کتابخانه تفاسیر
التحرير و التنوير
الجزء الأول
2 - سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
الجزء الثالث
3 - سورة آل عمران
الجزء الرابع
4 - سورة النساء
الجزء الخامس
5 - سورة المائدة
الجزء السادس
6 - سورة الأنعام
الجزء السابع
تتمة سورة الانعام
الجزء الثامن
7 - سورة الأعراف
الجزء التاسع
8 - سورة الأنفال
الجزء العاشر
9 - سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
10 - سورة يونس
11 - سورة هود
الجزء الثاني عشر
12 - سورة يوسف
13 - سورة الرعد
14 - سورة إبراهيم
الجزء الثالث عشر
15 - سورة الحجر
16 - سورة النحل
الجزء الرابع عشر
17 - سورة الإسراء
الجزء الخامس عشر
18 - سورة الكهف
الجزء السادس عشر
19 - سورة مريم
20 - سورة طه
الجزء السابع عشر
21 - سورة الأنبياء
22 - سورة الحج
الجزء الثامن عشر
23 - سورة المؤمنين
24 - سورة النور
الجزء التاسع عشر
25 - سورة الفرقان
26 - سورة الشعراء
27 - سورة النمل
الجزء العشرون
28 - سورة القصص
29 - سورة العنكبوت
الجزء الحادي و العشرون
30 - سورة الروم
31 - سورة لقمان
32 - سورة السجدة
33 - سورة الأحزاب
الجزء الثاني و العشرون
34 - سورة سبأ
35 - سورة فاطر
36 - سورة يس
الجزء الثالث و العشرون
37 - سورة الصافات
38 - سورة ص
الجزء الرابع و العشرون
39 - سورة الزمر
40 - سورة المؤمن
الجزء الخامس و العشرون
41 - سورة فصلت
42 - سورة الشورى
43 - سورة الزخرف
44 - سورة الدخان
45 - سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
46 - سورة الأحقاف
47 - سورة محمد
48 - سورة الفتح
49 - سورة الحجرات
50 - سورة ق
الجزء السابع و العشرون
51 - سورة الذاريات
52 - سورة الطور
53 - سورة النجم
54 - سورة القمر
55 - سورة الرحمن
56 - سورة الواقعة
57 - سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
58 - سورة المجادلة
59 - سورة الحشر
60 - سورة الممتحنة
63 - سورة المنافقون
64 - سورة التغابن
66 - سورة التحريم
الجزء التاسع و العشرون
67 - سورة الملك
68 - سورة القلم
69 - سورة الحاقة
70 - سورة المعارج
71 - سورة نوح
72 - سورة الجن
73 - سورة المزمل
74 - سورة المدثر
75 - سورة القيامة
76 - سورة الإنسان
77 - سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
78 - سورة النبأ
79 - سورة النازعات
83 - سورة المطففين
85 - سورة البروج
88 - سورة الغاشية
التحرير و التنوير، ج28، ص: 30
و قوله: فَبِئْسَ الْمَصِيرُ تفريع على الوعيد بشأن ذم جهنم.
[9]
[سورة المجادلة (58): آية 9]
خطاب للمنافقين الذين يظهرون الإيمان فعاملهم اللّه بما أظهروه و ناداهم بوصف الذين آمنوا كما قال: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة: 41] و منه ما حكاه اللّه عن المشركين وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر: 6] أي يا أيها الذي نزل عليه الذكر بزعمه، و نبههم إلى تدارك حالهم بالإقلاع عن آثار النفاق على عادة القرآن من تعقيب التخويف بالترغيب. فالجملة استئناف ابتدائي.
ذلك أن المنافقين كانوا يعملون بعمل أهل الإيمان إذا لقوا الذين آمنوا فإذا رجعوا إلى قومهم غلب عليهم الكفر فكانوا في بعض أحوالهم مقاربين الإيمان بسبب مخالطتهم للمؤمنين. و لذلك ضرب اللّه لهم مثلا بالنور في قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة: 17] ثم قوله: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا [البقرة: 20]. و هذا هو المناسب لقوله تعالى: فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ، و يكون قوله: وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوى تنبيها على ما يجب عليهم إن كانوا متناجين لا محالة.
و يجوز أن تكون خطابا للمؤمنين الخلّص بأن وجه اللّه الخطاب إليهم تعليما لهم بما يحسن من التناجي و ما يقبح منه بمناسبة ذم تناجي المنافقين فلذلك ابتدئ بالنهي عن مثل تناجي المنافقين و إن كان لا يصدر مثله من المؤمنين تعريضا بالمنافقين، مثل قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: 156]، و يكون المقصود من الكلام هو قوله: وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوى تعليما للمؤمنين.
و التقييد ب إِذا تَناجَيْتُمْ يشير إلى أنه لا ينبغي التناجي مطلقا و لكنهم لما اعتادوا التناجي حذروا من غوائله، و إلا فإن التقييد مستغنى عنه بقوله: «لا تتناجوا بالإثم و العدوان». و هذا مثل ما وقع في حديث النهي عن الجلوس في الطرقات من
قوله صلى اللّه عليه و سلّم: «فإن كنتم فاعلين لا محالة فاحفظوا حق الطريق»
. و قرأ الجمهور فَلا تَتَناجَوْا بصيغة التفاعل. و قرأه رويس عن يعقوب وحده فلا
التحرير و التنوير، ج28، ص: 31
تنتجوا بوزن تنتهوا.
و الأمر من قوله: وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ مستعمل في الإباحة كما اقتضاه قوله تعالى: إِذا تَناجَيْتُمْ .
و الإثم و العدوان و معصية الرسول تقدمت. و أما البرّ فهو ضد الإثم و العدوان و هو يعم أفعال الخير المأمور بها في الدين.
و التَّقْوى : الامتثال، و تقدمت في قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ في سورة البقرة [2].
و في قوله: الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تذكير بيوم الجزاء. فالمعنى: الذي إليه تحشرون فيجازيكم.
[10]
[سورة المجادلة (58): آية 10]
تسلية للمؤمنين و تأنيس لنفوسهم يزال به ما يلحقهم من الحزن لمشاهدة نجوى المنافقين لاختلاف مذاهب نفوسهم إذا رأوا المتناجين في عديد الظنون و التخوفات كما تقدم. فالجملة استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة النهي عن النجوى، على أنها قد تكون تعليلا لتأكيد النهي عن النجوى.
و التعريف في النَّجْوى تعريف العهد لا محالة. أي نجوى المنافقين الذين يتناجون بالإثم و العدوان و معصية الرسول صلى اللّه عليه و سلّم.
و الحصر المستفاد من إِنَّمَا قصر موصوف على صفة و مِنَ ابتدائية، أي قصر النجوى على الكون من الشيطان، أي جائية لأن الأغراض التي يتناجون فيها من أكبر ما يوسوس الشيطان لأهل الضلالة بأن يفعلوه ليحزن الذين آمنوا بما يتطرقهم من خواطر الشر بالنجوى. و هذه العلة ليست قيدا في الحصر فإن للشيطان عللا أخرى مثل إلقاء المتناجين في الضلالة، و الاستعانة بهم على إلقاء الفتنة، و غير ذلك من الأغراض الشيطانية.
و قد خصت هذه العلة بالذكر لأن المقصود تسلية المؤمنين و تصبرهم على أذى المنافقين و لذلك عقب بقوله: وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً ليطمئن المؤمنون بحفظ اللّه إياهم من ضر الشيطان. و هذا نحو من قوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر:
42].
التحرير و التنوير، ج28، ص: 32
و قرأ نافع وحده لِيَحْزُنَ بضم الياء و كسر الزاي فيكون الَّذِينَ آمَنُوا مفعولا.
و قرأه الباقون بفتح الياء و ضم الزاي مضارع حزم فيكون الَّذِينَ آمَنُوا فاعلا و هما لغتان.
و جملة وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ إلخ معترضة.
و ضمير الرفع المستتر في قوله: بِضارِّهِمْ عائد إلى الشَّيْطانِ .
و المعنى: أن الشيطان لا يضرّ المؤمنين بالنجوى أكثر من أنه يحزنهم. فهذا كقوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمران: 111] أو عائد إلى النجوى بتأويله بالتناجي، أي ليس التناجي بضارّ المؤمنين لأن أكثره ناشىء عن إيهام حصول ما يتقونه في الغزوات.
و على كلا التقديرين فالاستثناء بقوله: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ استثناء من أحوال و الباء للسببية، أي إلا في حال أن يكون اللّه قدّر شيئا من المضرة من هزيمة أو قتل. و المراد بالإذن أمر التكوين.
و انتصب شَيْئاً على المفعول المطلق، أي شيئا من الضر.
و وقوع شَيْئاً و هو ذكره في سياق النفي يفيد عموم نفي كل ضرّ من الشيطان، أي انتفى كل شيء من ضر الشيطان عن المؤمنين، فيشمل ضر النجوى و ضر غيرها، و الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ من عموم شَيْئاً الواقع في سياق النفي، أي لا ضرا ملابسا لإذن اللّه في أن يسلط عليهم الشيطان ضره فيه، أي ضر وسوسته.
و استعير الإذن لما جعله اللّه في أصل الخلقة من تأثر النفوس بما يسوّل إليها. و هو معنى قوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الحجر:
42] فإذا خلى اللّه بين الوسوسة و بين العبد يكون اقتراب العبد من المعاصي الظاهرة و الباطنة في كل حالة يبتعد فيها المؤمن عن مراقبة الأمر و النهي الشرعيين. و هذا الضر هو المعبر عنه بالسلطان في قوله تعالى في شأن الشيطان إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ أي فلك عليه سلطان. و هذه التصاريف الإلهية جارية على وفق حكمة اللّه تعالى و ما يعلمه من أحوال عباده و سرائرهم و هو يعلم السر و أخفى.
و لهذا ذيل بقوله: وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لأنهم إذا توكلوا على اللّه توكلا حقا بأن استفرغوا و سعهم في التحرز من كيد الشيطان و استعانوا باللّه على تيسير ذلك لهم فإن اللّه يحفظهم من كيد الشيطان قال تعالى: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3].
التحرير و التنوير، ج28، ص: 33
و يجوز أن يكون عموم شَيْئاً مرادا به الخصوص، أي ليس بضارّهم شيئا مما يوهمه تناجي المنافقين من هزيمة أو قتل إلا بتقدير اللّه حصول هزيمة أو قتل.
و المعنى: أن التناجي يوهم الذين آمنوا ما ليس واقعا فأعلمهم اللّه أن لا يحزنوا بالنجوى لأن الأمور تجري على ما قدره اللّه في نفس الأمر حتى تأتيهم الأخبار الصادقة.
و تقديم الجار و المجرور في قوله تعالى: وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ للاهتمام بمدلول هذا المتعلق.
[11]
[سورة المجادلة (58): آية 11]
فصل بين آيات الأحكام المتعلقة بالنجوى بهذه الآية مراعاة لاتحاد الموضوع بين مضمون هذه الآية و مضمون التي بعدها في أنهما يجمعهما غرض التأدب مع الرسول صلى اللّه عليه و سلّم، و تلك المراعاة أولى من مراعاة اتحاد سياق الأحكام.
ففي هذه الآية أدب في مجلس الرسول صلى اللّه عليه و سلّم، و الآية التي بعدها تتعلق بالأدب في مناجاة الرسول صلى اللّه عليه و سلّم، و أخرت تلك عن آيات النجوى العامة إيذانا بفضلها دون النجوى التي تضمنتها الآيات السابقة، فاتحاد الجنس في النجوى هو مسوغ الانتقال من النوع الأول إلى النوع الثاني، و الإيماء إلى تميزها بالفضل هو الذي اقتضى الفصل بين النوعين بآية أدب المجلس النبوي.
و أيضا قد كان للمنافقين نية مكر في قضية المجلس كما كان لهم نية مكر في النجوى، و هذا مما أنشأ مناسبة الانتقال من الكلام على النجوى إلى ذكر التفسح في المجلس النبوي الشريف.
روي عن مقاتل أنه قال: كان النبيء صلى اللّه عليه و سلّم في الصفّة، و كان في المكان ضيق في يوم الجمعة فجاء ناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس قد سبقوا في المجلس فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يفسح لهم و كان النبيء صلى اللّه عليه و سلّم يكرم أهل بدر فقال لمن حوله: قم يا فلان بعدد الواقفين من أهل بدر فشقّ ذلك على الذين أقيموا، و غمز المنافقون و قالوا: ما أنصف هؤلاء، و قد أحبّوا القرب من نبيئهم فسبقوا إلى مجلسه فأنزل
التحرير و التنوير، ج28، ص: 34
اللّه هذه الآية
تطييبا لخاطر الذين أقيموا، و تعليما للأمة بواجب رعي فضيلة أصحاب الفضيلة منها، و واجب الاعتراف بمزية أهل المزايا، قال اللّه تعالى: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النساء: 32]، و قال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الحديد:
10].
و الخطاب ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب لجميع المؤمنين يعم من حضروا المجلس الذي وقعت فيه حادثة سبب النزول و غيرهم ممن عسى أن يحضر مجلس الرسول صلى اللّه عليه و سلّم.
و ابتدئت الآية بالأمر بالتفسح لأن إقامة الذين أقيموا إنما كانت لطلب التفسيح فإناطة الحكم إيماء إلى علة الحكم.
و التفسح: التوسع و هو تفعل من فسح له بفتح السين مخففة إذا أوجد له فسحة في مكان، و فسح المكان من باب كرم إذا صار فسيحا. و مادة التفعل هنا للتكلف، أي يكلف أن يجعل فسحة في المكان و ذلك بمضايقة مع الجلّاس.
و تعريف الْمَجالِسِ يجوز أن يكون تعريف العهد، و هو مجلس النبيء صلى اللّه عليه و سلّم، أي إذا قال النبيء صلى اللّه عليه و سلّم لكم ذلك لأن أمره لا يكون إلا لمراعاة حق راجح على غيره و المجلس مكان الجلوس. و كان مجلس النبيء صلى اللّه عليه و سلّم بمسجده و الأكثر أن يكون جلوسه المكان المسمّى بالروضة و هو ما بين منبر النبيء صلى اللّه عليه و سلّم و بيته.
و يجوز أن يكون تعريف الْمَجالِسِ تعريف الجنس. و قوله: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ مجزوم في جواب قوله: فَافْسَحُوا ، و هو وعد بالجزاء على الامتثال لأمر التفسح من جنس الفعل إذ جعلت توسعة اللّه على الممتثل جزاء على امتثاله الذي هو إفساحه لغيره فضمير لَكُمْ عائد على الَّذِينَ آمَنُوا باعتبار أن الذين يفسحون هم من جملة المؤمنين لأن الحكم مشاع بين جميع الأمة و إنما الجزاء للذين تعلق بهم الأمر تعلقا إلزاميا.
و حذف متعلق يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ليعم كل ما يتطلب الناس الإفساح فيه بحقيقته و مجازه في الدنيا و الآخرة من مكان و رزق أو جنة عرضها السماوات و الأرض على حسب النيات، و تقديره الجزاء موكول إلى إرادة اللّه تعالى.
و حذف فاعل القول لظهوره، أي إذا قال لكم الرسول: تفسحوا فافسحوا، فإن اللّه يثيبكم على ذلك.
التحرير و التنوير، ج28، ص: 35
فالآية لا تدلّ إلّا على الأمر بالتفسح إذا أمر به النبيء صلى اللّه عليه و سلّم، و لكن يستفاد منها أن تفسح المسلمين بعضهم لبعض في المجالس محمود مأمور به وجوبا أو ندبا لأنه من المكارمة و الإرفاق. فهو من مكملات واجب التحابّ بين المسلمين و إن كان فيه كلفة على صاحب البقعة يضايقه فيها غيره. فهي كلفة غير معتبرة إذا قوبلت بمصلحة التحابّ و فوائده، و ذلك ما لم يفض إلى شدة مضايقة و مضرة أو إلى تفويت مصلحة من سماع أو نحوه مثل مجالس العلم و الحديث و صفوف الصلاة. و ذلك قياس على مجلس النبيء صلى اللّه عليه و سلّم في أنه مجلس خير. و
روي عن النبيء صلى اللّه عليه و سلّم: «أحبكم إليّ ألينكم مناكب في الصلاة»
. قال مالك: ما أرى الحكم إلا يطرد في مجالس العلم و نحوها غابر الدهر. يريد أن هذا الحكم و إن نزل في مجلس النبيء صلى اللّه عليه و سلّم فهو شامل لمجالس المسلمين من مجالس الخير لأن هذا أدب و مؤاساة، فليس فيه قرينة الخصوصية بالمجالس النبوية، و أراد مالك ب «نحوها» كل مجلس فيه أمر مهمّ في شؤون الدين فمن حق المسلمين أن يحرصوا على إعانة بعضهم بعضا على حضوره. و هذا قياس على مجلس النبيء صلى اللّه عليه و سلّم، و علته هي التعاون على المصالح.
و أفهم لفظ التفسح أنه تجنب للمضايقة و المراصة بحيث يفوت المقصود من حضور ذلك المجلس أو يحصل ألم للجالسين.
و قد أرخص مالك في التخلف عن دعوة الوليمة إذا كثر الزحام فيها.
و قرأ الجمهور في المجلس و قرأه عاصم بصيغة الجمع فِي الْمَجالِسِ و على كلتا القراءتين يجوز كون اللام للعهد و كونها للجنس و أن يكون المقصود مجالس النبيء صلى اللّه عليه و سلّم كلما تكررت أو ما يشمل جميع مجالس المسلمين، و على كلتا القراءتين يصح أن يكون الأمر في قوله تعالى: فَافْسَحُوا للوجوب أو للندب.
و قوله: وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا الآية عطف على إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ .
و انْشُزُوا أمر من نشز إذا نهض من مكانه يقال: نشز ينشز من باب قعد و ضرب إذا ارتفع لأن النهوض ارتفاع من المكان الذي استقرّ فيه و منه نشوز المرأة من زوجها مجازا عن بعدها عن مضجعها. و النشوز: أخص من التفسيح من وجه فهو من عطف الأخص: من وجه على الأعم منه للاهتمام بالمعطوف لأن القيام من المجلس أقوى من التفسيح من قعود. فذكر النشوز لئلا يتوهم و أن التفسيح المأمور به تفسيح من قعود لا
التحرير و التنوير، ج28، ص: 36
سيما و قد كان سبب النزول بنشوز، و هو المقصود من نزول الآية على ذلك القول. و من المفسرين من فسر النشوز بمطلق القيام من مجلس الرسول صلى اللّه عليه و سلّم سواء كان لأجل التفسيح أو لغير ذلك مما يؤمر بالقيام لأجله. روي عن ابن عباس و قتادة و الحسن «إذا قيل انشزوا إلى الخير و إلى الصلاة فانشزوا».
و قال ابن زيد: إذا قيل انشزوا عن بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم فارتفعوا فإن للنبيء صلى اللّه عليه و سلّم حوائج، و كانوا إذا كانوا في بيته أحبّ كل واحد منهم أن يكون آخر عهده برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم و سبب النزول لا يخصص العام و لا يقيد المطلق.
و هذا الحكم إذا عسر التفسيح و اشتد الزحام و التراصّ فإن لأصحاب المقاعد الحقّ المستقر في أن يستمرّوا قاعدين لا يقام أحد لغيره و ذلك إذا كان المقوّم لأجله أولى بالمكان من الذي أقيم له بسبب من أسباب الأوّلية كما فعل النبيء صلى اللّه عليه و سلّم في إقامة نفر لإعطاء مقاعدهم للبدريين. و منه أولوية طلبة العلم بمجالس الدرس، و أولوية الناس في مقاعد المساجد بالسبق، و نحو ذلك، فإن لم يكن أحد أولى من غيره فقد نهى النبيء صلى اللّه عليه و سلّم عن أن يقيم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه.
و للرجل أن يرسل إلى المسجد ببساطه أو طنفسته أو سجادته لتبسط له في مكان من المسجد حتى يأتي فيجلس عليها فإن ذلك حوز لذلك المكان في ذلك الوقت. و كان ابن سيرين يرسل غلامه إلى المسجد يوم الجمعة فيجلس له فيه فإذا جاء ابن سيرين قام الغلام له منه.
و في «الموطأ» عن مالك بن أبي عامر قال: كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب يوم الجمعة تطرح إلى جدار المسجد الغربي فإذا غشي الطنفسة كلها ظلّ الجدار خرج عمر بن الخطاب فصلّى الجمعة. فالطنفسة و نحوها حوز المكان لصاحب البساط.
فيجوز لأحد أن يأمر أحدا يبكر إلى المسجد فيأخذ مكانا يقعد فيه حتى إذا جاء الذي أرسل ترك له البقعة لأن ذلك من قبيل النيابة في حوز الحق.
و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم و أبو جعفر انْشُزُوا فَانْشُزُوا بضم الشين فيهما.
و قرأه الباقون بكسر الشين. و هما لغتان في مضارع نشز.