کتابخانه تفاسیر
التفسير الحديث
الجزء الأول
مقدمة التحقيق
محتويات القرآن المجيد
الفصل الأول القرآن و أسلوبه و وحيه و أثره
الفصل الثاني جمع القرآن و تدوينه و قراءاته و رسم المصحف و تنظيماته
الفصل الثالث الخطة المثلى لفهم القرآن و تفسيره
الفصل الرابع نظريات و تعليقات على كتب المفسرين و مناهجهم
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
سورة العلق
[سورة العلق(96): الآيات 6 الى 19]
سورة القلم
[سورة القلم(68): الآيات 1 الى 4]
[سورة القلم(68): الآيات 5 الى 16]
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة الأعلى
[سورة الأعلى(87): الآيات 1 الى 13]
الجزء الثاني
سورة النجم
[سورة النجم(53): الآيات 13 الى 18]
سورة القيامة
سورة المرسلات
سورة ق
[سورة ق(50): الآيات 19 الى 30]
[سورة ق(50): الآيات 38 الى 45]
سورة ص
[سورة ص(38): الآيات 1 الى 11]
سورة الأعراف
[سورة الأعراف(7): الآيات 54 الى 58]
[سورة الأعراف(7): الآيات 138 الى 162]
[سورة الأعراف(7): الآيات 163 الى 171]
الجزء الثالث
سورة يس
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة مريم
سورة طه
سورة الواقعة
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
سورة الإسراء
[سورة الإسراء(17): الآيات 22 الى 39]
سورة يونس
سورة هود
الجزء الرابع
سورة يوسف
سورة الحجر
سورة الأنعام
[سورة الأنعام(6): الآيات 118 الى 121]
[سورة الأنعام(6): الآيات 143 الى 145]
[سورة الأنعام(6): الآيات 148 الى 150]
[سورة الأنعام(6): الآيات 158 الى 160]
سورة الصافات
سورة لقمان
سورة سبأ
سورة الزمر
سورة غافر
سورة فصلت
سورة الشورى
سورة الزخرف
[سورة الزخرف(43): الآيات 57 الى 59]
سورة الدخان
سورة الجاثية
الجزء الخامس
سورة الأحقاف
سورة الذاريات
سورة الكهف
سورة النحل
[سورة النحل(16): الآيات 98 الى 105]
سورة إبراهيم
سورة الأنبياء
سورة المؤمنون
سورة السجدة
سورة الطور
سورة الملك
سورة المعارج
سورة الروم
سورة العنكبوت
سورة الرعد
الجزء السادس
سورة الحج
سورة الرحمن
سورة البقرة
[سورة البقرة(2): الآيات 142 الى 152]
الجزء السابع
سورة الأنفال
سورة آل عمران
[سورة آلعمران(3): الآيات 33 الى 64]
سورة الحشر
سورة الأحزاب
الجزء الثامن
سورة النساء
[سورة النساء(4): الآيات 77 الى 80]
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الطلاق
سورة النور
سورة المجادلة
سورة الحجرات
سورة التحريم
سورة التغابن
سورة الصف
[سورة الصف(61): الآيات 10 الى 13]
سورة الفتح
[سورة الفتح(48): الآيات 18 الى 19]
الجزء التاسع
سورة المائدة
[سورة المائدة(5): الآيات 15 الى 16]
سورة الممتحنة
سورة الحديد
سورة التوبة
[سورة التوبة(9): الآيات 29 الى 35]
[سورة التوبة(9): الآيات 38 الى 41]
الجزء العاشر
التفسير الحديث، ج1، ص: 292
هذا بيني و بين عبدي. و لعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصّراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضّالين، قال: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل» «1» .
تعليق على موضوع الأحاديث القدسية
و هذا الحديث الأخير مما يسمى في اصطلاح علماء الحديث بالحديث القدسي، لأن الكلام فيه مروي عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن اللّه عز و جل، و بهذه المناسبة نقول إن هناك أحاديث كثيرة مروية عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن جبريل عن اللّه عز و جل، أو عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن اللّه عز و جل. و منها ما ورد في الكتب الخمسة. و من واجب المؤمن أن يؤمن و يصدق بكل ما ثبت صدوره عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم. و لما كان القرآن يبلّغ عن اللّه تعالى بواسطة الوحي الرباني أو جبريل عليه السلام فقد تكون مسألة الأحاديث القدسية موضع سؤال عن الفرق بين الوحي بالحديث القدسي و الوحي بالقرآن، و حكمة ذلك.
و لما كان هناك كما قلنا أحاديث قدسية صحيحة فالذي يمكن أن يقال في صددها أنها هي الأخرى من سرّ النبوة مثل سرّ الوحي القرآني الذي لا يدرك بالعقول العادية و يجب الإيمان به لأنه ثابت بنص القرآن و الحديث النبوي مع فارقين أو لهما أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان يفرق بين الحديث القدسي و بين الوحي القرآني، فيأمر بتدوين الوحي القرآن حال نزوله و يبلّغه كقرآن، و يخبر بالحديث القدسي إخبارا مرويا عن اللّه و لا يأمر بتدوينه بل كان يدخل في متناول النهي النبوي كتابة غير القرآن حيث روى مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «لا تكتبوا عني غير القرآن و من كتب شيئا فليمحه». و من الحكمة الملموحة في هذا الحديث الحرص على عدم اختلاط أي كلام غير قرآني بالقرآن. و هو أمر ذو دلالة خطيرة في صدد عمق اليقين النبوي بالوحي القرآني و تمييزه عن أي معنى آخر
(1) التاج ج 4، ص 32- 33.
التفسير الحديث، ج1، ص: 293
يحبك في صدر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم و يحدث به أصحابه، أو أي معنى آخر يوحي اللّه به إليه أو يلهمه إياه و يحدث به أصحابه دون أن يتصف بأنه قرآن.
و هذا يشمل كما هو المتبادر الأحاديث القدسية التي يحدث بها النبي صلى اللّه عليه و سلّم عن اللّه تعالى و الأحاديث العادية التي كان يقولها لأصحابه في مناسبة ما. و يبدو ذلك السرّ و هذه الدلالة الخطيرة أقوى صورة إذا لوحظ أن السنن النبوية القولية و الفعلية واجبة الاتباع مثل القرآن و هي مصدر التشريع الإسلامي مثله و كل ما في الأمر أنها تأتي بعده «1» . و لقد جاء في سورة النساء هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)، و القرآن يمثل اللّه تعالى و الحديث يمثل رسوله بعد موته. و في ذلك السر و هذه الدلالة ردّ مفحم على الأغيار الذين ينسبون القرآن إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
أما الفارق الثاني فهو أن أسلوب الأحاديث القدسية مماثل لأسلوب الأحاديث النبوية العادية أي أسلوب مخاطبة عادية دون أسلوب القرآن من حيث التقطيع و التوازن و التركيز في أواخر المقاطع أو الآيات كما هو ملموح في الحديث الذي أوردناه عن أبي ذر و في غيره مما سوف نورده في مناسبات أخرى و اللّه تعالى أعلم «2» .
تعليق على كلمة (اللّه) جلّ جلاله
و بمناسبة ورود اسم الجلالة (اللّه) لأول مرة في البسملة و السورة نقول إن من المفسرين «3» من قال إن الكلمة مضعفة أو معدلة من لفظ (إله) و إنها من جذر (أله)
(1) انظر كتاب «السنة» للسباعي ص 72.
(2) انظر «قواعد التحديث» للقاسمي ص 39- 45 ففيها بحث واف عن الأحاديث القدسية و مداها.
(3) انظر تفسير الفاتحة في تفسير الطبري و الزمخشري و الطبرسي و الخازن و غيرهم.
التفسير الحديث، ج1، ص: 294
بمعنى عبد أو (وله) بمعنى حار من شدة الوجد أو (لاه) بمعنى سكن إلى الشيء.
و مما قاله بعضهم إن كلمة (اللاة) المعبود الجاهلي المشهور المذكور في سورة النجم هي مؤنث (اللّه). و يقتضي القول الأخير أن تكون كلمة (اللاة) عربية فصحى أصلا مع أن هذه الكلمة قرئت بصيغ متنوعة متقاربة مثل (اللاتو) و (اللت) و (هاللت) على آثار قديمة بابلية و نبطية و ثمودية و تدمرية و لحيانية «1» قبل البعثة بأمد طويل قد يصل إلى ألفي عام و لا يقل عن أربعمائة عام أي قبل أن تصبح اللغة العربية فصحى مثل لغة القرآن و عصر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
و لما كانت لغة البابليين و الثموديين و اللحيانيين و الأنباط و التدمريين و اللغة العربية الفصحى من أصل قديم واحد فلا يبعد أن يكون أصل الكلمة يعني الربّ المعبود و أن تكون من جذر من الجذور السابقة الذكر. و أن تكون كلمة (اللّه) الفصحى هي تطور من ذلك. و في اللغات العربية القديمة وردت كلمة (ايل) بمعنى اللّه أو الإله أو المعبود. و كانت تطلق على المعبود الأعظم أحيانا و على بعض المعبودات أحيانا في بلاد اليمن و العراق و الشام قبل البعثة النبوية بمئات السنين.
و كانوا يضمون إليها كلمات متنوعة و يسمون أنفسهم بها تسجيلا لعبوديتهم للمعبود الذي كانت ترمز إليه. و من ذلك يسمع ايل (إسماعيل) و يصدق ايل وحي ايل و باب ايل و إسرائيل. و قد يكون من هذا الباب جبرائيل و ميكائيل و عزرائيل و إسرافيل إلخ ...
فليس من المستبعد أن تكون كلمة (اللّه) في الفصحى و كلمة (اللاة) تطورا عن تلك الكلمات و أن يكون أحد الجذور المذكورة مشتركة بين هذه اللغات و أن تكون الكلمة من أحدها.
و في اللغة العبرانية التي هي شقيقة من شقائق اللغة العربية كلمة (الوهيم) بمعنى الآلهة حيث يبدو من ذلك صورة من صور تطور الكلمة من أحد تلك الجذور.
(1) انظر «تاريخ العرب قبل الإسلام» جواد علي ج 5، ص 72 و ما بعدها.
التفسير الحديث، ج1، ص: 295
و على كل حال فإن كلمة (اللّه) قد غدت في اللغة العربية الفصحى قبل الإسلام علما على القوة العظمى العاقلة الخالقة المدبرة الرازقة المحيية المميتة، أو اسما رئيسيا و أصيلا لها. و قد كان العرب يستعملونها في هذه الدلالة على اعتبار أنه لا بدّ لهذا الكون العظيم البديع من صانع عاقل حكيم مدبر و الدينونة له بالعبودية و العبادة. و كانوا يعبدونه و يحلفون بكلمتي (اللّه) و (اللهم) و يسمون أنفسهم (عبد اللّه) للدلالة على ذلك. و إن كانوا يشركون معه شركاء للتقرب إليه و الاستشفاع بهم عنده مما حكته آيات قرآنية كثيرة كثرة تغني عن التمثيل.
و لقد استعمل القرآن هذا اللفظ علما أو اسما رئيسيا على تلك القوة أيضا.
و ورد فيه لحدته أحيانا و مع صفات اللّه و أسمائه الحسنى أحيانا. و مع تقرير وجوب وجود القوة العظمى التي يرمز إليها و وجوب الاعتقاد بها و شمول ربوبيتها و وجوب الدينونة لها بالعبادة و الخضوع، و الإخلاص لها وحدها، و وجوب تنزيهها عن أية شائبة و مماثلة و شراكة بأي اعتبار كان، و وصفها بجميع صفات الكمال مما احتوت تقريره و التدليل عليه آيات كثيرة كثرة تغني عن التمثيل كذلك. و مما غدا الطابع المميز للعقيدة الإسلامية. و قد جرى المسلمون على إطلاق لفظ (الجلالة) على اللّه تقويا و تعظيما.
تعليق على مدى جملة رَبِّ الْعالَمِينَ
في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم و التي كتبت بأقلام بشرية بعد موسى عليه السلام تكرر وصف اللّه تعالى برب إسرائيل و إله إسرائيل، و تكررت حكاية أقوال بني إسرائيل بأن الرب رب إسرائيل و الإله إله إسرائيل على معنى الاختصاص و الحصر حتى صار ذلك عندهم عقدة و عقيدة. و بلغ الأمر بهم أنهم رفضوا أن يشترك أهل منطقة السامرة في فلسطين الذين كانوا يدينون بالدين الموسوي في تجديد معبد أورشليم حين سمح لهم كورش ملك الفرس بالعودة من بابل إلى أورشليم و تجديد المعبد. فقد حكى سفر نحميا أحد أسفار الكهنة القديم أن أهل
التفسير الحديث، ج1، ص: 296
السامرة جاؤوا إليهم و قالوا لهم نبني معكم معبد الرب الذي نعبده مثلكم فرفضوا و قالوا لهم إننا نبني معبد إله إسرائيل. و هذا من دون ريب تحريف و تشويه للحق و الحقيقة بكون اللّه عز و جل رب جميع الأكوان و المخلوقات.
و من هذا الاعتبار فإن تقرير هذا المعنى للّه عز و جل في أولى سور القرآن يصح أن يعتبر تصحيحا ربانيا لذلك النشوز و التحريف، و وضعا للأمر في نصاب الحق المحكم ليكون عقيدة الدين الإسلامي الذي شاء اللّه سبحانه أن يكون دين الناس جميعهم على اختلاف أجناسهم و ألوانهم و بلادهم و لغاتهم. و وعد أن يظهره على الدين كله كما جاء في هذه الآية من سورة الفتح: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) «1» .
تعليق على الحياة الأخروية
و يَوْمِ الدِّينِ في الآية الثالثة يعني يوم القضاء بين الناس و يوم جزائهم على أعمالهم. و المقصود منه هو الحياة الأخروية التي يبعث الناس فيها و يقفون في يومها الأول أمام ربهم عز و جل ليحاسبوا على ما فعلوه في الدنيا و يجزوا عليه.
و هذه أولى إشارة إلى هذه الحياة، تأتي في أولى سور القرآن التي يجب تلاوتها في كل ركعة من ركعات كل صلاة مما يسبغ عليها مغزى هام و خطير. ثم توالت الإشارات إليها بأساليب متنوعة حتى شغلت حيزا عظيما في القرآن و حتى يمكن أن يقال إنها ذكرت في معظم سوره بإسهاب حينا و اقتضاب حينا آخر. و صار الإيمان بها بمقتضى النصوص القرآنية ركنا من أركان الإسلام كما ترى في آية سورة البقرة هذه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
(1) تكرر هذا مرتين بتوكيد أقوى في سورتي الصف و التوبة بصيغة مماثلة تقريبا في الآيات 32- 33 من سورة التوبة و 8- 9 من سورة الصف. و هذا نصّ آيات سورة التوبة: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33).
التفسير الحديث، ج1، ص: 297
وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ ... [177]، و هذه الآية في سورة النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً (136)، و حتى صارت تشغل حيزا كبيرا في القرآن و خاصة في المكي منه بحيث يمكن أن يقال إنها كانت من أقوى وسائل الدعوة و تنبيه الناس و حثّهم على الإيمان باللّه وحده و العمل الصالح و تحذيرهم من الآثام و المنكرات و الفواحش.
و لقد احتوت الآيات القرآنية فيما احتوته بيانا للأهداف و المقاصد يمكن تلخيصها بأن اللّه تعالى لا يمكن أن يكون خلق الكون عبثا و أن حياة الإنسان الذي شاء أن يكون أكمل مخلوقاته الأرضية عقلا لا يمكن أن تكون قاصرة على الزمن القصير الذي يحياه في الدنيا. و أنه لا بد من أن يكون لها تتمة أكمل و أفضل و أدوم يسود فيها أهل الإيمان و الحق و العدل و الخير و ينخذل فيها أهل الجحود و الباطل و الظلم و الشر. و أنه لا يتسق مع عدل اللّه أن يفلت الشرير مما يرتكبه من الآثام التي كثيرا ما ينجو من عواقبها في الدنيا و من عقاب جحوده لخالقه و ما أسبغه عليه من نعم. و أن يذهب عمل المؤمن الصالح و ما قد يناله في سبيل الحق و الخير من أذى و حرمان كثيرا ما لا ينال عليه مكافأة في الدنيا هدرا و هباء. و أن يكون الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالجاحدين للّه المفسدين في الأرض و المتقون كالفجار. و أن حكمة اللّه اقتضت من أجل ذلك تلك التتمة المسماة بالحياة الأخرى. يرجع فيها الناس إلى ربهم و يكافأ فيها المؤمن المحسن، و يعاقب فيها الجاحد المسيء.
و المؤمن باللّه الذي ينعم النظر في مشاهد الكون و نواميسه و يلمس فيها ما يذهب بلبّه و يملك عليه مشاعره من العظمة و الإتقان و النظام واجد كل الطمأنينة و الحق في هذه المقاصد و الأهداف. و واجد أن الحياة الأخروية ليست مما يخرج عن نطاق قدرة اللّه مبدع هذا الكون و مدبره و حكمته السامية. و من المتبادر بالإضافة إلى ما تقدم أن فكرة الحياة الأخروية و ثوابها و عقابها تنطوي على الحافز
التفسير الحديث، ج1، ص: 298
على الخير و الوازع عن الإثم. فالذين لا يخافون الآخرة و حسابها و لا يعتقدون بها قلّما يأبهون للحق و الخير في شتى مجالاتهما. و يندفعون فيهما اندفاعا ذاتيا وجدانيا دون انتظار مقابلة أو جزاء في الدنيا، و قلما يتورعون عن الإثم و المنكرات و الفواحش إذا ما تيقنوا من النجاة من العقوبة و أمنوا منها في الدنيا. و في هذا ما فيه من مقاصد صلاح الإنسانية و خيرها على مختلف المستويات.
و في القرآن آيات عديدة تتضمن ذلك صراحة و ضمنا، مثل آية سورة النحل هذه: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) [22]، و آيات سورة المؤمنون هذه: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ (61) و آية سورة المؤمنون هذه: وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74).
و هذا يعني فيما يعنيه أن الإيمان بالآخرة يجعل صاحبه يتحمل المكاره و يصبر على الشدائد و يقوم على التضحية بماله و نفسه في سبيل اللّه و الحق دون أن يهتم كثيرا لما قد يصيبه أو يناله من جزاء دنيوي أو حرمان أو أذى أو نكران لأنه يعتقد أنه سوف يستوفي جزاءه على أوفى ما يكون في ذلك اليوم أكثر بكثير من غير المؤمن بها و على أي مستوى.
و نحن نعرف أن من الذين لا يؤمنون بالآخرة من يقول أنه ليس لفكرتها التأثير الخلقي العميق، لأنها سبب خارجي أو نظري ليس من كيان النفس و أعماق الضمير. و إن أقل صدمة لهذا السبب تجعل ما أوجده من الحافز و الوازع عدما.