کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

التحرير و التنوير


صفحه قبل

التحرير و التنوير، ج‏25، ص: 165

[32- 34]

[سورة الشورى (42): الآيات 32 الى 34]

وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى‏ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)

لما جرى تذكيرهم بأنّ ما أصابهم من مصيبة هو مسبب عن اقتراف أعمالهم، و تذكيرهم بحلول المصائب تارة و كشفها تارة أخرى بقوله: وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:

30]، و أعقب بأنهم في الحالتين غير خارجين عن قبضة القدرة الإلهية سيق لهم ذكر هذه الآية جامعة مثالا لإصابة المصائب و ظهور مخائلها المخيفة المذكّرة بما يغفلون عنه من قدرة اللّه و التي قد تأتي بما أنذروا به و قد تنكشف عن غير ضر، و دليلا على عظيم قدرة اللّه تعالى و أنه لا محيص عن إصابة ما أراده، و إدماجا للتذكير بنعمة السير في البحر و تسخير البحر للناس فإن ذلك نعمة، قال تعالى: وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ‏ في سورة البقرة [164]، فكانت هذه الجملة اعتراضا مثل جملة وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ [الشورى: 29].

و الآيات: الأدلة الدالة على الحق.

و الجواري: جمع جارية صفة لمحذوف دل عليه ذكر البحر، أي السفن الجواري في البحر كقوله تعالى في سورة الحاقة [11] إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ .

و عدل عن: الفلك إلى‏ الْجَوارِ إيماء إلى محل العبرة لأن العبرة في تسخير البحر لجريها و تفكير الإنسان في صنعها.

و الأعلام: جمع علم و هو الجبل، و المراد: بالجواري السفن العظيمة التي تسع ناسا كثيرين، و العبرة بها أظهر و النعمة بها أكثر.

و كتبت كلمة الْجَوارِ في المصحف بدون ياء بعد الراء و لها نظائر كثيرة في القرآن في الرسم و القراءة، و للقراء في أمثالها اختلاف هي التي تدعى عند علماء القراءات بالياءات الزوائد.

و قرأ نافع و أبو عمرو و أبو جعفر الجواري في هذه السورة بإثبات الياء في حالة الوصل و بحذفها في حالة الوقف. و قرأ ابن كثير و يعقوب بإثبات الياء في الحالين. و قرأ الباقون بحذفها في الحالين.

التحرير و التنوير، ج‏25، ص: 166

و إسكان الرياح: قطع هبوبها، فإن الريح حركة و تموّج في الهواء فإذا سكن ذلك التموّج فلا ريح.

و قرأ نافع الرياح بلفظ الجمع. و قرأه الباقون‏ الرِّيحَ‏ بلفظ المفرد. و في قراءة الجمهور ما يدل على أن الريح قد تطلق بصيغة الإفراد على الريح الخير، و ما قيل: إن الرياح للخير و الريح للعذاب في القرآن هو غالب لا مطّرد. و قد قرى‏ء في آيات أخرى الرياح و الريح في سياق الخير دون العذاب.

و قرأ الجمهور يَشَأْ بهمزة ساكنة. و قرأه ورش عن نافع بألف على أنه تخفيف للهمزة.

و الرواكد: جمع راكدة، و الركود: الاستقرار و الثبوت.

و الظهر: الصلب للإنسان و الحيوان، و يطلق على أعلى الشي‏ء إطلاقا شائعا. يقال:

ظهر البيت، أي سطحه، و تقدم في قوله تعالى: وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [البقرة: 189]. و أصله: استعارة فشاعت حتى قاربت الحقيقة، فظهر البحر سطح مائه البادي للناظر، كما أطلق ظهر الأرض على ما يبدو منها، قال تعالى: ما تَرَكَ عَلى‏ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45].

و جعل ذلك آية لكل صبّار شكور لأن في الحالتين خوفا و نجاة، و الخوف يدعو إلى الصبر، و النجاة تدعو إلى الشكر. و المراد: أن في ذلك آيات لكل مؤمن متخلق بخلق الصبر على الضرّاء و الشكر للسرّاء، فهو يعتبر بأحوال الفلك في البحر اعتبارا يقارنه الصبر أو الشكر.

و إنما جعل ذلك آية للمؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بتلك الآية فيعلمون أن اللّه منفرد بالإلهية بخلاف المشركين فإنها تمر بأعينهم فلا يعتبرون بها.

و قوله: أَوْ يُوبِقْهُنَ‏ عطف على جزاء الشرط.

و يُوبِقْهُنَ‏ : يهلكهن. و الإيباق: الإهلاك، و فعله وبق كوعد. و المراد به هنا الغرق، فيجوز أن يكون ضمير جماعة الإناث عائدا إلى‏ الْجَوارِ على أن يستعار الإيباق للإغراق لأنّ الإغراق إتلاف. و يجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الراكبين على تأويل معاد الضمير بالجماعات بقرينة قوله: بِما كَسَبُوا فهو كقوله: وَ عَلى‏ كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ‏ [الحج: 27].

التحرير و التنوير، ج‏25، ص: 167

و الباء للسببية و هو في معنى قوله: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏ [الشورى: 30].

و يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ عطف على‏ يُوبِقْهُنَ‏ فهو في معنى جزاء للشرط المقدّر، أي و إن يشأ يعف عن كثير فلا يوبقهم مع استحقاقهم أن يوبقوا. و هذا العطف اعتراض.

[35]

[سورة الشورى (42): آية 35]

وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)

قرأ نافع و ابن عامر و يعقوب برفع‏ وَ يَعْلَمَ‏ على أنه كلام مستأنف. و قرأه الباقون بالنصب.

فأما الاستئناف على قراءة نافع و ابن عامر و يعقوب فمعناه أنه كلام أنف لا ارتباط له بما قبله، و ذلك تهديد للمشركين بأنهم لا محيص لهم من عذاب اللّه لأنه لما قال: وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ [الشورى: 32] صار المعنى: و من آيات انفراده بالإلهية الجواري في البحر. و المشركون يجادلون في دلائل الوحدانية بالإعراض و الانصراف عن سماعها فهددهم اللّه بأن أعلمهم أنهم لا محيص لهم، أي من عذابه، فحذف متعلق المحيص إبهاما له تهويلا للتهديد لتذهب النفس كل مذهب ممكن فيكون قوله: وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ‏ خبرا مرادا به الإنشاء و الطلب فهو في قوة: و ليعلم الذين يجادلون، أو اعلموا يا من يجادلون، و ليس خبرا عنهم لأنهم لا يؤمنون بذلك حتى يعلموه.

و أما قراءة النصب فهي عند سيبويه و جمهور النحاة على العطف على فعل مدخول للام التعليل، و تضمّن (أن) بعده. و التقدير: لينتقم منهم و يعلم الذين يجادلون إلخ. و سموا هذه الواو واو الصّرف لأنها تصرف ما بعدها عن أن يكون معطوفا على ما قبلها، إلى أن يكون معطوفا على فعل متصيّد من الكلام، و هذا قول سيبويه في باب ما يرتفع بين الجزمين و ينجزم بينهما، و تبعه في «الكشاف»، و ذهب الزجاج إلى أن الواو واو المعية التي ينصب الفعل المضارع بعدها ب (أن) مضمرة.

و يجوز أن يجعل الخبر مستعملا في مقاربة المخبر به كقولهم: قد قامت الصلاة، فلما كان علمهم بذلك يوشك أن يحصل نزّل منزلة الحاصل فأخبر عنهم به، و على هذا الوجه يكون إنذارا بعقاب يحصل لهم قريب و هو عذاب السيف و الأسر يوم بدر.

و ذكر فعل‏ يَعْلَمَ‏ للتنويه و الاعتناء بالخبر كقوله تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ‏ في سورة البقرة [223]، و قوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ في سورة الأنفال [41]، و

قول النبي‏ء صلى اللّه عليه و سلّم‏ حين رأى أبا مسعود الأنصاري يضرب غلاما له فناداه: «اعلم أبا مسعود!

التحرير و التنوير، ج‏25، ص: 168

اعلم أبا مسعود، قال أبو مسعود: فالتفتّ فإذا هو رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود. فألقيت السوط من يدي، فقال لي: إن اللّه أقدر عليك منك على هذا الغلام» رواه مسلم أواخر كتاب الإيمان‏

. و تقدم معنى‏ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا في هذه السورة.

و ما نافية، و هي معلّقة لفعل‏ يَعْلَمَ‏ عن نصب المفعولين.

و المحيص: مصدر ميمي من حاص، إذا أخذ في الفرار و مال في سيره، و في حديث أبي سفيان في وصف مجلس هرقل «فحاصوا حيصة حمر الوحش و أغلقت الأبواب». و المعنى: ما لهم من فرار و مهرب من لقاء اللّه. و المراد: ما لهم من محيد و لا ملجأ. و تقدم في قوله تعالى: وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً في سورة النساء [121].

[36]

[سورة الشورى (42): آية 36]

فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)

تفريع على جملة وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا [الشورى: 27] إلى آخرها، فإنها اقتضت وجود منعم عليه و محروم، فذكّروا بأن ما أوتوه من رزق هو عرض زائل، و أن الخير في الثواب الذي ادخره اللّه للمؤمنين، مع المناسبة لما سبقه من قوله: وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 34] من سلامة الناس من كثير من أهوال الأسفار البحرية فإن تلك السلامة نعمة من نعم الدنيا، ففرعت عليه الذكرى بأن تلك النعمة الدنيوية نعمة قصيرة الزمان صائرة إلى الزوال فلا يجعلها الموفّق غاية سعيه و ليسع لعمل الآخرة الذي يأتي بالنعيم العظيم الدائم و هو النعيم الذي ادّخره اللّه عنده لعباده المؤمنين الصالحين.

و الخطاب في قوله: أُوتِيتُمْ‏ للمشركين جريا على نسق الخطاب السابق في قوله:

وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏ [الشورى: 30] و قوله: وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ [الشورى: 31]، و ينسحب الحكم على المؤمنين بلحن الخطاب، و يجوز أن يكون الخطاب لجميع الأمة، فالفاء الأولى للتفريع، و ما موصولة ضمنت معنى الشرط و الفاء الثانية في قوله: فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا داخلة على خبر ما الموصولة لتضمنها معنى الشرط و إنما لم نجعل‏ ما شرطية لأن المعنى على الإخبار لا على التعليق، و إنما تضمن معنى الشرط و هو مجرد ملازمة الخبر لمدلول اسم الموصول كما تقدم نظيره آنفا في قوله: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏ [الشورى: 30] في قراءة غير نافع و ابن عامر.

التحرير و التنوير، ج‏25، ص: 169

و يتعلق قوله: خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ لِلَّذِينَ آمَنُوا على وجه التنازع، و اتبعت صلة (الذين آمنوا) بما يدل على عملهم بإيمانهم في اعتقادهم فعطف على الصلة أنهم يتوكلون على ربّهم دون غيره. و هذا التوكل إفراد للّه بالتوجّه إليه في كل ما تعجز عنه قدرة العبد، فإن التوجه إلى غيره في ذلك ينافي التوحيد لأن المشركين يتوكلون على آلهتهم أكثر من توكلهم على اللّه، و لكون هذا متمّما لمعنى (الذين آمنوا) عطف على الصلة و لم يؤت معه باسم موصول بخلاف ما ورد بعده.

[37]

[سورة الشورى (42): آية 37]

وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)

أتبع الموصول السابق بموصولات معطوف بعضها على بعض كما تعطف الصفات للموصوف الواحد، فكذلك عطف هذه الصلات و موصولاتها أصحابها متحدون و هم الذين آمنوا باللّه وحده و قد تقدم نظيره عند قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ‏ [البقرة: 3] ثم قوله: وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏ الآية في سورة البقرة [4].

و المقصود من ذلك: هو الاهتمام بالصلات فيكرر الاسم الموصول لتكون صلته معتنى بها حتى كأنّ صاحبها المتّحد منزّل منزلة ذوات. فالمقصود: ما عند اللّه خير و أبقى للمؤمنين الذين هذه صفاتهم، أي أتبعوا إيمانهم بها. و هذه صفات للمؤمنين باختلاف الأحوال العارضة لهم فهي صفات متداخلة قد تجتمع في المؤمن الواحد إذا وجدت أسبابها و قد لا تجتمع إذا لم توجد بعض أسبابها مثل‏ وَ أَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ‏ [38].

و قرأ الجمهور كَبائِرَ بصيغة الجمع. و قرأه حمزة و الكسائي و خلف كبير بالإفراد، فكبائر الإثم: الفعلات الكبيرة من جنس الإثم و هي الآثام العظيمة التي نهى الشرع عنها نهيا جازما، و توعد فاعلها بعقاب الآخرة مثل القذف و الاعتداء و البغي. و على قراءة كبيرة الإثم مراد به معنى كبائر الإثم لأن المفرد لما أضيف إلى معرّف بلام الجنس من إضافة الصفة إلى الموصوف كان له حكم ما أضيف هو إليه.

و الْفَواحِشَ‏ : جمع فاحشة، و هي: الفعلة الموصوفة بالشناعة و التي شدد الدّين في النهي عنها و توعّد عليها بالعذاب أو وضع لها عقوبات في الدنيا للذي يظهر عليه من فاعليها. و هذه مثل قتل النفس، و الزنا، و السرقة، و الحرابة. و تقدّم عند قوله: وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا في سورة الأعراف [28].

و كبائر الإثم و الفواحش قد تدعو إليها القوة الشاهية. و لما كان كثير من كبائر الإثم‏

التحرير و التنوير، ج‏25، ص: 170

و الفواحش متسببا على القوة الغضبية مثل القتل و الجراح و الشتم و الضرب أعقب الثناء على الذين يجتنبونها، فذكر أن من شيمتهم المغفرة عند الغضب، أي إمساك أنفسهم عن الاندفاع مع داعية الغضب فلا يغول الغضب أحلامهم.

و جي‏ء بكلمة إِذا المضمنة معنى الشرط و الدالّة على تحقق الشرط، لأن الغضب طبيعة نفسية لا تكاد تخلو عنه نفس أحد على تفاوت. و جملة وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ‏ عطف على جملة الصلة.

و قدم المسند إليه على الخبر الفعلي في جملة هُمْ يَغْفِرُونَ‏ لإفادة التقوّي.

و تقييد المسند ب إِذا المفيدة معنى الشرط للدّلالة على تكرر الغفران كلما غضبوا.

و المقصود من هذا معاملة المسلمين بعضهم مع بعض فلا يعارضه قوله الآتي‏ وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ‏ [الشورى: 39] لأن ذلك في معاملتهم مع أعداء دينهم.

[38]

[سورة الشورى (42): آية 38]

وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38)

هذا موصول آخر وصلة أخرى. و مدلولهما من أعمال الذين آمنوا التي يدعوهم إليها إيمانهم، و المقصود منها ابتداء هم الأنصار، كما روي عن عبد الرحمن بن زيد. و معنى ذلك أنهم من المؤمنين الذين تأصل فيهم خلق الشورى.

و أما الاستجابة للّه فهي ثابتة لجميع من آمن باللّه لأن الاستجابة للّه هي الاستجابة لدعوة النبي‏ء صلى اللّه عليه و سلّم فإنه دعاهم إلى الإسلام مبلّغا عن اللّه فكأنّ اللّه دعاهم إليه فاستجابوا لدعوته. و السين و التاء في‏ اسْتَجابُوا للمبالغة في الإجابة، أي هي إجابة لا يخالطها كراهية و لا تردد.

و لام له للتقوية يقال: استجاب له كما يقال: استجابه، فالظاهر أنه أريد منه استجابة خاصة، و هي إجابة المبادرة مثل أبي بكر و خديجة و عبد اللّه بن مسعود و سعد بن أبي وقاص و نقباء الأنصار أصحاب ليلة العقبة.

و جعلت‏ وَ أَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ‏ عطفا على الصلة. و قد عرف الأنصار بذلك إذ كان التشاور في الأمور عادتهم فإذا نزل بهم مهمّ اجتمعوا و تشاوروا و كان من تشاورهم الذي أثنى اللّه عليهم به هو تشاورهم حين ورد إليهم نقباؤهم و أخبروهم بدعوة محمد صلى اللّه عليه و سلّم‏

التحرير و التنوير، ج‏25، ص: 171

بعد أن آمنوا هم به ليلة العقبة، فلما أبلغوهم ذلك اجتمعوا في دار أبي أيوب الأنصاري فأجمع رأيهم على الإيمان به و النصر له.

و إذ قد كانت الشورى مفضية إلى الرشد و الصواب و كان من أفضل آثارها أن اهتدى بسببها الأنصار إلى الإسلام أثنى اللّه بها على الإطلاق دون تقييد بالشورى الخاصّة التي تشاور بها الأنصار في الإيمان و أيّ أمر أعظم من أمر الإيمان.

و الأمر: اسم من أسماء الأجناس العامة مثل: شي‏ء و حادث. و إضافة اسم الجنس قد تفيد العموم بمعونة المقام، أي جميع أمورهم متشاور فيها بينهم.

و الإخبار عن الأمر بأنه شورى من قبيل الإخبار بالمصدر للمبالغة. و الإسناد مجاز عقلي لأن الشورى تسند للمتشاورين، و أما الأمر فهو ظرف مجازي للشورى، ألا ترى أنه يقال: تشاورا في كذا، قال تعالى: وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فاجتمع في قوله: وَ أَمْرُهُمْ شُورى‏ مجاز عقلي و استعارة تبعية و مبالغة.

و الشورى مصدر كالبشرى و الفتيا هي أن قاصد عمل يطلب ممن يظنّ فيه صواب الرأي و التدبير أن يشير عليه بما يراه في حصول الفائدة المرجوّة من عمله، و تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ في سورة آل عمران [159].

و قوله: بَيْنَهُمْ‏ ظرف مستقر هو صفة ل شُورى‏ . و التشاور لا يكون إلا بين المتشاورين فالوجه أن يكون هذا الظرف إيماء إلى أن الشورى لا ينبغي أن تتجاوز من يهمهم الأمر من أهل الرأي فلا يدخل فيها من لا يهمه الأمر، و إلى أنها سرّ بين المتشاورين قال بشار:

و لا تشهد الشورى أمرا غير كاتم و قد كان شيخ الإسلام محمود ابن الخوجة أشار في حديث جرى بيني و بينه إلى اعتبار هذا الإيماء إشارة بيده حين تلا هذه الآية، و لا أدري أذلك استظهار منه أم شي‏ء تلقاه من بعض الكتب أو بعض أساتذته و كلا الأمرين ليس ببعيد عن مثله.

صفحه بعد