کتابخانه تفاسیر
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج2، ص: 146
أنفسكم أيها الخونة الكاذبون «تُشْرِكُونَ» .
و «كُلِّ كَرْبٍ» هنا تحلِّق الإنجاء على كل المحاور مهما كانت هناك أسباب ظاهرة، فإنها ليست لتعمل إلَّابمشيئة اللَّه.
تهديد شديد بالمتخلفين عن شرعة اللَّه بعذاب غامر من فوق أو نابع من تحت أو آت من بينكم، ثالوث من العذاب من نواح ثلاث تغمر الناس في خضمِّها، و قد تدل على إختصاصها بالمسلمين في هذا الخطاب «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» حيث المشركون و سائر الكفار هم ملبسون شيعاً قضيةَ مبدءهم، و أما المسلمون فقضية مبدءهم الإسلام هي الوحدة إعتصاماً بحبل اللَّه جميعاً.
ولكن لا تحديد في ذلك التهديد إلَّابالمتخلفين الشرسين عن شرعة الحق ككلٍّ و قد سبق الخطاب المشركين المتعنِّتين.
إلَّا أن المحور- و لا سيما في يلبسكم شيعاً- هم غير المشركين فإنهم شيع بإشراكهم: «وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» (30:
32) ولكن ليس الشيع كعذاب من العذابات يوم الدنيا، يشمل كل من يستحقه، سواء المشركين فبمزيد الشيع، أو المسلمين المتوحدين فبأصل الشيع، أو المتفرقين كما هو دأبهم الدائب فبمزيده كما المشركين مهما كانوا دركات.
و قد تعني «مِنْ فَوْقِكُمْ» إضافة إلى عذاب السماء إلهياً و بشرياً «السلاطين الظلمة» و «مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ» إضافة إلى مثل الخوف و العذابات البشرية «العبيد السود» ثم «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» لبس الخلافات بين المسلمين أنفسهم كما و هو سوء الجوار. «1»
(1). المجمع قيل هو سؤء الجوار عن ابي عبداللَّه عليه السلام و في الدر المنثور عن ابن عباس في «عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ» قال: يعنيبالشيع الأهواء المختلفة «وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» قال يسلط بعضكم على بعض بالقتل و العذاب
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج2، ص: 147
فقد يعذبون بمن فوقهم و ما فوقهم، أو بمن تحتهم و ما تحتهم، أو بمن معهم و هم في مستواهم، عذابات لا قبل لهم بها ... «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ» .
و هل أن «يَبْعَثَ» تختص عذاباً من فوقكم أو من تحت ارجلكم بما ليس الإنسان فيه صنع؟ و العذابات الخلقية كذلك مما يبعثها اللَّه قضية توحيد الربوبية! فهنالك ثالوث من «عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ» و اخرى «مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ» و السابع: «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» أبواب سبع من جحيم العذاب يفتحها ربنا على من لا يفقهون و هم متخلفون عن جادة الصواب.
و قد يفوق لبسهم شيعاً و ذوق بعضهم بأس بعض كافة العذابات من فوقهم أو من تحت أرجلهم، إذاً فهو الدرك الأسفل من الدركات السبع للعذاب، و هو الذي يخلِّف سائر العذابات الفوقية و التحتية.
ففي إنقسام المسلمين شيعاً و أحزاباً مذهبية أو سياسية أماهيه، فيه ضعفهم و فشلهم، فيسيطر عليه السلطات الفوقية بل و القوات التحتية.
فحين يأمرنا اللَّه تعالى «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا ...» يعنى الحفاظ على كوننا و كياننا في أنفسنا و أمام سائر الناس المتربصين بنا كل دوائر السوء.
و حين نترك ذلك الاعتصام نُلبس شيعاً فيذوق بعضنا بأس بعض على قدر تحللنا عن ذلك الإعتصام.
و لقد أخذ لبسهم شِيَعاً منذ السقيفة منذ أن ارتحل الرسول صلى الله عليه و آله ثم توسَّعت الخلافات المذهبية و تعرقت بين المسلمين مما جعلتهم شذر مذر أيادي سبأ لا تحكمهم إمرة صالحة واحدة، فهم- على كثرتهم- عائشون تحت إمرة المتأمِّرين الظالمين من فوقهم و من تحت أرجلهم، المتآمرين عليهم، المخططين ضدهم كل الخطط الخاطئة الساحقة.
ذلك! و كما يتعوذ الرسول صلى الله عليه و آله من هذه العذابات «1» قائلًا: أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها
(1). الدر المنثور 3: 17 عن جابر بن عبداللَّه قال: لما نزلت هذه الاية قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اعوذ بوجهك «أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ» قال: اعوذ بوجهك «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» قال: «هذا أهون و ايسر» اقول: ايسر في وجهه نفسه و هو اعسر لأنه يخلف عذاباً من فوقكم و من تحت ارجلكم
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج2، ص: 148
بعد «1» و ما ورد من إجارة هذه الأمة من الأولين بدعاء الرسول صلى الله عليه و آله معارض بمثلث المعارضات كتاباً و سنة. «2»
إذاً فالأمة الإسلامية مهددة بهذه العذابات الثلاث المنقسمة إلى سبعة و عوذاً باللَّه كما استعاذ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، مهما شملت هذه التهديدات غيرهم بأحرى منهم.
ذلك، و كما نرى قسماً من هذه العذابات التي يروى إجارة هذه الأمة عنها، واقعة فيهم ك «وسألته ألَّا يسلط علهم عدواً من غيرهم فأعطانيها»! «3» و هم في الأكثرية الساحقة يعيشون كثيراً من القرون الإسلامية حتى الآن تحت أنيار الذل من السلطات الكافرة.
فالروايات المروية عنه صلى الله عليه و آله بإجارة الأمة عن سلطة عدو عليهم من غيرهم- على كثرتها- مخالفة للقرآن و للواقع المعاش لهم، اللَّهم إلَّاأن تعني من الأمة حقهم و حاقهم الآتين بشروط الإسلام.
وترى هذه الآية المهددة بلبسنا شيعاً تمنعنا عن إقامة البراهين الصادقة لإثبات المذهب
(1). المصدر عن سعد بن ابي وقاص عن النبي صلى الله عليه و آله في هذه الآية: أما انها ..
(2). ما يروى عنه صلى الله عليه و آله انه قال: «اللهم لا ترسل على امتي عذاباً من فوقهم و لا من تحت ارجلهم و لا تلبسهم شيعاً و لا تذبق بعضهم بأس بعض فأتاه جبرائيل فقال: ان اللَّه قد اجار امتك ان يرسل عليهم عذاباً من فوقهم او من تحت أرجلهم» كما في نفس المصدر، انه يعارض/ «اما إنها كائنة» و لا يلائم الآية، بل وتعارضها: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» و ليس الرسول فينا ثم و ظرف العذاب الموعود عدم الاستغفار!
(3). المصدر عن ابن مردويه عن ثوبان انه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: إن ربي زوى لي الأرض حتى رأيتمشارقها و مغاربها و اعطاني الكنزين الأحمر و الأبيض و ان امتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها و اني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة فأعطانيها و سألته ألا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها و سألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها و قال يا محمد إني إذا قضيت قضاءً لم يرد إني اعطيت لُامتك أن لا أهلكها بسنة عامة و لا أظهر عليهم عدواً من غيرهم فيستبيحهم بعامة و لو اجتمع من بين اقطارها حتى يكون بعضهم هو يهلك بعضاً و بعضهم هو يسيءُ بعضاً و اني لا أخاف على امتي إلَّاالأئمة المضلين و لن تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من امتي بالمشركين و حتى تعبد قبائل من امتي الأوثان و إذا وضع السيف في امتي الم يرفع عنها الى يوم القيامة و انه قال: كلها يوجد في مائة سنة و سيخرج في امتي
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج2، ص: 149
الحق لأنها تعارضها براهين من آخرين؟.
كلَّا و إنما ما تمنعنا عن ترك الإعتصام بحبل اللَّه جميعاً، فإن القرآن هو رمز الوحدة العريقة الدينية، و ما اختلاق المذاهب عقيدية و فقهية أماهيه إلَّامن مخلَّفات البعد عن حجة القرآن حقها، و كما في خطبة الرسول صلى الله عليه و آله: «إذا إلتبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم باقرآن ..».
اختصاصات ربانية
«وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ» (40: 37).
الصرح هو العرض فقد يكون للجلوس عليه ك «صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ» (27: 44) و أخرى للصعود عليه تطلُّعاً إلى عالٍ و كما يطلبه فرعون من هامان، و هو برج عال كأعلى ما يمكن، خروجاً عن الأسباب الأرضية إلى أسباب سماوية، فكما في الأرض مركبات موصلة إلى أخرى هي أسباب للتنقلات الأرضية، كذلك للسماء، فهنا صرح يطَّلع عليه على أسباب السماوات، ثم الركوب على مركبة سماوية إطلاعاً على ما فيها من كائنات كامنة!
و لا يمكن الإرتقاء في الأسباب إلَّالمن يملكها علماً و اقتداراً و كما يتحداه القرآن: «أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ» (38: 10) أسباباً يقصر عنها العلم مهما جال جولته في السماوات و الأرض، في اسباب خارقة للعادة، خفية إلَّالمن أطلعه اللَّه، و كما أوتي ذوالقرنين من كل شيء سبباً «فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ .. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ .. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ..» (18: 85- 92) .. مهما كانت لنا أسباب تعمنا أم تخص الخصوص من علماء الأسباب روحياً و مادياً «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ» (2: 166).
فالعالم بأسره يعيش مثلث الأسباب و إن كان لكلٍّ أهل، و لقد تسمَّع فرعون أن هناك
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج2، ص: 150
أسباباً لارتقاء السماوات و اشتهى أن يبلغ الأسباب «لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ» و قد خيِّل إليه أنه ربُّ الأرض و بيده أسبابها: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» ثم لم يجد في الأرض و بيده أسبابها: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» ثم لم يجد في الأرض إله موسى فيبني صرحاً يطلعه ليبلغ أسباب السماوات فيطلّع إلى إله موسى، كأنه كائن في السماء.
و قيلة القائل إن اللَّه في السماء، فما كان يعرف فرعون مكانة إله موسى و لا مكانه إلَّا تعريفاً من موسى فاخذ يطَّلع إلى إله موسى في السماء؟ إنها قولة زائفة تزيفها تصاريح موسى حول الإله: «قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ. قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» (26: 29).
فهذه سخافة الرأي من فرعون أن لو كان لموسى إله فلا بد أنه في السماء، إذ لا أرى في الارض من إله غيري ف «لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً» أن له إلهاً.
و هكذا يموِّه الطاغية فيداور و يحاور علَّه يجد مفرَّاً من لُجَّة الحجة، ولكيلا يواجه الحق جهرة و صراحاً، و لا يعترف بوجوده فضلًا عن وحدانيته التي تهز عرشه و جبروته، فليس فرعون بالذى يفتش عن إله موسى و على هذا الوجه المادي الساخر، اللهم إلّا استخفافاً و استهتاراً من ناحية، و تظاهراً بالإطلاع إليه بأسباب السماوات واخرى، فلذلك يخرف و يهرف فيما يحرِّف و يحرف، تطرقاً بالمحال «أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ» إلى محل آكد «فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى» و من ذا الذي يتساءله في تطلُّعه و اطلاعه إلى ماذا؟ حيث الجواب سوف يكون: لكي أطلع إليه، أم لم يكن فيها اطلعت، «وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ» موسى «كاذِباً» أن له إلهاً غيري، أم وجدت في السماء من يدعي أنه إله موسى «وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ» إله موسى «كاذِباً» فتنتهى الحوار في كيده إلى ميده «وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ» أن زينه الشيطان و علَّه أصبح أشطن من الشيطان! «وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ» بما صدَّها عن نفسه فانسدَّت عليه «وَ ما
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج2، ص: 151
كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ» فقد كاد كيده كلَّه في الأرض و إلى السماء ولكي يدحض حجة الحق، ولكنه أصبح في تباب بعدما آمن السحرة كلهم أجمعون، و اغرق فرعون بجنوده أجمعين، غرقاً بكيده مرتين و «ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» !
«وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ» (40: 38).
هنا- و قد بلغ من كيد فرعون التوصل إلى اسباب السماوات- يستمر الذي آمن بحجته، كأن لم يتكلم فرعون بشىءٍ، استخفافاً به ولأنه لا جواب لهرائه، فإنما يعاكس قولة فرعون من قبل «وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» بقوله «يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ» و أين رشاد من رشاد؟ هكذا يتحداه بكلمة الحق دون ان يهاب سلطانه و المتآمرين معه.
«يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40: 40).
«إِنَّما» تحصر «هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا» بانها «مَتاعٌ» متاع المتعة الفانية، و متاع التجارة الباقية «1» «وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ» فخذوا من ممركم لمقركم، و من المتعة الفانية تجارة باقية لن تبور.
يبرهن هكذا مرشداً لهم بعدما أثبت لهم بما أثبت وحدانية اللَّه و حقانية اليوم الآخر، حيث النصيحة دون برهان لا تفيد الناكر.
و من عدل اللَّه تعالى يوم الحساب «مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها» فإنها هي بملكوتها دون زيادة أو نقيصة، اللهم إلَّابتوبة أو شفاعة أماهيه، و قضية المماثلة بين السيئة و جزائها أنه محدود كما هي فهو متناه كما هي متناهية! «وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً» أيا كان «مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى» دون فارق بينهما إلَّابصالح العمل، «وَ هُوَ مُؤْمِنٌ» حيث الإيمان ركن لصلاح العمل فهو دونه حابط «وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» (5: 5) و إذا كان جزاء السيئة بحساب
(1). الدر المنثور 5: 351- اخرج ابن مردويه عن ابي هريرة قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ان الحياة الدنيا متاع و ليسمن متاعها شيء خيراً من المرأة الصالحة التي اذا نظرت اليها سرتك و اذا غبت عنها حفظتك في نفسها و مالك
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج2، ص: 152
فثواب الحسنة بغير حساب، مهما كان لكل حسنة حساب في «بِغَيْرِ حِسابٍ» حيث الجنة من فضل اللَّه و رحمته «1» و النار من عدل اللَّه و نقمته.
و هذا هو سبيل الرشاد ايماناً و عملًا و عقيدة في صيغة موجزة سائغة لائقة بالداعية، تعريفاً بالدارين، و صورة جامعة من خلفيَّة الأولى الاخرى.
«وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (40: 42).
و لماذا «ما لِي» و ليس العجاب إلّامما لهم من دعوة زائفة؟ لأن «ما لَهُمْ» واضح وضح الشمس أنهم عاشوا هوامش الضلالة، مرتزقين و في الإضلال، فليوجَّه السؤال إلى نفسه «ما لِي» إستحضاراً لحاله و ما له من لينة، فهل فيه ضلال كامن يدفعهم لدعوته إلى النار؟ و هو معلن بالحق في أشد الأخطار! فلا مطمع إذاً و لا مطمح في دعوته إلى النار، فليس إلَّا أنهم هم الضالون إلى ذلك الحد العجاب، انهم يدعون داعية الحق إنى الباطل فإلى نار، و هذه الحالة البئيسة هي من خلفيات الطبع «عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ» ألَّا يحصر ضلاله في نفسه، بل ويُضل من يَضل و ينولى في إضلال من لا يضل فهو في ثالوث الضلال المنحوس!
و كيف «أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ» و يعلم الذي آمن ألَّا شريك له؟ و هو مجاراة مع المشركين أنني و اياكم لا نعلم- لأقل تقدير- أن للَّهشريكاً، حيث الآيات آفاقية و أنفسية ليست لتدل له على شريك، و لا أنه أوحى إلى نبي من أنبيائه أن له شريكاً، و اتِّباع غير العلم محظور في كافة الحقول لدى أصحاب العقول، و أنا أدعوكم إلى ما تقتضيه العقول، و أنتم تدعونني إلى ما ترفضه العقول، أنتم تدعونني «لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ» به و بتوحيده «وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ