کتابخانه تفاسیر
التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج
الجزء الأول
بعض المعارف الضرورية المتعلقة بالقرآن
سورة البقرة
أدب الخطاب مع النبي صلى الله عليه و سلم و مصدر الاختصاص بالرسالة[سورة البقرة(2): الآيات 104 الى 105]
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
مشروعية القصاص و حكمته[سورة البقرة(2): الآيات 178 الى 179]
مسائل فقهية:
الوصية الواجبة[سورة البقرة(2): الآيات 180 الى 182]
مسائل فقهية:
قواعد القتال في سبيل الله[سورة البقرة(2): الآيات 190 الى 195]
أحكام الحج و العمرة[سورة البقرة(2): الآيات 196 الى 197]
المرحلة الثانية من مراحل تحريم الخمر و حرمة القمار[سورة البقرة(2): آية 219]
موت الأمم بالجبن و البخل و حياتها بالشجاعة و الإنفاق[سورة البقرة(2): الآيات 243 الى 245]
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
مستحقو الصدقات[سورة البقرة(2): الآيات 272 الى 274]
الربا و أضراره على الفرد و الجماعة[سورة البقرة(2): الآيات 275 الى 281]
سورة آل عمران
الجزء الرابع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء الخامس
تتمة سورة النساء
استحقاق الجنة ليس بالأماني و العبرة في الجزاء بالعمل شرا أو خيرا[سورة النساء(4): الآيات 123 الى 126]
رعاية اليتامى و الصلح بين الزوجين بسبب النشوز و العدل بين النساء[سورة النساء(4): الآيات 127 الى 130]
الجزء السادس
تتمة سورة النساء
سورة المائدة
الجزء السابع
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
رفض المشركين دعوة النبي صلى الله عليه و سلم و مطالبتهم بتنزيل آية[سورة الأنعام(6): الآيات 36 الى 37]
الجزء الثامن
تتمة سورة الانعام
المحرمات العشر أو الوصايا العشر[سورة الأنعام(6): الآيات 151 الى 153]
سورة الأعراف
الجزء التاسع
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء العاشر
تتمة سورة الأنفال
سورة التوبة
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة التوبة
سورة يونس عليه السلام
قصة موسى عليه السلام مع فرعون
الجزء الثاني عشر
سورة هود عليه السلام
سورة يوسف عليه السلام
الفصل الثاني من قصة يوسف يوسف و إخوته
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة يوسف
سورة الرعد
أوصاف أولي الألباب السعداء و جزاؤهم[سورة الرعد(13): الآيات 20 الى 24]
سورة إبراهيم عليه السلام
تهديد الكفار لرسلهم بالطرد أو الردة و الوحي بأن العاقبة للأنبياء[سورة إبراهيم(14): الآيات 13 الى 18]
الجزء الرابع عشر
سورة الحجر
سورة النحل
الجزء الخامس عشر
سورة الإسراء
سورة الكهف
قصة أصحاب الكهف[سورة الكهف(18): الآيات 9 الى 26]
التفسير و البيان:
تفصيل القصة:
الجزء السادس عشر
تتمة سورة الكهف
سورة مريم
قصة مريم
الرد على عباد الأصنام بصيرورتهم لهم أعداء و اتخاذهم الشياطين أولياء[سورة مريم(19): الآيات 81 الى 87]
سورة طه
قصة موسى عليه السلام
الجزء السابع عشر
سورة الأنبياء
القصة الثانية - قصة إبراهيم عليه السلام
سورة الحج
الجزء الثامن عشر
سورة المؤمنون
سورة النور
الحكم الأول و الثاني حد الزنى و حكم الزناة[سورة النور(24): الآيات 2 الى 3]
الحكم الرابع حكم اللعان أو قذف الرجل زوجته[سورة النور(24): الآيات 6 الى 10]
فقه الحياة أو الأحكام:
الجزء التاسع عشر
سورة الفرقان
استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه و سلم و تسمية دعوته إضلالا[سورة الفرقان(25): الآيات 41 الى 44]
سورة الشعراء
القصة الأولى قصة موسى و هارون عليهما السلام مع فرعون و قومه
القصة الثانية قصة إبراهيم عليه السلام
سورة النمل
القصة الثانية قصة داود و سليمان عليهما السلام
الجزء العشرون
تتمة سورة النمل
سورة القصص
قصة موسى عليه السلام
سورة العنكبوت
قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه
الجزء الحادي و العشرون
تتمة سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان
سورة السجدة
سورة الأحزاب
غزوة الأحزاب أو الخندق و بني قريظة[سورة الأحزاب(33): الآيات 9 الى 27]
الجزء الثاني و العشرون
تتمة سورة الأحزاب
سورة سبأ
سورة فاطر
بعض أدلة القدرة الإلهية و التذكير بنعم الله و إثبات التوحيد و الرسالة[سورة فاطر(35): الآيات 1 الى 4]
الجزء الثالث و العشرون
تتمة سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة الصافات
سورة غافر أو: المؤمن
قصة موسى عليه السلام مع فرعون و هامان
سورة فصلت أو: السجدة
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة فصلت
سورة الشورى
سورة الزخرف
سورة الدخان
سورة الجاثية
الجزء السادس و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد عليه الصلاة و السلام
أوصاف المنافقين و المؤمنين
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
الجزء السابع و العشرون
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
سورة القمر
إعادة قصص الأمم الخالية المكذبة للرسل
سورة الرحمن جل ذكره
أعظم النعم الإلهية الدنيوية و الأخروية
سورة الواقعة
سورة الحديد
الجزء الثامن و العشرون
سورة المجادلة
سورة الحشر
سورة الممتحنة
سورة الصف
سورة الجمعة
سورة المنافقون
سورة التغابن
سورة الطلاق
الجزء التاسع و العشرون
سورة الملك، أو: تبارك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان، أو: الدهر
سورة المرسلات
الجزء الثلاثون
سورة النبأ، أو: عم
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانفطار
سورة المطففين
سورة الانشقاق
سورة البروج
سورة الطارق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
سورة الليل
سورة العلق
سورة البينة
التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج، ج27، ص: 115
جعلوا كل واحدة بنتا. كما جاء في آية أخرى: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً، أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ، سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ، وَ يُسْئَلُونَ [الزخرف 43/ 19].
وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي و ليس لهم بذلك علم صحيح بصدق ما قالوه، و لا معرفة و لا برهان، فإنهم لم يعرفوهم و لا شاهدوهم، و لا أخبرهم به مخبر مقبول الخبر، بل قالوا ذلك جهلا و ضلالة و جرأة، و كذبا و زورا و افتراء و كفرا شنيعا.
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي ما يتبعون في زعمهم إلا التوهم أو الظن الذي لا أساس له من الصحة، و إن مثل هذا الظن لا يجدي شيئا، و لا يقوم أبدا مقام الحق.
جاء في الحديث الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «إياكم و الظن، فإن الظن أكذب الحديث».
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا أي فأعرض أيها الرسول عمن أعرض عن القرآن أو تذكير اللّه، و لم يكن همّه إلا الدنيا، و ترك النظر إلى الآخرة، أي فاترك مجادلتهم و الاهتمام بشأنهم، فقد بلّغت ما أمرت به، و ليس عليك إلا البلاغ. و قوله تعالى: وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا يشير إلى إنكارهم الحشر، كما قالوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام 6/ 29] و قال تعالى: أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا [التوبة 9/ 38].
ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي إن أمر الدنيا و طلبها هو منتهى ما وصلوا إليه من العلم، فلا يلتفتون إلى ما سواه من أمر الدين.
روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «الدنيا دار من لا دار له، و مال من لا مال له، و لها يجمع من لا عقل له»
و
في الدعاء المأثور: «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا و لا مبلغ علمنا».
التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج، ج27، ص: 116
و العلة أو سبب الأمر بالإعراض عنهم ما قال تعالى:
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى أي أعرض عن هؤلاء، لأن اللّه هو الخالق لجميع المخلوقات، و هو عالم بمن ضل عن سبيله، سبيل الحق و الهدى، و عالم بمن اهتدى إلى الدين الحق، و سيجازي كل فريق أو أحد على عمله.
و فيه تسلية للنبي صلى اللّه عليه و سلم كيلا يتعب نفسه في تحصيل ما ليس يرجى حصوله، و هو إيمان أهل العناد الذين قنعوا بالظن بدل العلم، و لازموا الباطل دون الحق، إذ كان من خلقه صلى اللّه عليه و سلم الحرص على إيمانهم. و في ذلك أيضا و عيد للكفار، و وعد للمؤمنين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أوضحت الآيات ما يأتي:
1- وصف اللّه الكفار الذين قالوا: الملائكة بنات اللّه، و الأصنام بنات اللّه بأنهم كافرون بالبعث و الحشر أو بالآخرة على الوجه الحق الذي جاءت به الرسل.
2- و بخ اللّه المشركين الذين يعتقدون أن الملائكة إناث و أنهم بنات اللّه سبحانه و تعالى.
3- ليس لهم بما وصفوا به الملائكة هذا الوصف علم صحيح، فإنهم لم يشاهدوا خلق اللّه الملائكة، و لم يسمعوا ما قالوه من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و لم يروه في كتاب، و إنما يتبعون التوهم في أن الملائكة إناث، و إن التوهم أو الظن الذي لا يقوم على أساس علمي صحيح لا يفيد شيئا في مجال التعرف على الحقيقة.
4- إذا كان هذا شأن هؤلاء الكفار المعاندين الذين لا همّ لهم إلا الدنيا فاترك أيها الرسول مجادلتهم، فقد بلغت الرسالة، و أتيت بما كان عليك. قال
التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج، ج27، ص: 117
الرازي- و ما أصوب ما قال-: و أكثر المفسرين يقولون بأن كل ما في القرآن من قوله تعالى: فَأَعْرِضْ منسوخ بآية القتال، و هو باطل، فإن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال، فكيف ينسخ به؟ و ذلك لأن النبي صلى اللّه عليه و سلم كان مأمورا بالدعاء بالحكمة و الموعظة الحسنة، فلما عارضوه بأباطيلهم قيل له:
وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ثم لما لم ينفع قال له ربه: فأعرض عنهم، و لا تقابلهم بالدليل و البرهان، فإنهم لا يتبعون إلا الظن، و لا يتبعون الحق، و قابلهم بالإعراض عن المناظرة بشرط جواز المقابلة، فكيف يكون منسوخا «1» ؟! 5- شأن الكفار غالبا الاهتمام بالدنيا فقط، و جهل أمر الدين و الآخرة، فهم قوم ماديون، كما نشاهد اليوم، لذا أخبر اللّه تعالى عنهم بأن طلب الدنيا هو قدر عقولهم، و نهاية علمهم، لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة: إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الدهر 76/ 27].
6- ختمت الآيات بالوعيد و التهديد، فاللّه تعالى أعلم بالضالين، و أعلم بالمهتدين، فلا داعي للمعاناة، و سيجازي كلّا بأعمالهم خيرها و شرها.
جزاء المسيئين و المحسنين و أوصاف المحسنين [سورة النجم (53): الآيات 31 الى 32]
(1) تفسير الرازي: 28/ 311
التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج، ج27، ص: 118
الإعراب:
وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ .. لِيَجْزِيَ .. لام لِيَجْزِيَ إما لام (كي) و التقدير: و استقر للّه ما في السموات و ما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، أو تكون لام القسم.
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ الَّذِينَ : في موضع نصب على البدل من الَّذِينَ في قوله تعالى: وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى .
إِلَّا اللَّمَمَ اللَّمَمَ : استثناء منقطع: و هو صغائر الذنوب.
البلاغة:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى بينهما ما يسمى بالمقابلة، و تكرار لفظ لِيَجْزِيَ من قبيل الإطناب.
المفردات اللغوية:
وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أي هو الخالق و المالك و المتصرف. بِما عَمِلُوا بعقاب ما عملوا من السوء كالشرك و غيره. وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الذين أحسنوا بالتوحيد و الطاعة يجزيهم بالمثوبة الحسنى و هي الجنة.
كَبائِرَ الْإِثْمِ ما يكبر عقابه من الذنوب، و هو كل ذنب توعد اللّه عليه صاحبه بالعذاب الشديد كالشرك و عقوق الوالدين. وَ الْفَواحِشَ ما فحش من الكبائر خصوصا، و هو الذنب الذي عاقب اللّه عليه بالحد كالقتل العمد و الزنى و القذف و شرب الخمر و سائر المسكرات. إِلَّا اللَّمَمَ استثناء منقطع، أي لكن اللمم إذا اجتنب الكبائر تغفر، مثل النظرة إلى المحرّمات و القبلة و اللمسة. إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ كثير الغفران للذنوب، قابل التوبة منها، فله أن يغفر ما يشاء من الذنوب صغيرها و كبيرها، قال البيضاوي: و لعله عقب به وعيد المسيئين و وعد المحسنين، لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته، و لا يتوهم وجوب العقاب على اللّه تعالى. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ عالم بأحوالكم. إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ خلق أباكم آدم من التراب. وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي حينما صوّركم في الأرحام، و الأجنّة: جمع جنين: و هو الولد ما دام في بطن أمه، سمي بذلك لاجتنانه أي استتاره.
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ لا تثنوا عليها بزكاء العمل و زيادة الخير، و لا تمدحوها على سبيل الإعجاب، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن. هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى أي عالم يعلم التقي و غيره قبل الخلق.
التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج، ج27، ص: 119
سبب نزول الآية (32):
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ .. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ .. :
أخرج الواحدي و الطبراني و ابن المنذر و ابن أبي حاتم: عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال: كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير: هو صدّيق، فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه و سلم، فقال:
«كذبت اليهود، ما من نسمة يخلقه اللّه في بطن أمه إلا و يعلم أنه شقي أو سعيد»، فأنزل اللّه عند ذلك هذه الآية: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ .
المناسبة:
بعد أن أبان اللّه تعالى أنه العليم بما في السموات و الأرض، و أنه يجازي عباده بعدله، فيثيب المحسن بالجنة، و يعاقب المسيء بالنار، ذكر أنه قادر على ذلك، فهو مالك العالم العلوي و السفلي يتصرف فيهما بما شاء، و هو يجازي على وفق علمه المحيط بكل شيء، ثم ذكر أوصاف المحسنين، و أخبر أنه جواد كريم واسع المغفرة لمن يشاء من عباده.
التفسير و البيان:
وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ، لِيَجْزِيَ «1» الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى أي إن اللّه تعالى مالك السموات و الأرض، و أنه الغني عما سواه، الحاكم في خلقه بالعدل، و قد خلق الخلق بالحق، و جعل عاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن و المسيء أن يجزي كلّا بعمله، بحسب علمه المحيط بكل شيء، المحسن بإحسانه، و المسيء بإساءته، فإن كان العمل خيرا، كان الجزاء خيرا، و إن كان شرا كان الجزاء شرا. فتكون لام لِيَجْزِيَ لام العاقبة.
(1) قال الواحدي: اللام للعاقبة أو الصيرورة، كما في قوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً [القصص 28/ 8] أي أخذوه و عاقبته أنه يكون لهم عدوا.
التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج، ج27، ص: 120
قال ابن الجوزي في تفسيره: و الآية إخبار عن قدرته و سعة ملكه، و هو كلام معترض بين الآية الأولى، و بين قوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا لأنه إذا كان أعلم بالمسيء و بالمحسن، جازى كلّا بما يستحقه، و إنما يقدر على مجازاة الفريقين إذا كان واسع الملك.
ثم ذكر اللّه تعالى صفات المتقين المحسنين، فقال:
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ أي إن المحسنين هم الذين يبتعدون عن كبائر الذنوب كالشرك و القتل و أكل مال اليتيم، و عن الفواحش كالزنى، و الكبائر: كل ذنب توعد اللّه عليه بالنار، و الفواحش:
ما تناهي أو تزايد قبحه عقلا و شرعا من الكبائر، مما كان فيه الحد. و لكن لا يقع منهم إلا اللمم أي صغائر الذنوب و محقرات الأعمال كالنظرة الحرام و القبلة.
أخرج أحمد و الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: «إن اللّه تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر، و زنى اللسان النطق، و النفس تمنّى و تشتهي، و الفرج يصدق ذلك أو يكذبه».
فإن اقترفوا اللمم تابوا و لم يعودوا إلى مثله.
و نحو الآية قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً [النساء 4/ 31].
و
قد ورد في الصحيحين عن علي رضي اللّه عنه تحديد الكبائر بسبع: «اجتنبوا السبع الموبقات: الإشراك باللّه تعالى، و السحر، و قتل النفس التي حرّم اللّه إلا بالحق، و أكل مال اليتيم، و أكل الربا، و التولي يوم الزحف، و قذف المحصنات الغافلات المؤمنات»
و قد أوصلها الحافظ الذهبي في كتابه (الكبائر) إلى سبعين. و روى الطبراني عن ابن عباس أن رجلا قال له: الكبائر سبع،
التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج، ج27، ص: 121
فقال: هي إلى سبع مائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، و لا صغيرة مع الإصرار.
ثم فتح اللّه تعالى باب الأمل و منع اليأس بقوله:
إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ أي إن رحمة اللّه وسعت كل شيء، و مغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها، كما قال تعالى: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر 39/ 53].
ثم أكد اللّه تعالى علمه بالأشياء كلها، فقال:
هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي إن اللّه بصير بكم، عليم بأحوالكم و أفعالكم و أقوالكم التي ستصدر منكم، حين ابتدأ خلقكم بخلق أبيكم آدم من التراب، و استخرج ذريته من صلبه، و حين صوركم أجنة في أرحام أمهاتكم، و تعهدكم بالنمو و التكوين في أطوار مختلفة. و الجنين: هو الولد ما دام في البطن، و فائدة قوله: فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ التنبيه على كمال العلم و القدرة، فإن بطن الأم في غاية الظلمة، و من علم بحال الجنين فيها لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد.
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى أي لا تمدحوا أنفسكم، و لا تبرّئوها عن الآثام، و لا تثنوا عليها بإعجاب أو رياء، و لا تدّعوا الطهارة عن المعاصي، بل احمدوا اللّه على الطاعة، و احذروا المعصية، فاللّه هو العليم بمن اتقى المعاصي.