کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج24، ص: 183
عليهم أن لا يجزعوا من مناواة فرعون لهم و أن عليهم أن يعوذوا باللّه من كل ما يفظعهم.
و جعلت صفة لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ مغنية عن صفة الكفر أو الإشراك لأنها تتضمن الإشراك و زيادة، لأنه إذا اجتمع في المرء التجبر و التكذيب بالجزاء قلّت مبالاته بعواقب أعماله فكملت فيه أسباب القسوة و الجرأة على الناس.
[28]
[سورة غافر (40): آية 28]
عطف قول هذا الرجل يقتضي أنه قال قوله هذا في غير مجلس شورى فرعون، لأنه لو كان قوله جاريا مجرى المحاورة مع فرعون في مجلس استشارته، أو كان أجاب به عن قول فرعون: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى [غافر: 26] لكانت حكاية قوله بدون عطف على طريقة المحاورات. و الذي يظهر أن اللّه ألهم هذا الرجل بأن يقول مقالته إلهاما كان أول مظهر من تحقيق اللّه لاستعاذة موسى باللّه، فلما شاع توعد فرعون بقتل موسى عليه السلام جاء هذا الرجل إلى فرعون ناصحا و لم يكن يتهمه فرعون لأنه من آله.
و خطابه بقوله: أَ تَقْتُلُونَ موجّه إلى فرعون لأن فرعون هو الذي يسند إليه القتل لأنه الآمر به، و لحكاية كلام فرعون عقب كلام مؤمن آل فرعون بدون عطف بالواو في قوله: قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى [غافر: 29].
و وصفه بأنه من آل فرعون صريح في أنه من القبط و لم يكن من بني إسرائيل خلافا لبعض المفسرين ألا ترى إلى قوله تعالى بعده: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا [غافر: 29] فإن بني إسرائيل لم يكن لهم ملك هنالك.
و الأظهر أنه كان من قرابة فرعون و خاصته لما يقتضيه لفظ آل من ذلك حقيقة أو مجازا. و المراد أنه مؤمن باللّه و مؤمن بصدق موسى، و ما كان إيمانه هذا إلا لأنه كان رجلا صالحا اهتدى إلى توحيد اللّه إما بالنظر في الأدلة فصدّق موسى عند ما سمع دعوته كما اهتدى أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه إلى تصديق النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم في حين سماع دعوته فقال له: «صدقت». و كان كتمه الإيمان متجددا مستمرا تقية من فرعون و قومه إذ علم أن إظهاره الإيمان يضره و لا ينفع غيره كما كان (سقراط) يكتم إيمانه باللّه في بلاد اليونان خشية أن يقتلوه انتصارا لآلهتهم.
التحرير و التنوير، ج24، ص: 184
و أراد بقوله: أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا إلى آخره أن يسعى لحفظ موسى من القتل بفتح باب المجادلة في شأنه لتشكيك فرعون في تكذيبه بموسى، و هذا الرجل هو غير الرجل المذكور في سورة القصص [20] في قوله تعالى: وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى فإن تلك القصة كانت قبيل خروج موسى من مصر، و هذه القصة في مبدأ دخوله مصر. و لم يوصف هنالك بأنه مؤمن و لا بأنه من آل فرعون بل كان من بني إسرائيل كما هو صريح سفر الخروج. و الظاهر أن الرجل المذكور هنا كان رجلا صالحا نظّارا في أدلة التوحيد و لم يستقر الإيمان في قلبه على وجهه إلا بعد أن سمع دعوة موسى، و إن اللّه يقيض لعباده الصالحين حماة عند الشدائد.
قيل اسم هذا الرجل حبيب النجّار و قيل سمعان، و قد تقدم في سورة (يس) أن حبيبا النجار من رسل عيسى عليه السلام. و قصة هذا الرجل المؤمن من آل فرعون غير مذكورة في «التوراة» بالصريح و لكنها مذكورة إجمالا في الفقرة السابعة من الإصحاح العاشر «فقال عبيد فرعون إلى متى يكون لنا هذا (أي موسى) فخّا أطلق الرجال ليعبدوا الرب إلههم».
و الاستفهام في أَ تَقْتُلُونَ استفهام إنكار، أي يقبح بكم أن تقتلوا نفسا لأنه يقول ربي اللّه، أي و لم يجبركم على أن تؤمنوا به و لكنه قال لكم قولا فاقبلوه أو ارفضوه، فهذا محمل قوله: أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ و هو الذي يمكن الجمع بينه و بين كون هذا الرجل يكتم إيمانه.
و أَنْ يَقُولَ . مجرور بلام التعليل المقدرة لأنها تحذف مع (أن) كثيرا. و ذكر اسم اللّه لأنه الذي ذكره موسى و لم يكن من أسماء آلهة القبط.
و أما قوله: وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ فهو ارتقاء في الحجاج بعد أن استأنس في خطاب قومه بالكلام الموجّه فارتقى إلى التصريح بتصديق موسى بعلة أنه جاء بالبينات، أي الحجج الواضحة بصدقه، و إلى التصريح بأن الذي سماه اللّه في قوله: أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ هو رب المخاطبين فقال: مِنْ رَبِّكُمْ . فجملة وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ في موضع الحال من قوله: رَجُلًا و الباء في بِالْبَيِّناتِ للمصاحبة.
و قوله: وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ رجوع إلى ضرب من إيهام الشك في صدق موسى ليكون كلامه مشتملا على احتمالي تصديق و تكذيب يتداولهما في كلامه فلا يؤخذ عليه أنه مصدق لموسى بل يخيل إليهم أنه في حالة نظر و تأمل ليسوق فرعون و ملأه إلى أدلة صدق موسى بوجه لا يثير نفورهم، فالجملة عطف على جملة وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ فتكون حالا.
التحرير و التنوير، ج24، ص: 185
و قدم احتمال كذبه على احتمال صدقه زيادة في التباعد عن ظنهم به الانتصار لموسى فأراد أن يظهر في مظهر المهتم بأمر قومه ابتداء.
و معنى: وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ استنزالهم للنظر، أي فعليكم بالنظر في آياته و لا تعجلوا بقتله و لا باتباعه فإن تبين لكم كذبه فيما تحداكم به و ما أنذركم به من مصائب فلم يقع شيء من ذلك لم يضركم ذلك شيئا و عاد كذبه عليه بأن يوسم بالكاذب، و إن تبين لكم صدقه يصبكم بعض ما توعّدكم به، أي تصبكم بوارقه فتعلموا صدقه فتتبعوه، و هذا وجه التعبير ب بَعْضُ دون أن يقول: يصبكم الذي يعدكم به. و المراد بالوعد هنا الوعد بالسوء و هو المسمى بالوعيد. أي فإن استمررتم على العناد يصبكم جميع ما توعّدكم به بطريق الأولى.
و قد شابه مقام أبي بكر الصديق مقام مؤمن آل فرعون إذ آمن بالنبيء صلّى اللّه عليه و سلّم حين سمع دعوته و لم يكن من آله، و يوم جاء عقبة بن أبي معيط إلى النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم (و النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم بفناء الكعبة) يخنقه بثوبه فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكب عقبة و دفعه و قال: أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ .
قال علي بن أبي طالب: «و اللّه ليوم أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون، إنّ مؤمن آل فرعون رجل يكتم إيمانه و إن أبا بكر كان يظهر إيمانه و بذل ماله و دمه»
. و أقول: كان أبو بكر أقوى يقينا من مؤمن آل فرعون لأن مؤمن آل فرعون كتم إيمانه و أبو بكر أظهر إيمانه.
و جملة إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يجوز أنها من قول مؤمن آل فرعون، فالمقصود منها تعليل قوله: وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أي لأن اللّه لا يقره على كذبه فإن كان كاذبا على اللّه فلا يلبث أن يفتضح أمره أو يهلكه، كما قال تعالى: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 44- 46] لأن اللّه لا يمهل الكاذب عليه، و لأنه إذا جاءكم بخوارق العادات فقد تبين صدقه لأن اللّه لا يخرق العادة بعد تحدي المتحدّي بها إلّا ليجعلها أمارة على أنه مرسل منه لأن تصديق الكاذب محال على اللّه تعالى.
و معنى: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أي مما توعدكم بوقوعه في الدنيا، أو في الآخرة و كيف إذا كانت البينة نفسها مصائب تحلّ بهم مثل الطوفان و الجراد و بقية التسع الآيات.
التحرير و التنوير، ج24، ص: 186
و المسرف: متجاوز المعروف في شيء، فالمراد هنا مسرف في الكذب لأن أعظم الكذب أن يكون على اللّه، قال تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام: 93].
و إذا كان المراد الإسراف في الكذب تعين أن قوله: كَذَّابٌ عطف بيان و ليس خبرا ثانيا إذ ليس ثمة إسراف هنا غير إسراف الكذب، و في هذا اعتراف من هذا المؤمن باللّه الذي أنكره فرعون، رماه بين ظهرانيهم. و يجوز أن تكون جملة إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي إلى آخرها جملة معترضة بين كلامي مؤمن آل فرعون ليست من حكاية كلامه و إنما هي قول من جانب اللّه في قرآنه يقصد منها تزكية هذا الرجل المؤمن إذ هداه اللّه للحق، و أنه تقيّ صادق، فيكون نفي الهداية عن المسرف الكذاب كناية عن تقوى هذا الرجل و صدقه لأنه نطق عن هدى و اللّه لا يعطي الهدى من هو مسرف كذاب.
[29]
[سورة غافر (40): آية 29]
لما توسم نهوض حجته بينهم و أنها داخلت نفوسهم، أمن بأسهم، و انتهز فرصة انكسار قلوبهم، فصارحهم بمقصوده من الإيمان بموسى على سنن الخطباء و أهل الجدل بعد تقرير المقدمات و الحجج أن يهجموا على الغرض المقصود، فوعظهم بهذه الموعظة.
و أدخل قومه في الخطاب فناداهم ليستهويهم إلى تعضيده أمام فرعون فلا يجد فرعون بدّا من الانصياع إلى اتفاقهم و تظاهرهم، و أيضا فإن تشريك قومه في الموعظة أدخل في باب النصيحة فابتدأ بنصح فرعون لأنه الذي بيده الأمر و النهي، و ثنّى بنصيحة الحاضرين من قومه تحذيرا لهم من مصائب تصيبهم من جراء امتثالهم أمر فرعون بقتل موسى فإن ذلك يهمهم كما يهمّ فرعون. و هذا الترتيب في إسداء النصيحة نظير الترتيب
في قول النبيء صلّى اللّه عليه و سلّم: «و لأئمّة المسلمين و عامتهم»
«1» . و لا يخفى ما في ندائهم بعنوان أنهم قومه من الاستصغاء لنصحه و ترقيق قلوبهم لقوله.
و ابتداء الموعظة بقوله: لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ تذكير بنعمة اللّه عليهم، و تمهيد لتخويفهم من غضب اللّه، يعني: لا تغرنكم عظمتكم و ملككم فإنهما
(1) بعض حديث أوله:
الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول اللّه قال للّه و لرسوله
إلخ.
التحرير و التنوير، ج24، ص: 187
معرضان للزوال إن غضب اللّه عليكم.
و المقصود: تخويف فرعون من زوال ملكه، و لكنه جعل الملك لقومه لتجنب مواجهة فرعون بفرض زوال ملكه.
و الأرض: أرض مصر، أي نافذا حكمكم في هذا الصقع.
و فرع على هذا التمهيد: فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا ، و (من) للاستفهام الإنكاري عن كل ناصر، فالمعنى: فلا نصر لنا من بأس اللّه. و أدمج نفسه مع قومه في يَنْصُرُنا و جاءَنا ، ليريهم أنه يأبى لقومه ما يأباه لنفسه و أن المصيبة إن حلت لا تصيب بعضهم دون بعض.
و معنى ظاهِرِينَ غالبين، و تقدم آنفا، أي إن كنتم قادرين على قتل موسى فاللّه قادر على هلاككم.
و البأس: القوة على العدوّ و المعاند، فهو القوة على الضر.
قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ تفطن فرعون إلى أنه المعرّض به في خطاب الرجل المؤمن قومه فقاطعه كلامه و بيّن سبب عزمه على قتل موسى عليه السلام بأنه ما عرض عليهم ذلك إلا لأنه لا يرى نفعا إلا في قتل موسى و لا يستصوب غير ذلك و يرى ذلك هو سبيل الرشاد، و كأنه أراد لا يترك لنصيحة مؤمنهم مدخلا إلى نفوس ملئه خيفة أن يتأثروا بنصحه فلا يساعدوا فرعون على قتل موسى. و لكون كلام فرعون صدر مصدر المقاطعة لكلام المؤمن جاء فعل قول فرعون مفصولا غير معطوف و هي طريقة حكاية المقاولات و المحاورة.
و معنى: ما أُرِيكُمْ : ما أجعلكم رائين إلا ما أراه لنفسي، أي ما أشير عليكم بأن تعتقدوا إلا ما أعتقده، فالرؤية علمية، أي لا أشير إلا بما هو معتقدي.
و السبيل: مستعار للعمل، و إضافته إلى الرشاد قرينة، أي ما أهديكم و أشير عليكم إلا بعمل فيه رشاد. و كأنه يعرّض بأن كلام مؤمنهم سفاهة رأي. و المعنى الحاصل من الجملة الثانية غير المعنى الحاصل من الجملة الأولى كما هو بيّن و كما هو مقتضى العطف.
[30- 31]
[سورة غافر (40): الآيات 30 الى 31]
التحرير و التنوير، ج24، ص: 188
لما كان هذا تكملة لكلام الذي آمن و لم يكن فيه تعريج على محاورة فرعون على قوله: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى [غافر: 29] إلخ و كان الذي آمن قد جعل كلام فرعون في البين و استرسل يكمل مقالته عطف فعل قوله بالواو ليتصل كلامه بالكلام الذي قبله، و لئلا يتوهم أنه قصد به مراجعة فرعون و لكنه قصد إكمال خطابه، و عبر عنه بالذي آمن لأنه قد عرف بمضمون الصلة بعد ما تقدم. و إعادته نداء قومه تأكيد لما قصده من النداء الأول حسبما تقدم.
و جعل الخوف و ما في معناه يتعدى إلى المخوف منه بنفسه و إلى المخوف عليه بحرف (على) قال لبيد يرثي أخاه أربد:
أخشى على أربد الحتوف و لا
أخشى عليه الرياح و المطرا
و يَوْمِ الْأَحْزابِ مراد به، الجنس لا (يوم) معين بقرينة إضافته إلى جمع أزمانهم متباعدة. فالتقدير: مثل أيام الأحزاب، فإفراد يوم للإيجاز، مثل بطن في قول الشاعر و هو من شواهد سيبويه في باب الصفة المشبهة بالفاعل:
كلوا في بعض بطنكم تعفّوا
فإن زمانكم زمن خميص
و المراد بأيام الأحزاب أيام إهلاكهم و العرب يطلقون اليوم على يوم الغالب و يوم المغلوب. و الأحزاب الأمم لأن كل أمة حزب تجمعهم أحوال واحدة و تناصر بينهم فلذلك تسمى الأمة حزبا، و تقدم عند قوله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ في سورة المؤمنين [53].
و الدأب: العادة و العمل الذي يدأب عليه عامله، أي يلازمه و يكرره، و تقدم في قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ في أول آل عمران [11].
و انتصب مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ على عطف البيان من مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ و لما كان بيانا له كان ما يضافان إليه متحدا لا محالة فصار الأحزاب و (الدأب) في معنى واحد و إنما يتم ذلك بتقدير مضاف متحد فيهما، فالتقدير: مثل يوم جزاء الأحزاب. مثل يوم جزاء دأب قوم نوح و عاد و ثمود، أي جزاء عملهم. و دأبهم الذي اشتركوا فيه هو الإشراك باللّه.
و هذا يقتضي أن القبط كانوا على علم بما حلّ بقوم نوح و عاد و ثمود، فأما قوم نوح فكان طوفانهم مشهورا، و أما عاد و ثمود فلقرب بلادهم من البلاد المصرية و كان عظيما لا
التحرير و التنوير، ج24، ص: 189
يخفى على مجاوريهم.
و جملة وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ معترضة، و الواو اعتراضية و هي اعتراض بين كلاميه المتعاطفين، أي أخاف عليكم جزاء عادلا من اللّه و هو جزاء الإشراك.
و الظلم يطلق على الشرك إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]، و يطلق على المعاملة بغير الحق، و قد جمع قوله: وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ نفي الظلم بمعنييه على طريقة استعمال المشترك في معنييه. و كذلك فعل يُرِيدُ يطلق بمعنى المشيئة كقوله: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة: 6] و يطلق بمعنى المحبة كقوله: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ [الذاريات: 57]، فلما وقع فعل الإرادة في حيّز النفي اقتضى عموم نفي الإرادة بمعنييها على طريقة استعمال المشترك في معنييه، فاللّه تعالى لا يحب صدور ظلم من عباده و لا يشاء أن يظلم عباده. و أول المعنيين في الإرادة و في الظلم أعلق بمقام الإنذار، و المعنى الثاني تابع للأول لأنه يدل على أن اللّه تعالى لا يترك عقاب أهل الشرك لأنه عدل، لأن التوعد بالعقاب على الشرك و الظلم أقوى الأسباب في إقلاع الناس عنه، و صدق الوعيد من متممات ذلك مع كونه مقتضى الحكمة لإقامة العدل.
و تقديم اسم اللَّهُ على الخبر الفعلي لإفادة قصر مدلول المسند على المسند إليه، و إذ كان المسند واقعا في سياق النفي كان المعنى: قصر نفي إرادة الظلم على اللّه تعالى قصر قلب، أي اللّه لا يريد ظلما للعباد بل غيره يريدونه لهم و هم قادة الشرك و أيمته إذ يدعونهم إليه و يزعمون أن اللّه أمرهم به قال تعالى: وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الأعراف: 28].
هذا على المعنى الأول للظلم، و أما على المعنى الثاني فالمعنى: ما اللّه يريد أن يظلم عباده و لكنهم يظلمون أنفسهم باتباع أئمتهم على غير بصيرة كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس: 44] و بظلمهم دعاتهم و أئمتهم كما قال تعالى: وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101]، فلم يخرج تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في سياق النفي في هذه الآية عن مهيع استعماله في إفادة قصر المسند على المسند إليه فتأمله.
[32- 33]
[سورة غافر (40): الآيات 32 الى 33]