کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج21، ص: 208
و هو والد عرابة بن أوس الممدوح بقول الشمّاخ:
رأيت عرابة الأوسيّ يسمو
إلى الخيرات منقطع القرين
في جماعة من منافقي قومه. و الظاهر هو ما قاله السدّي لأن عبد اللّه بن أبيّ رأس المنافقين، فهو الذي يدعو أهل يثرب كلّهم.
و قوله لا مُقامَ لَكُمْ قرأه الجمهور بفتح الميم و هو اسم لمكان القيام، أي:
الوجود. و قرأه حفص عن عاصم بضم الميم، أي: محلّ الإقامة. و النفي هنا بمعنى نفي المنفعة فلما رأى هذا الفريق قلة جدوى وجودهم جعلها كالعدم، أي لا فائدة لكم في ذلك، و هو يروم تخذيل الناس كما فعل يوم أحد.
و يَثْرِبَ : اسم مدينة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و قال أبو عبيدة يثرب: اسم أرض و المدينة في ناحية منها، أي: اسم أرض بما فيها من الحوائط و النخل و المدينة في تلك الأرض. سميت باسم يثرب من العمالقة، و هو يثرب بن قانية الحفيد الخامس لإرم بن سام بن نوح. و قد
روي عن البراء بن عازب و ابن عباس أن النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم نهى عن تسميتها يثرب و سماها طابة.
و في قوله يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ محسّن بديعيّ، و هو الاتزان لأن هذا القول يكون منه مصراع من بحر السريع من عروضه الثانية المخبولة المكشوفة إذ صارت مفعولات بمجموع الخبل و الكشف إلى فعلن فوزنه مستفعلن مستفعلن فعلن.
و المراد بقوله فَرِيقٌ مِنْهُمُ جماعة من المنافقين و الذين في قلوبهم مرض، و ليسوا فريقا من الطائفة المذكورة آنفا، بل هؤلاء هم أوس بن قيظي و جمع من عشيرته بني حارثة و كان بنو حارثة أكثرهم مسلمين و فيهم منافقون، فجاء منافقوهم يعتذرون بأن منازلهم عورة، أي: غير حصينة.
و جملة وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ عطف على جملة قالَتْ طائِفَةٌ ، و جيء فيها بالفعل المضارع للإشارة إلى أنهم يلحّون في الاستئذان و يكررونه و يجددونه.
و العورة: الثغر بين الجبلين الذي يتمكن العدو أن يتسرب منه إلى الحي، قال لبيد:
و أجنّ عورات الثغور ظلامها و الاستئذان: طلب الإذن و هؤلاء راموا الانخذال و استحيوا. و لم يذكر المفسرون أن النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم أذن لهم. و ذكر أهل السير أن ثمانين منهم رجعوا دون إذنه. و هذا يقتضي أنه لم يأذن لهم و إلا لما ظهر تميزهم عن غيرهم، و أيضا فإن في الفعل المضارع من قوله
التحرير و التنوير، ج21، ص: 209
يَسْتَأْذِنُ إيماء إلى أنه لم يأذن لهم و ستعلم ذلك، و منازل بني حارثة كانت في أقصى المدينة قرب منازل بني سلمة فإنهما كانا حيين متلازمين قال تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران: 122] هما بنو حارثة و بنو سلمة في غزوة أحد. و
في الحديث: أن بني سلمة راموا أن ينقلوا منازلهم قرب المسجد فقال النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم: «يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم»
أي خطاكم. فهذا الفريق منهم يعتلّون بأن منازلهم بعيدة عن المدينة و آطامها.
و التأكيد بحرف إِنَ في قولهم إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ تمويه لإظهار قولهم بُيُوتَنا عَوْرَةٌ في صورة الصدق. و لما علموا أنهم كاذبون و أن النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم كذبهم جعلوا تكذيبه إياهم في صورة أنه يشك في صدقهم فأكدوا الخبر.
و جملة وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إلى قوله مَسْؤُلًا [الأحزاب: 15] معترضة بين جملة يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ إلخ و جملة لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ [الأحزاب: 16]. فقوله: وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ تكذيب لهم فإن المدينة كانت محصنة يومئذ بخندق و كان جيش المسلمين حارسها.
و لم يقرن هذا التكذيب بمؤكد لإظهار أن كذبهم واضح غير محتاج إلى تأكيد.
[14]
[سورة الأحزاب (33): آية 14]
موقع هذه الآية زيادة تقرير لمضمون جملة وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً [الأحزاب: 13] فإنها لتكذيبهم في إظهارهم التخوف على بيوتهم، و مرادهم خذل المسلمين.
و لم أجد فيما رأيت من كلام المفسرين و لا من أهل اللغة من أفصح عن معنى (الدخول) في مثل هذه الآية و ما ذكروا إلّا معنى الولوج إلى المكان مثل ولوج البيوت أو المدن، و هو الحقيقة. و الذي أراه أن الدخول كثر إطلاقه على دخول خاص و هو اقتحام الجيش أو المغيرين أرضا أو بلدا لغزو أهله، قال تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً إلى قوله: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [المائدة: 21]، و أنه يعدّى غالبا إلى المغزوّين بحرف على. و منه قوله تعالى: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ إلى قوله: قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: 24] فإنه ما يصلح إلا معنى دخول القتال و الحرب لقوله: فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ لظهور أنه لا يراد: إذا دخلتم دخول ضيافة أو تجول أو تجسس، فيفهم من الدخول في مثل هذا المقام معنى الغزو و الفتح كما
التحرير و التنوير، ج21، ص: 210
نقول: عام دخول التتار بغداد، و لذلك فالدخول في قوله: وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ هو دخول الغزو فيتعين أن يكون ضمير دُخِلَتْ عائدا إلى مدينة يثرب لا إلى البيوت من قولهم إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الأحزاب: 13]، و المعنى: لو غزيت المدينة من جوانبها إلخ ...
و قوله عَلَيْهِمْ يتعلق ب دُخِلَتْ لأن بناء دُخِلَتْ للنائب مقتض فاعلا محذوفا. فالمراد: دخول الداخلين على أهل المدينة كما جاء على الأصل في قوله ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ في سورة العقود [23].
و الأقطار: جمع قطر- بضم القاف و سكون الطاء- و هو الناحية من المكان. و إضافة (أقطار) و هو جمع تفيد العموم، أي: من جميع جوانب المدينة و ذلك أشد هجوم العدوّ على المدينة كقوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب: 10]. و أسند فعل دُخِلَتْ إلى المجهول لظهور أن فاعل الدخول قوم غزاة. و قد أبدى المفسرون في كيفية نظم هذه الآية احتمالات متفاوتة في معاني الكلمات و في حاصل المعنى المراد، و أقربها ما قاله ابن عطية على غموض فيه، و يليه ما في «الكشاف». و الذي ينبغي التفسير به أن تكون جملة وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ في موضع الحال من ضمير يُرِيدُونَ [الأحزاب: 13] أو من ضمير وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ زيادة في تكذيب قولهم إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الأحزاب: 13].
و الضمير المستتر في دُخِلَتْ عائد إلى المدينة لأن إضافة الأقطار يناسب المدن و المواطن و لا يناسب البيوت. فيصير المعنى: لو دخل الغزاة عليهم المدينة و هم قاطنون فيها.
و ثُمَ للترتيب الرتبي، و كان مقتضى الظاهر أن يعطف بالواو لا ب ثُمَ لأن المذكور بعد ثُمَ هنا داخل في فعل شرط لَوْ و وارد عليه جوابها، فعدل عن الواو إلى ثُمَ للتنبيه على أن ما بعد ثُمَ أهم من الذي قبلها كشأن ثُمَ في عطف الجمل، أي: أنهم مع ذلك يأتون الفتنة، و الْفِتْنَةَ هي أن يفتنوا المسلمين، أي: الكيد لهم و إلقاء التخاذل في جيش المسلمين. و من المفسرين من فسّر الفتنة بالشرك و لا وجه له و منهم من فسرها بالقتال و هو بعيد.
و الإتيان: القدوم إلى مكان. و قد أشعر هذا الفعل بأنهم يخرجون من المدينة التي كانوا فيها ليفتنوا المسلمين، و ضمير النصب في أتوها عائد إلى الْفِتْنَةَ و المراد مكانها و هو مكان المسلمين، أي لأتوا مكانها و مظنتها. و ضمير بِها للفتنة، و الباء للتعدية.
و جملة وَ ما تَلَبَّثُوا بِها عطف على جملة لَآتَوْها . و التلبّث: اللبث، أي:
التحرير و التنوير، ج21، ص: 211
الاستقرار في المكان و هو هنا مستعار للإبطاء، أي ما أبطأوا بالسعي في الفتنة و لا خافوا أن تؤخذ بيوتهم. و المعنى: لو دخلت جيوش الأحزاب المدينة و بقي جيش المسلمين خارجها- أي مثلا لأن الكلام على الفرض و التقدير- و سأل الجيش الداخل الفريق المستأذنين أن يلقوا الفتنة في المسلمين بالتفريق و التخذيل لخرجوا لذلك القصد مسرعين و لم يثبطهم الخوف على بيوتهم أن يدخلها اللصوص أو ينهبها الجيش: إما لأنهم آمنون من أن يلقوا سوءا من الجيش الداخل لأنهم أولياء له و معاونون، فهم منهم و إليهم، و إما لأن كراهتهم الإسلام تجعلهم لا يكترثون بنهب بيوتهم.
و الاستثناء في قوله إِلَّا يَسِيراً يظهر أنه تهكم بهم فيكون المقصود تأكيد النفي بصورة الاستثناء. و يحتمل أنه على ظاهره، أي إلا ريثما يتأملون فلا يطيلون التأمل فيكون المقصود من ذكره تأكيد قلة التلبّث، فهذا هو التفسير المنسجم مع نظم القرآن أحسن انسجام.
و قرأ نافع و ابن كثير و أبو جعفر لأتوها بهمزة تليها مثناة فوقية، و قرأ ابن عامر و أبو عمرو و عاصم و حمزة و الكسائي و يعقوب و خلف لَآتَوْها بألف بعد الهمزة على معنى: لأعطوها، أي: لأعطوا الفتنة سائليها، فإطلاق فعل أتوها مشاكلة لفعل سُئِلُوا .
[15]
[سورة الأحزاب (33): آية 15]
هؤلاء هم بنو حارثة و بنو سلمة و هم الذين قال فريق منهم إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الأحزاب: 13] و استأذن النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم أي كانوا يوم أحد جبنوا ثم تابوا و عاهدوا النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم أنهم لا يولّون الأدبار في غزوة بعدها، و هم الذين نزل فيهم قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما [آل عمران: 122]؛ فطرأ على نفر من بني حارثة نفاق و ضعف في الإيمان فذكّرهم اللّه بذلك و أراهم أن منهم فريقا قلّبا لا يرعى عهدا و لا يستقر لهم اعتقاد و أن ذلك لضعف يقينهم و غلبة الجبن عليهم حتى يدعوهم إلى نبذ عهد اللّه. و هذا تنبيه للقبيلين ليزجروا من نكث منهم. و تأكيد هذا الخبر بلام القسم و حرف التحقيق و فعل كان، مع أن الكلام موجه إلى المؤمنين تنزيلا للسامعين منزلة من يتردد في أنهم عاهدوا اللّه على الثبات.
التحرير و التنوير، ج21، ص: 212
و زيادة مِنْ قَبْلُ للإشارة إلى أن ذلك العهد قديم مستقر و هو عهد يوم أحد.
و جملة لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ بيان لجملة عاهَدُوا .
و التولية: التوجه بالشيء و هي مشتقة من الولي و هو القرب، قال تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 144].
و الْأَدْبارَ : الظهور. و تولية الأدبار: كناية عن الفرار فإن الذي استأذنوا لأجله في غزوة الخندق أرادوا منه الفرار ألا ترى قوله إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً [الأحزاب: 13]، و الفرار مما عاهدوا اللّه على تركه.
و جملة وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا تذييل لجملة وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا إلخ ...
المراد بعهد اللّه: كل عهد يوثقه الإنسان مع ربه.
و المسئول: كناية عن المحاسب عليه
كقول النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم: «و كلكم مسؤول عن رعيته»،
و كما تقدم آنفا عند قوله تعالى: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب: 8] و هذا تهديد.
[16]
[سورة الأحزاب (33): آية 16]
جواب عن قولهم إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الأحزاب: 13] و لذلك فصّلت لأنها جرت على أسلوب التقاول و التجاوب، و ما بين الجملتين من قوله وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ إلى قوله مَسْؤُلًا [الأحزاب: 14- 15] اعتراض كما تقدم. و هذا يرجح أن النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم لم يأذن لهم بالرجوع إلى المدينة و أنه ردّ عليهم بما أمره اللّه أن يقوله لهم، أي: قد علم اللّه أنكم ما أردتم إلا الفرار جبنا و الفرار لا يدفع عنكم الموت أو القتل، فمعنى نفي نفعه: نفي ما يقصد منه لأن نفع الشيء هو أن يحصل منه ما يقصد له.
فقوله مِنَ الْمَوْتِ يتعلق ب الْفِرارُ و فَرَرْتُمْ و ليس متعلقا ب يَنْفَعَكُمُ لأن متعلق يَنْفَعَكُمُ غير مذكور لظهوره من السياق، فالفائدة مستغنية عن المتعلق، أي: لن ينفعكم بالنجاة.
و معنى نفي نفع الفرار و إن كان فيه تعاطي سبب النجاة، هذا السبب غير مأذون فيه لوجوب الثبات في وجه العدوّ مع النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم فيتمحض في هذا الفرار مراعاة جانب الحقيقة و هو ما قدر للإنسان من اللّه إذ لا معارض له، فلو كان الفرار مأذونا فيه لجاز
التحرير و التنوير، ج21، ص: 213
مراعاة ما فيه من أسباب النجاة؛ فقد كان المسلمون مأمورين بثبات الواحد للعشرة من العدوّ فكان حينئذ الفرار من وجه عشرة أضعاف المسلمين غير مأذون فيه و أذن فيما زاد على ذلك، و لما نسخ اللّه ذلك بأن يثبت المسلمون لضعف عددهم من العدوّ فالفرار فيما زاد على ذلك مأذون فيه، و كذلك إذا كان المسلمون زحفا فإن الفرار حرام ساعتئذ.
و أحسب أن الأمر في غزوة الخندق كان قبل النسخ فلذلك وبّخ اللّه الذين أضمروا الفرار فإن عدد جيش الأحزاب يومئذ كان بمقدار أربعة أمثال جيش المسلمون و لم يكن المسلمون يومئذ زحفا فإن الحالة حالة حصار. و يجوز أن يكون المعنى أيضا: أنكم إن فررتم فنجوتم من القتل لا ينفعكم الفرار من الموت بالأجل و عسى أن تكون آجالكم قريبة.
و الْمَوْتِ ، أريد به: الموت الزؤام و هو الموت حتف أنفه لأنه قوبل بالقتل.
و المعنى: أن الفرار لا يدفع الموت الذي علم اللّه أنه يقع بالفار في الوقت الذي علم أن الفار يموت فيه و يقتل فإذا خيّل إلى الفارّ أن الفرار قد دفع عنه خطرا فإنما ذلك في الأحوال التي علم اللّه أنها لا يصيب الفارّ فيها أذى و لا بدّ له من موت حتف أنفه أو قتل في الإبان الذي علم اللّه أنه يموت فيه أو يقتل. و لهذا عقب بجملة وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا جوابا عن كلام مقدر دل عليه المذكور، أي إن خيل إليكم أن الفرار نفع الذي فرّ في وقت ما فما هو إلّا نفع زهيد لأنه تأخير في أجل الحياة و هو متاع قليل، أي: إعطاء الحياة مدة منتهية، فإن إِذاً قد تكون جوابا لمحذوف دل عليه الكلام المذكور، كقول العنبري:
لو كنت من مأزن لم تستبح إبلي
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبان
إذن لقام بنصري معشر خشن
عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
فإن قوله: إذن لقام بنصري، جواب و جزاء عن مقدر دل عليه: لم تستبح إبلي.
و التقدير: فإن استباحوا إبلي إذن لقام بنصري معشر، و هو الذي أشعر كلام المرزوقي باختياره خلافا لما في «مغني اللبيب».
و الأكثر أن إِذاً إن وقعت بعد الواو و الفاء العاطفتين أن لا ينصب المضارع بعدها، و ورد نصبه نادرا.
و المقصود من الآية تخليق المسلمين بخلق استضعاف الحياة الدنيا و صرف هممهم إلى السعي نحو الكمال الذي به السعادة الأبدية سيرا وراء تعاليم الدين التي تقود النفوس إلى أوج الملكية.
التحرير و التنوير، ج21، ص: 214
[71]
[سورة الأحزاب (33): آية 17]
يظهر أن هذه الجملة واقعة موقع التعليل لجملة لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ الآية [الأحزاب: 16]، فكأنه قيل: فمن ذا الذي يعصمكم من اللّه، أي: فلا عاصم لكم من نفوذ مراده فيكم. و إعادة فعل قُلْ تكرير لأجل الاهتمام بمضمون الجملة.
و المعنى: لأن قدرة اللّه و إرادته محيطة بالمخلوقات فمتى شاء عطّل تأثير الأسباب أو عرقلها بالموانع فإن يشأ شرّا حرم الانتفاع بالأسباب أو الاتقاء بالموانع فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد، و متى شاء خيرا خاصا بأحد لطف له بتمهيد الأسباب و تيسيرها حتى يلاقي من التيسير ما لم يكن مترقبا، و متى لم تتعلق مشيئته بخصوص أرسل الأحوال في مهيعها و خلّى بين الناس و بين ما سببه في أحوال الكائنات فنال كل أحد نصيبا على حسب فطنته و مقدرته و اهتدائه، فإن اللّه أودع في النفوس مراتب التفكير و التقدير؛ فأنتم إذا عصيتم اللّه و رسوله و خذلتم المؤمنين تتعرضون لإرادته بكم السوء فلا عاصم لكم من مراده، فالاستفهام إنكاري في معنى النفي لاعتقادهم أن الحيلة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تنفعهم و أن الفرار يعصمهم من الموت إن كان قتال.
و جملة مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ إلخ جواب الشرط في قوله إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً إلخ، أو دليل الجواب عند نحاة البصرة.
و العصمة: الوقاية و المنع مما يكرهه المعصوم. و قوبل السوء بالرحمة لأن المراد سوء خاص و هو السوء المجعول عذابا لهم على معصية الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و هو سوء النقمة فهو سوء خاص مقدّر من اللّه لأجل تعذيبهم إن أراده، فيجري على خلاف القوانين المعتادة.
و عطف أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً على أَرادَ بِكُمْ المجعول شرطا يقتضي كلاما مقدرا في الجواب المتقدم، فإن إرادته الرحمة تناسب فعل يَعْصِمُكُمْ لأن الرحمة مرغوبة.
فالتقدير: أو يحرمكم منه إن أراد بكم رحمة، فهو من دلالة الاقتضاء إيجازا للكلام، كقول الراعي:
إذا ما الغانيات برزن يوما