کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج19، ص: 95
[الفرقان: 68]. و التقدير: إلّا من تاب فلا يضاعف له العذاب و لا يخلد فيه، و هذا تطمين لنفوس فريق من المؤمنين الذين قد كانوا تلبسوا بخصال أهل الشرك ثم تابوا عنها بسبب توبتهم من الشرك، و إلا فليس في دعوتهم مع اللّه إلها آخر بعد العنوان عنهم بأنهم عباد الرحمن ثناء زائد.
و في «صحيح مسلم»: عن ابن عباس «أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا و زنوا فأكثروا، فأتوا محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا: إن الذي تقول و تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت: وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الفرقان: 68] الآية، و المعنى: أنه يعفى عنه من عذاب الذنوب التي تاب منها، و لا يخطر بالبال أنه يعذب عذابا غير مضاعف و غير مخلّد فيه، لأن ذلك ليس من مجاري الاستعمال العربي بل الأصل في ارتفاع الشيء المقيّد أن يقصد منه رفعه بأسره لا رفع قيوده، إلّا بقرينة.
و التوبة: الإقلاع عن الذنب، و الندم على ما فرط، و العزم على أن لا يعود إلى الذنب، و إذ كان فيما سبق ذكر الشرك فالتوبة هنا التلبس بالإيمان، و الإيمان بعد الكفر يوجب عدم المؤاخذة كما اقترفه المشرك في مدة شركه كما
في الحديث «الإسلام يجبّ ما قبله»
، و لذلك فعطف وَ آمَنَ على مَنْ تابَ للتنويه بالإيمان، و ليبنى عليه قوله:
وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً و هو شرائع الإسلام تحريضا على الصالحات و إيماء إلى أنها لا يعتد بها إلا مع الإيمان كما قال تعالى في سورة البلد [17] ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ، و قال في عكسه وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور: 39].
و قتل النفس الواقع في مدة الشرك يجبّه إيمان القاتل لأجل مزية الإيمان، و الإسلام يجبّ ما قبله بلا خلاف، و إنما الخلاف الواقع بين السلف في صحة توبة القاتل إنما هو في المؤمن القاتل مؤمنا متعمدا. و لما كان مما تشمله هذه الآية لأن سياقها في الثناء على المؤمنين فقد دلت الآية على أن التوبة تمحو آثام كل ذنب من هذه الذنوب المعدودة و منها قتل النفس بدون حقّ و هو المعروف من عمومات الكتاب و السنة. و قد تقدم ذلك مفصلا في سورة النساء [93] عند قوله تعالى: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الآية.
و فرع على الاستثناء الذين تابوا و آمنوا و عملوا عملا صالحا أنهم يبدل اللّه سيئاتهم حسنات، و هو كلام مسوق لبيان فضل التوبة المذكورة التي هي الإيمان بعد الشرك لأن مَنْ تابَ مستثنى من مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ [الفرقان: 68] فتعيّن أن السيئات المضافة إليهم هي
التحرير و التنوير، ج19، ص: 96
السيئات المعروفة، أي التي تقدم ذكرها، الواقعة منهم في زمن شركهم.
و التبديل: جعل شيء بدلا عن شيء آخر، و تقدم عند قوله تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ في سورة الأعراف [95]، أي يجعل اللّه لهم حسنات كثيرة عوضا عن تلك السيئات التي اقترفوها قبل التوبة و هذا التبديل جاء مجملا و هو تبديل يكون له أثر في الآخرة بأن يعوضهم عن جزاء السيئات ثواب حسنات أضداد تلك السيئات، و هذا لفضل الإيمان بالنسبة للشرك و لفضل التوبة بالنسبة للآثام الصادرة من المسلمين.
و به يظهر موقع اسم الإشارة في قوله: فَأُوْلئِكَ المفيد التنبيه على أنهم أحرياء بما أخبر عنهم به بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة، أي فأولئك التائبون المؤمنون العاملون الصالحات في الإيمان يبدّل اللّه عقاب سيئاتهم التي اقترفوها من الشرك و القتل و الزنا بثواب. و لم تتعرض الآية لمقدار الثواب و هو موكول إلى فضل اللّه، و لذلك عقب هذا بقوله: وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً المقتضي أنه عظيم المغفرة.
[71]
[سورة الفرقان (25): آية 71]
وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71)
إذا وقع الإخبار عن شيء أو توصيف له أو حالة منه بمرادف لما سبق مثله في المعنى دون زيادة تعيّن أن يكون الخبر الثاني مستعملا في شيء من لوازم معنى الإخبار يبيّنه المقام، كقول أبي الطّمحان لقيني «1» :
و إني من القوم الذين هم هم و قول أبي النجم:
أنا أبو النجم و شعري شعري و
قول النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم: «من رآني في المنام فقد رآني»
. فقوله تعالى هنا: وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً وقع الإخبار عن التائب بأنه تائب إذ المتاب مصدر ميمي بمعنى التوبة فيتعيّن أن يصرف إلى معنى مفيد، فيجوز أن يكون المقصود هو قوله:
إِلَى اللَّهِ فيكون كناية عن عظيم ثوابه.
و يجوز أن يكون المقصود ما في المضارع من الدلالة على التجدد، أي فإنه يستمر
(1) الطحان بطاء مهملة فميم مفتوحة فحاء مهملة، و اسمه حنظلة، شاعر إسلامي.
التحرير و التنوير، ج19، ص: 97
على توبته و لا يرتد على عقبيه فيكون وعدا من اللّه تعالى أن يثبّته على القول الثابت إذا كان قد تاب و أيّد توبته بالعمل الصالح.
و يجوز أن يكون المقصود ما للمفعول المطلق من معنى التأكيد، أي من تاب و عمل صالحا فإن توبته هي التوبة الكاملة الخالصة للّه على حد
قول النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنما الأعمال بالنيّات و إنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللّه و رسوله فهجرته إلى اللّه و رسوله، و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه»
فيكون كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم: 8]. و ذكر المفسرون احتمالات أخرى بعيدة.
و التوكيد ب (إنّ) على التقادير كلها لتحقيق مضمون الخبر.
[72]
[سورة الفرقان (25): آية 72]
وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72)
أتبع خصال المؤمنين الثلاث التي هي قوام الإيمان بخصال أخرى من خصالهم هي من كمال الإيمان، و التخلق بفضائله، و مجانبة أحوال أهل الشرك. و تلك ثلاث خصال أولاها أفصح عنه قوله هنا وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ الآية.
و فعل (شهد) يستعمل بمعنى (حضر) و هو أصل إطلاقه كقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185]، و يستعمل بمعنى أخبر عن شيء شهده و علمه كقوله تعالى: وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها [يوسف: 26].
و الزور: الباطل من قول أو فعل و قد غلب على الكذب. و قد تقدم في أول السورة فيجوز أن يكون معنى الآية: أنهم لا يحضرون محاضر الباطل التي كان يحضرها المشركون و هي مجالس اللهو و الغناء و الغيبة و نحوها، و كذلك أعياد المشركين و ألعابهم، فيكون الزور مفعولا به ل يَشْهَدُونَ . و هذا ثناء على المؤمنين بمقاطعة المشركين و تجنبهم. فأما شهود مواطن عبادة الأصنام فذلك قد دخل في قوله: وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الفرقان: 68]. و في معنى هذه الآية قوله في سورة الأنعام [68] وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ و يجوز أن يكون فعل يَشْهَدُونَ بمعنى الإخبار عما علموه و يكون الزور منصوبا على نزع الخافض، أي لا يشهدون بالزور؛ أو مفعولا مطلقا لبيان نوع الشهادة، أي لا يشهدون شهادة هي زور لا حق.
التحرير و التنوير، ج19، ص: 98
و قوله: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً مناسب لكلا الجملتين.
و اللغو: الكلام العبث و السفه الذي لا خير فيه. و تقدم في قوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً* في سورة مريم [62]. و معنى المرور به المرور بأصحابه اللاغين في حال لغوهم، فجعل المرور بنفس اللغو للإشارة إلى أن أصحاب اللغو متلبسون به وقت المرور.
و معنى: مَرُّوا كِراماً أنهم يمرون و هم في حال كرامة، أي غير متلبسين بالمشاركة في اللغو فيه فإن السفهاء إذا مروا بأصحاب اللغو أنسوا بهم و وقفوا عليهم و شاركوهم في لغوهم فإذا فعلوا ذلك كانوا في غير حال كرامة.
و الكرامة: النزاهة و محاسن الخلال، و ضدها اللؤم و السفالة. و أصل الكرامة أنها نفاسة الشيء في نوعه قال تعالى: أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ* [الشعراء: 7]. و قال بعض شعراء حمير في «الحماسة»:
و لا يخيم اللقاء فارسهم
حتى يشقّ الصفوف من كرمه
أي شجاعته، و قال تعالى: وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً [الأحزاب: 44].
و إذا مر أهل المروءة على أصحاب اللغو تنزهوا عن مشاركتهم و تجاوزوا ناديهم فكانوا في حال كرامة، و هذا ثناء على المؤمنين بترفّعهم على ما كانوا عليه في الجاهلية كقوله تعالى: وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً [الأنعام: 70]، و قوله: وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص: 55].
و إعادة فعل مَرُّوا لبناء الحال عليه، و ذلك من محاسن الاستعمال، كقول الأحوص:
فإذا تزول تزول عن متخمّط
تخشى بوادره على الأقران
و منه قوله تعالى: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [القصص: 63] كما ذكره ابن جنّي في «شرح مشكل أبيات الحماسة»، و قد تقدم عند قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7].
[73]
[سورة الفرقان (25): آية 73]
وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً (73)
التحرير و التنوير، ج19، ص: 99
أريد تمييز المؤمنين بمخالفة حالة هي من حالات المشركين و تلك هي حالة سماعهم دعوة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و ما تشتمل عليه من آيات القرآن و طلب النظر في دلائل الوحدانية، فلذلك جيء بالصلة منفية لتحصيل الثناء عليهم مع التعريض بتفظيع حال المشركين فإن المشركين إذا ذكّروا بآيات اللّه خرّوا صمّا و عميانا كحال من لا يحبّ أن يرى شيئا فيجعل وجهه على الأرض، فاستعير الخرور لشدة الكراهية و التباعد بحيث إن حالهم عند سماع القرآن كحال الذي يخرّ إلى الأرض لئلا يرى ما يكره بحيث لم يبق له شيء من التقوم و النهوض، فتلك حالة هي غاية في نفي إمكان القبول.
و منه استعارة القعود للتخلف عن القتال، و في عكس ذلك يستعار الإقبال و التلقي و القيام للاهتمام بالأمر و العناية به.
و يجوز أن يكون الخرور واقعا منهم أو من بعضهم حقيقة لأنهم يكونون جلوسا في مجتمعاتهم و نواديهم فإذا دعاهم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم إلى الإسلام طأطأوا رؤوسهم و قربوها من الأرض لأن ذلك للقاعد يقوم مقام الفرار، أو ستر الوجه كقول أعرابي يهجو قوما من طيء، أنشده المبرد:
إذا ما قيل أيّهم لأيّ
تشابهت المناكب و الرؤوس
و قريب من هذا المعنى قوله تعالى حكاية في سورة نوح [7] وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً . و تقدم الخرور الحقيقي في قوله تعالى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً في سورة الإسراء [107]، و قوله: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 26] و قوله: وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً في الأعراف [143].
و صُمًّا وَ عُمْياناً حالان من ضمير يَخِرُّوا ، مراد بهما التشبيه بحذف حرف التشبيه، أي يخرّون كالصمّ و العميان في عدم الانتفاع بالمسموع من الآيات و المبصر منها مما يذكّرون به. فالنفي على هذا منصبّ إلى الفعل و إلى قيده، و هو استعمال كثير في الكلام. و هذا الوجه أوجه.
و يجوز أن يكون توجّه النفي إلى القيد كما هو استعمال غالب و هو مختار صاحب «الكشاف»، فالمعنى: لم يخرّوا عليها في حالة كالصمم و العمى و لكنهم يخرّون عليها سامعين مبصرين فيكون الخرور مستعارا للحرص على العمل بشراشر القلب، كما يقال:
أكبّ على كذا، أي صرف جهده فيه، فيكون التعريض بالمشركين في أنهم يصمون و يعمون
التحرير و التنوير، ج19، ص: 100
عن الآيات و مع ذلك يخرّون على تلقّيها تظاهرا منهم بالحرص على ذلك. و هذا الوجه ضعيف لأنه إنما يليق لو كان المعرّض بهم منافقين، و كيف و السورة مكية فأما المشركون فكانوا يعرضون عن تلقي الدعوة علنا، قال تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26]. و قال: وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5].
[74]
[سورة الفرقان (25): آية 74]
هذه صفة ثالثة للمؤمنين بأنهم يعنون بانتشار الإسلام و تكثير أتباعه فيدعون اللّه أن يرزقهم أزواجا و ذرّيّات تقرّ بهم أعينهم، فالأزواج يطعنهم باتباع الإسلام و شرائعه؛ فقد كان بعض أزواج المسلمين مخالفات أزواجهم في الدين، و الذّريات إذا نشأوا نشأوا مؤمنين، و قد جمع ذلك لهم في صفة قُرَّةَ أَعْيُنٍ . فإنها جامعة للكمال في الدين و استقامة الأحوال في الحياة إذ لا تقرّ عيون المؤمنين إلّا بأزواج و أبناء مؤمنين. و قد نهى اللّه المسلمين عن إبقاء النساء الكوافر في العصمة بقوله: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: 10]، و قال: وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ [الأحقاف: 17] الآية. فمن أجل ذلك جعل دعاؤهم هذا من أسباب جزائهم بالجنة و إن كان فيه حظ لنفوسهم بقرّة أعينهم إذ لا يناكد حظ النفس حظ الدين في أعمالهم، كما في قول عبد اللّه ابن رواحة و هو خارج إلى غزوة مؤتة، فدعا له المسلمون و لمن معه أن يردّهم اللّه سالمين فقال:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة
و ضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حرّان مجهزة
بحربة تنفذ الأحشاء و الكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
أرشدك اللّه من غاز و قد رشدا
فإن في قوله: حتى يقولوا، حظا لنفسه من حسن الذكر و إن كان فيه دعاء له بالرشد و هو حظّ ديني أيضا، و قوله: و قد رشد، حسن ذكر محض. و في كتاب «الجامع» من «جامع العتبية» من أحاديث ابن وهب قال مالك: رأيت رجلا يسأل ربيعة يقول: إني لأحبّ أن أرى رائحا إلى المسجد، فكأنه كره من قوله و لم يعجبه أن يحبّ أحد أن يرى في شيء من أعمال الخير. و قال ابن رشد في «شرحه»: و هذا خلاف قول مالك في رسم
التحرير و التنوير، ج19، ص: 101
العقول من سماع أشهب من كتاب الصلاة: إنه لا بأس بذلك إذا كان أوله للّه (أي القصد الأول من العمل للّه). و قال ابن رشد في موضع آخر من «شرحه» قال اللّه تعالى: وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39]، و قال: وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84].
و قال الشاطبي في «الموافقات»: «عد مالك ذلك من قبيل الوسوسة، أي أن الشيطان باقي للإنسان إذا سرّه مرأى الناس له على الخير فيقول لك: إنك لمراء. و ليس كذلك و إنما هو أمر يقع في قلبه لا يملك» اه.
و في «المعيار» عن كتاب «سراج المريدين» لأبي بكر بن العربي قال: سألت شيخنا أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا [البقرة:
160] ما بيّنوا؟ قال: أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح و الطاعات.
قال الشاطبي: و هذا الموضع محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعا لقصد العبادة. و قد التزم الغزالي فيها و في أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص لكن بشرط أن يصير العمل أخفّ عليه بسبب هذه الأغراض. و أما ابن العربي فذهب إلى خلاف ذلك و كأنّ مجال النظر يلتفت إلى انفكاك القصدين، على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الانفكاك أوجه لما جاء من الأدلة على ذلك، إلى آخره.
و مِنْ في قوله: مِنْ أَزْواجِنا للابتداء، أي اجعل لنا قرّة أعين تنشأ من أزواجنا و ذرّياتنا.
و قرأ الجمهور: وَ ذُرِّيَّاتِنا جمع ذرية، و الجمع مراعى فيه التوزيع على الطوائف من الذين يدعون بذلك، و إلا فقد يكون لأحد الداعين ولد واحد. و قرأه أبو عمرو و حمزة و الكسائي و أبو بكر عن عاصم و يعقوب و خلف و ذُرِّيَّتِنا بدون ألف بعد التحتية، و يستفاد معنى الجمع من الإضافة إلى ضمير الَّذِينَ يَقُولُونَ ، أي ذرية كل واحد.
و الأعين: هي أعين الداعين، أي قرة أعين لنا. و إذ قد كان الدعاء صادرا منهم جميعا اقتضى ذلك أنهم يريدون قرة أعين جميعهم.