کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج26، ص: 94
و رجع هو و أتباعه و كانوا ثلث الجيش و ذلك سنة ثلاث من الهجرة، أي بعد نزول هذه الآية بنحو ثلاث سنين.
و قوله: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ جواب كما تقدم، و في الكلام إيجاز لأن قوله: لَكانَ خَيْراً يؤذن بأنه إذا عزم الأمر حصل لهم ما لا خير فيه. و لفظ خَيْراً ضد الشّر بوزن فعل، و ليس هو هنا بوزن أفعل.
[22]
[سورة محمد (47): آية 22]
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22)
مقتضى تناسق النظم أن هذا مفرع على قوله: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [محمد: 21] لأنه يفهم منه أنه إذا عزم الأمر تولوا عن القتال و انكشف نفاقهم فتكون إتماما لما في الآية السابقة من الإنباء بما سيكون من المنافقين يوم أحد. و قد قال عبد اللّه بن أبي: علام نقتل أنفسنا هاهنا؟ و ربما قال في كلامه: و كيف نقاتل قريشا و هم من قومنا، و كان لا يرى على أهل يثرب أن يقاتلوا مع النبيء صلى اللّه عليه و سلّم و يرى الاقتصار على أنهم آووه. و الخطاب موجّه إلى الذين في قلوبهم مرض على الالتفات.
و الاستفهام مستعمل في التكذيب لما سيعتذرون به لا نخزالهم و لذلك جيء فيه بهل الدالة على التحقيق لأنّها في الاستفهام بمنزلة (قد) في الخبر، فالمعنى: أ فيتحقق إن توليتم أنكم تفسدون في الأرض و تقطعون أرحامكم و أنتم تزعمون أنكم توليتم إبقاء على أنفسكم و على ذوي قرابة أنسابكم على نحو قوله تعالى: قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا [البقرة: 246] و هذا توبيخ كقوله تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ [البقرة: 85]. و المعنى: أنكم تقعون فيما زعمتم التّفادي منه و ذلك بتأييد الكفر و إحداث العداوة بينكم و بين قومكم من الأنصار. فالتولّي هنا هو الرجوع عن الوجهة التي خرجوا لها كما في قوله تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [البقرة: 246] و قوله: أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى [النجم: 33] و قوله: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [طه: 60]. و بمثله فسر ابن جريج و قتادة على تفاوت بين التفاسير. و من المفسرين من حمل التولّي على أنه مطاوع ولّاه إذا أعطاه ولاية، أي ولاية الحكم و الإمارة على الناس و به فسر أبو العالية و الكلبي و كعب الأحبار. و هذا بعيد من اللفظ و من النظم و فيه تفكيك لاتصال نظم الكلام و انتقال بدون مناسبة، و تجاوز بعضهم ذلك فأخذ يدعي أنها نزلت في الحرورية و منهم من جعلها فيما يحدث بين بني أمية و بني
التحرير و التنوير، ج26، ص: 95
هاشم على عادة أهل الشيع و الأهواء من تحميل كتاب اللّه ما لا يتحمله و من قصر عموماته على بعض ما يراد منها.
و قرأ نافع وحده عَسَيْتُمْ بكسر السين. و قرأه بقية العشرة بفتح السين و هما لغتان في فعل عسى إذا اتصل به ضمير. قال أبو علي الفارسي: وجه الكسر أن فعله: عسي مثل رضي، و لم ينطقوا به إلّا إذا أسند هذا الفعل إلى ضمير، و إسناده إلى الضمير لغة أهل الحجاز، أما بنو تميم فلا يسندونه إلى الضمير البتة، يقولون: عسى أن تفعلوا.
[23]
[سورة محمد (47): آية 23]
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ (23)
الإشارة إلى الذين في قلوبهم مرض على أسلوب قوله آنفا: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [محمد: 16] و لا يصح أن تكون الإشارة إلى ما يؤخذ من قوله: أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [محمد: 22] لأن ذلك لا يستوجب اللعنة و لا أن مرتكبيه بمنزلة الصمّ، على أن في صيغة المضيّ في أفعال: لعنهم، و أصمّهم، و أعمى، ما لا يلاقي قوله: فَهَلْ عَسَيْتُمْ [محمد: 22] و لا ما في حرف (إن) من زمان الاستقبال.
و استعير الصمم لعدم الانتفاع بالمسموعات من آيات القرآن و مواعظ النبيء صلى اللّه عليه و سلّم، كما استعير العمى هنا لعدم الفهم على طريقة التمثيل لأن حال الأعمى أن يكون مضطربا فيما يحيط به لا يدري نافعه من ضارّه إلا بمعونة من يرشده، و كثر أن يقال: أعمى اللّه بصره، مرادا به أنه لم يهده، و هذه هي النكتة في مجيء تركيب وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ مخالفا لتركيب فَأَصَمَّهُمْ إذ لم يقل: و أعمالهم.
و في الآية إشعار بأن الفساد في الأرض و قطيعة الأرحام من شعار أهل الكفر، فهما جرمان كبيران يجب على المؤمنين اجتنابهما.
[24]
[سورة محمد (47): آية 24]
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)
تفريع على قوله: فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ [محمد: 23]، أي هلا تدبروا القرآن عوض شغل بالهم في مجلسك بتتبع أحوال المؤمنين، أو تفريع على قوله: فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ . و المعنى: أن اللّه خلقهم بعقول غير منفعلة بمعاني الخير و الصلاح فلا يتدبرون القرآن مع فهمه أو لا يفهمونه عند تلقيه و كلا الأمرين عجيب.
و الاستفهام تعجيب من سوء علمهم بالقرآن و من إعراضهم عن سماعه. و حرف
التحرير و التنوير، ج26، ص: 96
أَمْ للإضراب الانتقالي. و المعنى: بل على قلوبهم أقفال و هذا الذي سلكه جمهور المفسرين و هو الجاري على كلام سيبويه في قوله تعالى: أَ فَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ في سورة الزخرف [51، 52]، خلافا لما يوهمه أو توهمه ابن هشام في «مغني اللبيب».
و التدبر: التفهم في دبر الأمر، أي ما يخفى منه و هو مشتق من دبر الشيء، أي خلفه.
و الأقفال: جمع قفل، و هو استعارة مكنية إذ شبهت القلوب، أي العقول في عدم إدراكها المعاني بالأبواب أو الصناديق المغلقة، و الأقفال تخييل كالأظفار للمنية في قول أبي ذؤيب الهذلي:
و إذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
و تنكير قُلُوبٍ للتنويع أو التبعيض، أي على نوع من القلوب أقفال. و المعنى: بل بعض القلوب عليها أقفال. و هذا من التعريض بأن قلوبهم من هذا النوع لأن إثبات هذا النوع من القلوب في أثناء التعجيب من عدم تدبر هؤلاء القرآن يدل بدلالة الالتزام أن قلوب هؤلاء من هذا النوع من القلوب ذوات الأقفال. فكون قلوبهم من هذا النوع مستفاد من الإضراب الانتقالي في حكاية أحوالهم. و يدنو من هذا قول لبيد:
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها
أو يتعلق بعض النفوس حمامها
يريد نفسه لأنه وقع بعد قوله: ترّاك أمكنة البيت، أي أنا تراك أمكنة.
و إضافة (أقفال) إلى ضمير قُلُوبٍ نظم بديع أشار إلى اختصاص الأقفال بتلك القلوب، أي ملازمتها لها فدلّ على أنها قاسية.
[25]
[سورة محمد (47): آية 25]
لم يزل الكلام على المنافقين فالذين ارتدوا على أدبارهم منافقون، فيجوز أن يكون مرادا به قوم من أهل النفاق كانوا قد آمنوا حقا ثم رجعوا إلى الكفر لأنهم كانوا ضعفاء الإيمان قليلي الاطمئنان و هم الذين مثلهم اللّه في سورة البقرة [17] بقوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ الآية.
التحرير و التنوير، ج26، ص: 97
و الارتداد على الأدبار على هذا الوجه: تمثيل للراجع إلى الكفر بعد لإيمان بحال من سار ليصل إلى مكان ثم ارتد في طريقه. و لما كان الارتداد سيرا إلى الجهة التي كانت وراء السائر جعل الارتداد إلى الأدبار، أي إلى جهة الأدبار. و جيء بحرف عَلى للدلالة على أن الارتداد متمكن من جهة الأدبار كما يقال: على صراط مستقيم.
و الهدى: الإيمان، و تبيّن الهدى لهم على هذا الوجه تبيّن حقيقي لأنهم ما آمنوا إلا بعد أن تبين لهم هدى الإيمان.
و على هذا الوجه فالإتيان بالموصول و الصلة ليس إظهارا في مقام الإضمار لأن أصحاب هذه الصلة بعض الذين كان الحديث عنهم فيما تقدم. و يجوز أن يكون مرادا به جميع المنافقين، عبر عن تصميمهم على الكفر بعد مشاركتهم المسلمين في أحوالهم في مجلس النبيء صلى اللّه عليه و سلّم و الصلاة معه و سماع القرآن و المواعظ بالارتداد لأنه مفارقة لتلك الأحوال الطيبة، أي رجعوا إلى أقوال الكفر و أعماله و ذلك إذا خلوا إلى شياطينهم، و تبين الهدى على هذا الوجه كونه بيّنا في نفسه، و هو بيّن لهم لوضوح أدلته و لا غبار عليه، فهذا التبين من قبيل قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2]، أي ليس معه ما يوجب ريب المرتابين. و يجوز أن يكون المراد به قوما من المنافقين لم يقاتلوا مع المسلمين بعد أن علموا أن القتال حق. و هذا قول ابن عباس و الضحاك و السدّي، و عليه فلعل المراد:
الجماعة الذين انخزلوا يوم أحد مع عبد اللّه بن أبيّ بن سلول، و الارتداد على الأدبار على هذا الوجه حقيقة لأنهم رجعوا عن موقع القتال بعد أن نزلوا به فرجعوا إلى المدينة و كانت المدينة خلفهم. و هذا عندي أظهر الوجهين و أليق بقوله بعد ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ إلى قوله: وَ أَدْبارَهُمْ [محمد: 26، 27]. و الهدى على هذا الوجه هو الحقّ، أي من بعد ما علموا أن الحق قتال المشركين.
و أوثر أن يكون خبر (إنّ) جملة ليتاتّى بالجملة اشتمالها على خصائص الابتداء باسم الشيطان للاهتمام به في غرض ذمهم، و أن يسند إلى اسمه مسند فعلي ليفيد تقوّي الحكم نحو: هو يعطي الجزيل.
و التسويل: تسهيل الأمر الذي يستشعر منه صعوبة أو ضر و تزيين ما ليس بحسن.
و الإملاء: المدّ و التمديد في الزمان، و يطلق على الإبقاء على الشيء كثيرا، أي أراهم الارتداد حسنا دائما كما حكى عنه في قوله تعالى: قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى [طه: 120]، أي أن ارتدادهم من عمل الشيطان.
التحرير و التنوير، ج26، ص: 98
و قرأ الجمهور وَ أَمْلى لَهُمْ بفتح الهمزة على صيغة المبني للفاعل. و قرأه أبو عمرو بضم الهمزة و كسر اللام و فتح التحتية على صيغة المبني إلى المجهول. و قرأه يعقوب بضم الهمزة و كسر اللام و سكون التحتية على أنه مسند إلى المتكلم فالضمير عائد إلى اللّه تعالى، أي الشيطان سوّل لهم و أنا أملي لهم فيكون الكلام وعيدا، أي أنا أؤخرهم قليلا ثم أعاقبهم.
[26]
[سورة محمد (47): آية 26]
استئناف بياني إذ التقدير أن يسأل سائل عن مظهر تسويل الشيطان لهم الارتداد بعد أن تبين لهم الهدى، فأجيب بأن الشيطان استدرجهم إلى الضلال عند ما تبين لهم الهدى فسوّل لهم أن يوافقوا أهل الشرك و الكفر في بعض الأمور مسولا أن تلك الموافقة في بعض الأمر لا تنقض اهتداءهم فلما وافقوهم وجدوا حلاوة ما ألفوه من الكفر فيما وافقوا فيه أهل الكفر فأخذوا يعودون إلى الكفر المألوف حتى ارتدوا على أدبارهم. و هذا شأن النفس في معاودة ما تحبه بعد الانقطاع عنه إن كان الانقطاع قريب العهد.
فمعنى قالُوا : قالوا قولا عن اعتقاد و رأي، و إنما قالوا: فِي بَعْضِ الْأَمْرِ احترازا لأنفسهم إذا لم يطيعوا في بعض.
و لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ هم الذين كرهوا القرآن و كفروا، و هم: إما المشركون من أهل مكة قال تعالى فيهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ [محمد: 9] و قد كانت لهم صلة بأهل يثرب فلما هاجر النبيء صلى اللّه عليه و سلّم إلى المدينة اشتد تعهد أهل مكة لأصحابهم من أهل يثرب ليتطلعوا أحوال المسلمين، و لعلهم بعد يوم بدر كانوا يكيدون للمسلمين و يتأهبون للثأر منهم الذي أنجزوه يوم أحد. و إما اليهود من قريظة و النضير فقد حكى اللّه عنهم في قوله: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الحشر: 11].
فالمراد ب بَعْضِ الْأَمْرِ على الوجه الأول في محمل قوله: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ [محمد: 25] إفشاء بعض أحوال المسلمين إليهم و إشعارهم بوفرة عدد المنافقين و إن كانوا لا يقاتلون لكراهتهم القتال. و المراد ب بَعْضِ الْأَمْرِ على الوجه الثاني بعض أمر القتال، يعنون تلك المكيدة التي دبروها للانخزال عن جيش المسلمين.
التحرير و التنوير، ج26، ص: 99
و الأمر هو: شأن الشرك و ما يلائم أهله، أي نطيعكم في بعض الكفر و لا نطيعكم في جميع الشؤون لأن ذلك يفضح نفاقهم، أو المراد في بعض ما تأمروننا به من إطلاق المصدر و إرادة اسم المفعول كالخلق على المخلوق.
و أيّا ما كان فهم قالوا ذلك للمشركين سرّا فاطلع اللّه عليه نبيئه صلى اللّه عليه و سلّم و لذلك قال تعالى: وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ . و قرأ الجمهور إِسْرارَهُمْ بفتح الهمزة جمع سرّ. و قرأه حمزة و الكسائي و حفص عن عاصم و خلف بكسر الهمزة مصدر أسرّ.
[27]
[سورة محمد (47): آية 27]
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ (27)
الفاء يجوز أن تكون للتفريع على جملة إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ [محمد: 25] الآية و ما بينهما متصل بقوله: الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ [محمد: 25] بناء على المحمل الأول للارتداد فيكون التفريع لبيان ما سيلحقهم من العذاب عند الموت و هو استهلال لما يتواصل من عذابهم عن مبدإ الموت إلى استقرارهم في العذاب الخالد. و يجوز على المحمل الثاني و هو أن المراد الارتداد عن القتال و تكون الفاء فصيحة فيفيد: إذا كانوا فروا من القتال هلعا و خوفا فكيف إذا توفتهم الملائكة، أي كيف هلعهم و وجلهم الذي ارتدوا بهما عن القتال. و هذا يقتضي شيئين: أولهما أنهم ميّتون لا محالة، و ثانيهما أن موتتهم يصحبها تعذيب.
فالأول مأخوذ بدلالة الالتزام و هو في معنى قوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران:
168] و قوله: وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:
81].
و الثاني هو صريح الكلام و هو وعيد لتعذيب في الدنيا عند الموت.
و المقصود: و عيدهم بأنهم سيعجل لهم العذاب من أول منازل الآخرة و هو حالة الموت. و لما جعل هذا العذاب محققا وقوعه رتب عليه الاستفهام عن حالهم استفهاما مستعملا في معنى تعجيب المخاطب من حالهم عند الوفاة، و هذا التعجيب مؤذن بأنها حالة فظيعة غير معتادة إذ لا يتعجب إلّا من أمر غير معهود، و السياق يدل على الفظاعة.
و إِذا متعلق بمحذوف دل عليه اسم الاستفهام، تقديره: كيف حالهم أو عملهم حين تتوفاهم الملائكة.
التحرير و التنوير، ج26، ص: 100
و كثر حذف متعلّق كيف في أمثال هذا مقدّرا مؤخرا عن كيف و عن إِذا كقوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء: 41]. و التقدير: كيف يصنعون و يحتالون.
و جعل سيبويه كيف في مثله ظرفا و تبعه ابن الحاجب في الكافية. و لعله أراد الفرار من الحذف.
و جملة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ حال من الْمَلائِكَةُ . و المقصود من هذه الحال: وعيدهم بهذه الميتة الفظيعة التي قدرها اللّه لهم و جعل الملائكة تضرب وجوههم و أدبارهم، أي يضربون وجوههم التي وقوها من ضرب السيف حين فرّوا من الجهاد فإن الوجوه مما يقصد بالضرب بالسيوف عند القتال قال الحريش القريعي، أو العباس بن مدراس:
نعرّض للسيوف إذا التقينا
وجوها لا تعرض للنظام
و يضربون أدبارهم التي كانت محل الضرب لو قاتلوا، و هذا تعريض بأنهم لو قاتلوا لفرّوا فلا يقع الضرب إلا في أدبارهم.
[28]
[سورة محمد (47): آية 28]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28)
الإشارة بذلك إلى الموت الفظيع الذي دل عليه قوله: فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ [محمد: 27] كما تقدم آنفا. و اتباعهم ما أسخط اللّه: هو اتباعهم الشرك. و السخط مستعار لعدم الرضى بالفعل. و كراهتهم رضوان اللّه: كراهتهم أسباب رضوانه و هو الإسلام.