کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج23، ص: 176
و الإشارة إذن إلى ما هو مشاهد عندهم من النعيم.
و قرأ الجمهور: تُوعَدُونَ بتاء الخطاب فهو على الاحتمال الأول التفات من الغيبة إلى الخطاب لتشريف المتقين بعزّ الحضور لخطاب اللّه تعالى، و على الاحتمال الثاني الخطاب لهم على ظاهره. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو وحده «يوعدون» بياء الغيبة فهو على الاحتمال الأول التفات عن توجيه الخطاب إليهم إلى توجيهه للطاغين لزيادة التنكيل عليهم. و الإشارة إلى المذكور من «حسن المئاب»، و على الاحتمال الثاني كذلك وجّه الكلام إلى أهل المحشر لتنديم الطاغين و إدخال الحسرة و الغمّ عليهم. و الإشارة إلى النعيم المشاهد.
و اللام في لِيَوْمِ الْحِسابِ لام العلة، أي وعدتموه لأجل يوم الحساب. و المعنى لأجل الجزاء يوم الحساب، فلما كان الحساب مؤذنا بالجزاء جعل اليوم هو العلة. و هذه اللام تفيد معنى التوقيت تبعا كقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: 78] تنزيلا للوقت منزلة العلة. و لذلك قال الفقهاء: أوقات الصلوات أسباب.
[54]
[سورة ص (38): آية 54]
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)
يجري محمل اسم الإشارة هذا على الاحتمالين المذكورين في الكلام السابق.
و العدول عن الضمير إلى اسم الإشارة لكمال العناية بتمييزه و توجيه ذهن السامع إليه. و أطلق الرزق على النعمة كما
في قول النبيء صلّى اللّه عليه و سلم: «لو أن أحدهم قال حين يضاجع أهله: اللهم جنّبنا الشيطان و جنّب الشيطان ما رزقتنا ثم ولد لهما ولد لم يمسه شيطان أبدا»
فسمّى الولد رزقا.
و التوكيد ب إِنَ للاهتمام. و النفاد: الانقطاع و الزوال.
[55- 56]
[سورة ص (38): الآيات 55 الى 56]
هذا وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56)
اسم الإشارة هذا مستعمل في الانتقال من غرض إلى غرض تنهية للغرض الذي قبله. و القول فيه كالقول في هذا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ [ص: 49]. و التقدير:
هذا شأن المتقين، أو هذا الشأن، أو هذا كما ذكر.
و جملة يَصْلَوْنَها حال من جَهَنَّمَ و هي حال مؤكدة لمعنى اللام الذي هو عامل في «الطاغين» فإن معنى اللام أنهم تختصّ بهم جهنم و اختصاصها بهم هو ذوق عذابها لأن
التحرير و التنوير، ج23، ص: 177
العذاب ذاتي لجهنم.
و الطاغي: الموصوف بالطغيان و هو: مجاوزة الحد في الكبر و التعاظم. و المراد بهم عظماء أهل الشرك لأنهم تكبّروا بعظمتهم على قبول الإسلام، و أعرضوا عن دعوة الرسول صلّى اللّه عليه و سلم بكبر و استهزاء، و حكموا على عامة قومهم بالابتعاد عن النبيء صلّى اللّه عليه و سلم و عن المسلمين و عن سماع القرآن، و هم: أبو جهل و أمية بن خلف، و عتبة بن ربيعة، و الوليد بن عتبة، و العاصي بن وائل و أضرابهم.
و الفاء في فَبِئْسَ الْمِهادُ لترتيب الإخبار و تسببه على ما قبله، نظير عطف الجمل ب (ثمّ) و هي كالفاء في قوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ [الأنفال: 17] بعد قوله: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ في سورة الأنفال [15]. و هذا استعمال بديع كثير في القرآن و هو يندرج في استعمالات الفاء العاطفة و لم يكشف عنه في «مغني اللبيب».
و المعنى: جهنم يصلونها، فيتسبب على ذلك أن نذكر ذم هذا المقرّ لهم، و عبر عن جهنم ب الْمِهادُ على وجه الاستعارة، شبه ما هم فيه من النار من تحتهم بالمهاد و هو فراش النائم كقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ [الأعراف: 41].
[57- 58]
[سورة ص (38): الآيات 57 الى 58]
هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ (57) وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58)
اسم الإشارة هنا جار على غالب مواقعه و هو نظير قوله: هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ [ص: 53] و القول فيه مثله. و إشارة القريب لتقريب الإنذار و المشار إليه ما تضمنه قوله: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها [ص: 56] من الصلي و من معنى العذاب، أو الإشارة إلى شرّ من قوله: لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55].
و حَمِيمٌ خبر عن اسم الإشارة. و معنى الجملة في معنى بدل الاشتمال لأن شر المآب أو العذاب مشتمل على الحميم و الغساق و غيره من شكله، و المعنى: أن ذلك لهم لقوله: وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55] فما فصل به شر المآب و عذاب جهنم فهو في المعنى معمول للام. و الحميم: الماء الشديد الحرارة.
و الغساق: قرأه الجمهور بتخفيف السين. و قرأه حمزة و الكسائي و حفص عن عاصم و خلف بتشديدها. قيل هما لغتان و قيل: غسّاق بالتشديد مبالغة في غاسق بمعنى سائل، فهو على هذا وصف لموصوف محذوف و ليس اسما لأن الأسماء التي على زنة فعّال قليلة في كلامهم.
التحرير و التنوير، ج23، ص: 178
و الغساق: سائل يسيل في جهنم، يقال: غسق الجرح، إذا سال منه ماء أصفر.
و أحسب أن هذا الاسم بهذا الوزن أطلقه القرآن على سائل كريه يسقونه كقوله: بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ [الكهف: 29]. و أحسب أنه لم تكن هذه الزنة من هذه المادة معروفة عند العرب، و بذلك يومىء كلام الراغب. و هذا سبب اختلاف المفسرين في المراد منه. و الأظهر: أنه صيغ له هذا الوزن ليكون اسما لشيء يشبه ما يغسق به الجرح، و لذلك سمّي بالمهل و الصديد في آيات أخرى.
و جملة فَلْيَذُوقُوهُ معترضة بين اسم الإشارة و الخبر عنه، و هذا من الاعتراض المقترن بالفاء دون الواو، و الفاء فيه كالفاء في قوله: فَبِئْسَ الْمِهادُ [ص: 56] و قد تقدمت آنفا.
و موقع الجملة كموقع قوله: فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [ص: 39] كما تقدم آنفا.
و قوله: وَ آخَرُ صفة لموصوف محذوف دلت عليه الإشارة بقوله: هذا و ضمير فَلْيَذُوقُوهُ و وصف آخر يدل على مغاير. و قوله: مِنْ شَكْلِهِ يدل على أنه مغاير له بالذات و موافق في النوع، فحصل من ذلك أنه عذاب آخر أو مذوق آخر.
و الشّكل بفتح الشين: المثل، أي المماثل في النوع، أي و عذاب آخر غير ذلك الذي ذاقوه من الحميم و الغساق هو مثل ذلك المشار إليه أو مثل ذلك الذوق في التعذيب و الألم. و أفرد ضمير شَكْلِهِ مع أن معاده حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ نظرا إلى إفراد اسم الإشارة، أو إلى إفراد (مذوق) المأخوذ من (يذوقوه)، فقوله: مِنْ شَكْلِهِ صفة ل آخَرُ .
و الأزواج: جمع زوج بمعنى النوع و الجنس، و قد تقدم عند قوله: وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ في سورة الرعد [3].
و المعنى: و عذاب آخر هو أزواج أصناف كثيرة. و لما كان اسما شائعا في كل مغاير صحّ وصفه ب أَزْواجٌ بصيغة الجمع.
و قرأ الجمهور: وَ آخَرُ بصيغة الإفراد. و قرأه أبو عمرو و يعقوب و أخر بضم الهمزة جمع أخرى على اعتبار تأنيث الموصوف، أي و أزواج أخر من شكل ذلك العذاب.
التحرير و التنوير، ج23، ص: 179
[59]
[سورة ص (38): آية 59]
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59)
ابتداء كلام حكي به تخاصم المشركين في النار فيما بينهم إذا دخلوها كما دل عليه قوله تعالى في آخره: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 64]، و به فسر قتادة و ابن زيد، و جريانه بينهم ليزدادوا مقتا بأن يضاف إلى عذابهم الجسماني عذاب أنفسهم برجوع بعضهم على بعض بالتنديم و سوء المعاملة.
و أسلوب الكلام يقتضي متكلما صادرا منه، و أسلوب المقاولة يقتضي أن المتكلم به هم الطاغون الذين لهم شر المآب لأنهم أساس هذه القضية. فالتقدير: يقولون، أي الطاغون بعضهم لبعض: هذا فوج مقتحم معكم، أي يقولون مشيرين إلى فوج من أهل النار أقحم فيهم ليسوا من أكفائهم و لا من طبقتهم و هم فوج الأتباع من المشركين الذين اتبعوا الطاغين في الحياة الدنيا، و ذلك ما دل عليه قوله: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا [ص: 60] أي أنتم سبب إحضار هذا العذاب لنا. و هو الموافق لمعنى نظائره في القرآن كقوله تعالى:
كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الأعراف: 38] إلى قوله: بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ في سورة الأعراف [39]، و قوله: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا في سورة البقرة [166]، و قوله: وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ الآيات من سورة الصافات [27]. و أوضح من ذلك كله قوله تعالى في آخر هذه الآية إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 64].
فجملة القول المحذوف في موضع الحال من الطّاغين. و جملة هذا فَوْجٌ إلى آخرها مقول القول المحذوف.
و الفوج: الجماعة العظيمة من الناس، و تقدم في قوله: وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً في سورة النمل [83].
و الاقتحام: الدخول في الناس، و (مع) مؤذنة بأن المتكلمين متبوعون، و أن الفوج المقتحم أتباع لهم، فأدخلوا فيهم مدخل التابع مع المتبوع بعلامات تشعر بذلك.
و جملة: لا مَرْحَباً بِهِمْ معترضة مستأنفة لإنشاء ذم الفوج. و لا مَرْحَباً نفي لكلمة يقولها المزور لزائره و هي إنشاء دعاء الوافد. و مَرْحَباً مصدر بوزن المفعل، و هو الرّحب بضم الراء و هو منصوب بفعل محذوف دل عليه معنى الرحب، أي أتيت رحبا، أي مكانا ذا رحب، فإذا أرادوا كراهية الوافد و الدعاء عليه قالوا: لا مرحبا به، كأنهم أرادوا النفي بمجموع الكلمة:
التحرير و التنوير، ج23، ص: 180
لا مرحبا بغد و لا أهلا به
إن كان تفريق الأحبة في غد
و ذلك كما يقولون في المدح: حبّذا، فإذا أرادوا ذمّا قالوا: لا حبّذا. و قد جمعهما قول كنزة أمّ شملة المنقري تهجو فيه صاحبة ذي الرمة:
ألا حبّذا أهل الملا غير أنه
إذا ذكرت ميّ فلا حبّذا هيا
و معنى الرحب في هذا كله: السعة المجازية، و هي الفرح و لقاء المرغوب في ذلك المكان بقرينة أن نفس السعة لا تفيد الزائد، و إنما قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يكونوا هم و أتباعهم في مكان واحد جريا على خلق جاهليتهم من الكبرياء و احتقار الضعفاء.
و جملة إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ خبر ثان عن اسم الإشارة، و الخبر مستعمل في التضجّر منهم، أي أنهم مضايقوننا في مضيق النار كما أومأ إليه قولهم: مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ .
[60]
[سورة ص (38): آية 60]
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60)
فسمعهم الأتباع فيقولون: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ إضرابا عن كلامهم. و جيء بحكاية قولهم على طريقة المحاورات فلذلك جرّد من حرف العطف، أي أنتم أولى بالشتم و الكراهية بأن يقال: لا مرحبا بكم، لأنكم الذين تسببتم لأنفسكم و لنا في هذا العذاب بإغرائكم إيانا على التكذيب و الدوام على الكفر. و بَلْ للإضراب الإبطالي لردّ الشتم عليهم و أنهم أولى به منهم.
و ذكر ضمير المخاطبين في قوله: أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ للتنصل من شتمهم، أي أنتم المشتومون، أي أولى بالشتم منا، و قد استفيد هذا المعنى من حرف الإبطال لا من الضمير لأن الضمير لا مفهوم له و لأن موقعه هنا لا يقتضي حصرا و لا تقوّيا لأنه مخبر عنه بجملة إنشائية، أي أنتم يقال لكم: لا مرحبا بكم.
و إذا قد كان قول: مرحبا، إنشاء دعاء بالخير، و كان نفيه إنشاء دعاء بضده، كان قوله «بهم» بيانا لمن وجّه الدعاء لهم، أي إيضاحا للسامع أن الدعاء على أصحاب الضمير المجرور بالباء فكانت الباء فيه للتبيين. قال في «الكشاف»: و «بهم» بيان لمدعوّ عليهم.
و قال الهمذاني في شرحه «للكشاف»: يعني: البيان المصطلح، كأن قائلا يقول: بمن يحصل هذا الرحب؟ فيقول: بهم. و هذا كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23]. يعني أن الباء فيه بمعنى لام التبيين. و هذا المعنى أغفله ابن هشام في معاني الباء. و أشار الهمذاني إلى
التحرير و التنوير، ج23، ص: 181
أنه متولد من معنى السببية. و الأحسن عندي أن يكون متولدا من معنى المصاحبة بطريق الاستعارة التبعية ثم غلب استعمال الباء في مثله في كلامهم فصار كالحقيقة لأنه لما صار إنشاء دعاء لم تبق معه ملاحظة الإخبار بحصول الرحب معهم أو بسببهم كما يتجه بالتأمل.
و جملة أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا علة لقلب سبب الشتم إليهم، أي لأنكم قدمتم العذاب لنا، فضمير النصب في قَدَّمْتُمُوهُ عائد إلى العذاب المشاهد، و هو حاضر في الذهن غير مذكور في اللفظ، مثل حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32]. و وقوع أَنْتُمْ قبل قَدَّمْتُمُوهُ المسند الفعلي يفيد الحصر، أي لم يضلنا غيركم فأنتم أحقّاء بالعذاب.
و التقديم: جعل الشيء قدّام غيره، قال تعالى: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ* ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران: 181، 182]. فتقديم العذاب لهم جعله قدامهم، أي جعله حيث يجدونه عند وصولهم. و إسناد تقديم العذاب إلى المخاطبين مجاز عقلي لأن الرؤساء كانوا سببا في تقديم العذاب لأتباعهم بإغوائهم و كان العذاب جزاء عن الغواية. و جعل العذاب مقدما و إنما المقدم العمل الذي استحق العذاب، و هذا مجاز عقلي في المفعول فاجتمع في قوله: قَدَّمْتُمُوهُ مجازان عقليان.
و قوله: فَبِئْسَ الْقَرارُ موقعه كموقع قوله آنفا فَبِئْسَ الْمِهادُ [ص: 56]. و هو ذم لإقامتهم في جهنم تشنيعا عليهم فيما تسببوا لأنفسهم فيه. و المعنى: فبئس القرار ما قدّمتموه لنا، أي العذاب. و القرار: المكث.
[61]
[سورة ص (38): آية 61]
قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61)
قالُوا أي الفوج المقتحم و هو فوج الأتباع، فهذا من كلام الذين قالوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ [ص: 60] لأن قولهم: مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا يعين هذا المحمل. و لذلك حق أن يتساءل الناظر عن وجه إعادة فعل قالُوا و عن وجه عدم عطفه على قولهم الأول.
فأما إعادة فعل القول فلإفادة أن القائلين هم الأتباع فأعيد فعل القول تأكيدا للفعل الأول لقصد تأكيد فاعل القول تبعا لأنه محتمل لضمير القائلين.
و المقصود من حكاية قولهم: هذا تحذير كبراء المشركين من عواقب رئاستهم و زعامتهم التي يجرون بها الويلات على أتباعهم فيوقعونهم في هاوية السوء حتى لا يجد الأتباع لهم جزاء بعد الفوت إلا طلب مضاعفة العذاب لهم. و أما تجريد فعل قالُوا عن العاطف فلأنه قصد به التوكيد اللفظي و التوكيد اللفظي يكون على مثال الموكّد.
التحرير و التنوير، ج23، ص: 182
و لا تلتبس حكاية هذا القول على هذه الكيفية بحكاية المحاورات فيحسب أنه من كلام الفريق الآخر لأن الدعاء بعنوان مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا يعين أن قائليه هم القائلون أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا [ص: 60]، و أن الذين قدّموا لهم هم الطاغون. و في معنى هذه الآية آية سورة الأعراف [38] قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ .
و مَنْ في قوله: مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا موصولة، و جملة فَزِدْهُ خبر عن مَنْ ، و اقتران الخبر بالفاء جرى على معاملة الموصول معاملة الشرط في قرن خبره بالفاء و هو كثير، و تقدم عند قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ في سورة براءة [34].
و الضعف، بكسر الضاد: يستعمل اسم مصدر ضعّف و ضاعف، فهو اسم التضعيف و المضاعفة، أي تكرير المقدار و تكرير القوة، و هو من الألفاظ المتضايفة المعاني كالنصف و الزوج.
و يستعمل اسما بمعنى الشيء المضاعف، و هذا هو قياس زنة فعل بكسر الفاء و سكون العين، فهو بمعنى: الشيء الذي ضوعف لأن زنه فعل تدلّ على ما سلط عليه فعل نحو ذبح، أي مذبوح.
[62- 63]
[سورة ص (38): الآيات 62 الى 63]
عطف على هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ [ص: 59] على ما قدّر فيه من فعل قول محذوف كما تقدم، فهذا من قول الطاغين فإنهم الذين كانوا يحقّرون المسلمين.