكره مرخّص له أن ينسلخ عن الإيمان من قلبه.
و مَنْ شَرَحَ معطوف ب لكِنْ على مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ، لأنه في معنى المنفي لوقوعه عقب الاستثناء من المثبت، فحرف لكِنْ عاطف و لا عبرة بوجود الواو على التحقيق.
و اختير فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ دون نحو: فقد غضب اللّه عليهم، لما تدلّ عليه الجملة الاسمية من الدوام و الثبات، أي غضب لا مغفرة معه.
و تقديم الخبر المجرور على المبتدإ للاهتمام بأمرهم، فقدّم ما يدلّ عليهم، و لتصحيح الإتيان بالمبتدأ نكرة حين قصد بالتّنكير التعظيم، أي غضب عظيم، فاكتفي بالتنكير عن الصفة.
و أما تقديم لَهُمْ على عَذابٌ عَظِيمٌ فللاهتمام.
و الإكراه: الإلجاء إلى فعل ما يكره فعله. و إنما يكون ذلك بفعل شيء تضيق عن تحمّله طاقة الإنسان من إيلام بالغ أو سجن أو قيد أو نحوه.
و قد رخّصت هذه الآية للمكره على إظهار الكفر أن يظهره بشيء من مظاهره التي يطلق عليها أنها كفر في عرف الناس من قول أو فعل.
و قد أجمع علماء الإسلام على الأخذ بذلك في أقوال الكفر، فقالوا: فمن أكره على الكفر غير جارية عليه أحكام الكفر، لأن الإكراه قرينة على أن كفره تقية و مصانعة بعد أن كان مسلما. و قد رخّص اللّه ذلك رفقا بعباده و اعتبارا للأشياء بغاياتها و مقاصدها.
و
في الحديث: أن ذلك وقع لعمار بن ياسر، و أنه ذكر ذلك للنبيء صلّى اللّه عليه و سلّم فصوّبه و قال له: «و إن عادوا لك فعد»