کتابخانه تفاسیر
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج7، ص: 185
كتاب اللَّه لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي: آية النجوى ... كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه و آله قدمت بين يدي درهماً، ثم نسخت، فلم يعمل بها أحد، فنزلت: «أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ» «1» .
ويروى عنه عليه السلام: ان آية النجوى ما كانت إلا ساعة ويروى عشر ليال، وهذه أوفق بفرصة الإمتحان، وغاية الإمتحان، وان ساعة ومثلها لا تكفي للمناجات عشر مرات «2» ! ويروى انه سأله صلى الله عليه و آله بين الآيتين عن عشر خصال «3» فهل في ساعة واحدة عشر مراجعات في عشر نجوات تحمل كل واحدة استعلام خصلة؟!
فقد ناجاه صلى الله عليه و آله عشر مرات في هذه الفترة، فاستعلمه صلى الله عليه و آله عشر خصال، مما يثير العجب من مدى رغبته في نجواه لحدّ تصدق بكل ما له الذي استقرضه، نجوات تترى دونما انقطاع، رغم إهمال من سواه إشفاقاً أن يقدموا بين يدي نجواهم صدقات، وليس في ذلك تنديد بالامة أجمع، إنما بمن كان يناجيه تباعاً ثم ترك أو ترك الصدقة قبل مناجاته إذ واصل فيها، واما من لم يكن يناجيه رعاية للمصلحة الجماعية، أو تقديماً للأصلح في نجواه، أو لم يحصل له سؤال هام يتطلب النجوى في هذه الفترة، أما بالنسبة لهؤلاء فلا «4» .
(1). أخرج سعيد بن منصور وابن راهوية وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن علي عليه السلام قال: وفي بعض الأحاديث انه عليه السلام استقرض هذا الدينار لنجوى الرسول صلى الله عليه و آله
(2)). أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي عليه السلام قال: ويروى انه كان عشرليال كما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل
(3)). أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه و آله حتى يقدموا صدقة فلميناجه إلا علي بن أبي طالب فإنه قدم ديناراً فتصدق به ثم ناجى النبي صلى الله عليه و آله فسأله عن عشر خصال ثم نزلت الرخصة
(4). أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: ان المسلمين اكثروا المسائل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى شقوا عليه فأراد اللَّه أن يخفف عن نبيه فلما قال ذلك امتنع كثير من الناس وكفوا عن المسألة فأنزل اللَّه بعد هذا «أَ أَشْفَقْتُمْ ...» (الدر المنثور 6: 185)
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج7، ص: 186
فقد تبين هنا للعامل الوحيد بالآية فضيلتان: أنه ما ترك نجواه بل قد زاد فيها، وأنه الذي يحق أن يناجي الرسول عليه السلام بما فيها من صالح الامة الإسلامية لأنه باب مدينة علمه والصادر عنه، وكم له من ميزات أجمعت الامة عليها، وهذه منها «1» رغم ما نقم منه الناقمون لحدّ اضمروا عن اسمه فقالوا: (رجل من المهاجرين) واشركوا معه في هذه الكرامة غيره «2» خلافاً لإجماع الرواة والمفسرين.
ولما ترك جماعة من المسلمين المناجاة خشية الإنفاق وخيّم عليهم الإشفاق: العناية المختلطة بخوف، نسخ اللَّه تعالى حكم صدقة المناجاة شفقة عليهم ورحمة، وتاب عليهم، فاختصت الفضيلة في تطبيق الآية بالإمام علي عليه السلام لحّد يسُرُّ منه الخليفة عمر «3» .
فهنا «نَجْواكُمْ» توحي بأنهم تناجوا الرسول بعد النهى ولم يقدموا صدقات وهكذا يوحي الإشفاق أيضاً فإنه عناية مختلطة بخوف، عناية في مناجاة الرسول صلى الله عليه و آله وخوف من الصدقات، وخوف من اللَّه في تركها، فابتلوا بهذه البلية، ولو استمرت لكانت بلاء لزاماً، ولكنه تعالى: (وضعها عنهم بعد أن فرضها عليهم برحمته ومنّه) وكما يروى عن الرسول صلى الله عليه و آله «4» .
(1)). عنه عليه السلام يقول للقوم بعد موت عمر بن الخطاب: نشدتكم باللَّه هل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية ... فكنت انا الذي قدمالصدقة، غيري؟ قالوا، «لا» وكما احتج به على أبي بكر بقوله عليه السلام فأنشدك باللَّه أنت قدم بين يدي نجواه لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله صدقة فناجاه وعاتب اللَّه تعالى قوماً فقال: ءأشفقتم ... أم أنا؟ قال: بل أنت (نور الثقلين 5: 265 عن الاحتجاج للطبرسي)
(2)). كما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل ينقل القصة إلى أن يقول: فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئاً وأما أهل الميسرهفمنع بعضهم ماله وحبس نفسه إلا طوائف منهم جعلوا يقدمون الصدقة بين يدي النجوى ويزعمون أنه لم يفعل ذلك غير رجل من المهاجرون من أهل بدر فأنزل اللَّه «أَ أَشْفَقْتُمْ ...» (الدر المنثور 6: 185)
(3). تفسير روح البيان 9: 406- لاسماعيل حقي البروسي عن عمر رضي اللَّه عنه: كان لعلي اللَّه عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلى من حمر النعم: تزويجه فاطمة رضي اللَّه عنها واعطاء الراية يوم خيبر وآية النجوى
(4). الاحتجاج للطبرسي عن النبي صلى الله عليه و آله حديث طويل في مكالمة بينه وبين اليهود وفيه: فأنزل اللَّه عزوجل ألا يكلموني حتى يتصدقوا بصدقة وما كان ذلك لنبي قط (ثم ذكر صلى الله عليه و آله الآية وقال:) ثم وضعها عنهم بعد ان فرضها عليهم برحمته ومنه. (نور الثقلين 5: 264)
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج7، ص: 187
لذلك تاب اللَّه عليهم: ان غفر إذ لم يفعلوا، ونسخ الوجوب لكيلا يبتلوا، توبتان من اللَّه عليهم، شرط أن يواصلوا في إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة اللَّه ورسوله، فيتركوا الإثم والعدوان ومعصية الرسول المسبق ذكرها «وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» من صالحات وطالحات.
فلم تكن المناجاة واجبة حتى يتوب اللَّه عليهم في تركها، ولا الصدقة واجبة لولاها حتى يتوب عليهم إذ لم يقدموها، وإنما الواجب تقديم الصدقة عند المناجاة ولم يفعلوها:
«فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» : ناجيتم ولم تقدموا صدقات «فهل تكون التوبة إلا عن ذنب كما يروى عن صاحب النجوى عليه السلام» «1» .
وكما أسلفناه لم تكن الخطيئة للجميع، وإنما للمجموع، أن جماعة من الأثرياء ضنّوا بالعطاء وتناجوا، كما كانوا يضنون بإفساح المجال للقادمين الفضلاء لمجلس الرسول صلى الله عليه و آله فونجهم اللَّه تعالى، دون من ترك المناجاة لعلل مسبقة، اللهم إلا إشفاق الصدقة، فتاب اللَّه على من لم يفعل: الصدقة بعد المناجاة، أو لم يفعل المناجات خشية الصدقة، وتاب عليهم في فرض الصدقة ان نسخها.
وإبدال صدقة النجوى بهذه الواجبات يوحي بأنها لم تكن من مهام الواجبات، ولا الأصيلة منها، بل هي إبتلائية، ولذلك نسخت إذ أطاقها المسلمون وأشفقوا منها، إلا أن طاعة اللَّه والرسول هنا تربطهم برباط التنظيم في نجواهم، وأن يخرجوا عن فوضاها، والإستئثار بها دونما ملزم أو مرجح، فكما الأفضل علماً وإيماناً يفسح له وينشز، كرامة للعلم والإيمان، فبأحرى يقدم الأفضل فيهما في مناجاة الرسول صلى الله عليه و آله.
(1). الخصال للصدوق في مناقب أمير المؤمنين وتعدادها قال: وأما الرابع والعشرون فإن اللَّه أنزل على رسوله (وذكر آية النجوى والقصة ثم قال): فواللَّه ما فعل هذا أحد من الصحابة قبلي ولا بعدي فأنزل اللَّه عزوجل (وذكر الآية الناسخة ثم قال): فهل تكون التوبة إلا عن ذلك؟ (نور الثقلين 5: 265)
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج7، ص: 188
[القاعدة الرابعة لعرش الخلافة: علي نفس الرسول (ص)]
علي نفس الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله القاعدة الرابعة لعرش الخلافة الإسلامية
يرشدنا إلى هذه المنزلة الرفيعة منه صلى الله عليه و آله شهادة ربه في الذكر الحكيم وما تواتر عن الرسول الكريم.
آية المباهلة
مثل عيسى عند المغالين بحقه يختلف حقاً عن مثله عند اللَّه، فهم يزعمونه إبن اللَّه أو اللَّه المتجسد في الناسوت، فهو من جوهرة الألوهية، ومثله عند اللَّه «كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ...» .
فإذا كان خلق المسيح خارقة أن لم يكن له والد، فخلق آدم خارقتان أن لم يكن له والدان، وإنما «خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» خلق جسمه «ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ» قولًا تكوينياً موجهاً الى جسمه أن صار إنساناً فهو تكوين روحه من جسمه، وهذه عبارة أخرى عن «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» في تخليق بنيه.
وقد تكون «فَيَكُونُ» بديلًا عن «فكان» إشارة إلى استمرارية هذه الكينونة الخارقة للمألوف، دون اختصاص بآدم، حيث ثنّي بالمسيح عليه السلام، ومن ثم في كافة الآيات المعجزات.
فإن كان المسيح لخلقه دون أب إبناً للَّهفليكن آدم المخلوق دون أبوين أخاً للَّه، وإن كان المسيح لذلك هو اللَّه فليكن آدم أباً للَّه، سبحانه وتعالى عما يشركون، ثم وإن كان المسيح يستحق الولادة مجازياً تشريفياً، فليشرّف آدم بسمة الأخوة للَّه.
ذلك! ولا يصح المجاز إلا فيما يمكن حقيقته، وإذ ليس بالإمكان إبن أو أخ للَّه، فلا
(1). سورة آل عمران- آية 59
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج7، ص: 189
تشريف- إذاً- بمجاز وسواه، حيث المَجاز هو الحقيقة المُجاز إذ يجوز اللفظ ويعبر منه إلى ما يشابههه.
تنزل هذه الآية جواباً عما سأله جماعة من أهل نجران «هل رأيت مثل عيسى أو أنبئت به؟» «1» فقد تحمل إجابة وافية قاطعة لأعذار مؤلهي المسيح ومتبنّيه، ومختلقي انتسال آدم من إنسان أم ارتقاءً من حيوان!.
وذلك التساءل حدث بعد ما كتب النبي صلى الله عليه و آله إلى أهل نجران يدعوهم فيه إلى الإسلام «2» .
وهنا المماثلة بين آدم والمسيح عليهما السلام ليست إلّا في فقد الأب، ثم يختص آدم بفقد الأم أيضاً وخلقه رأساً من تراب، وقد نابت النطفة الرجولية في خلق المسيح مناب اللقاح الرجولي، أن خلقها اللَّه تعالى دون صلب وألقاها نفخاً إلى رحم البتولة العذراء وكما فصلناه في سورة مريم، وآدم خلق دونما صلب ورحم أو نطفة!.
(1)). الدر المنثور 2: 37- أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العرفي عن ابن عباس من أهل نجران قدموا علىالنبي صلى الله عليه و آله وكان فيهم السيد والعاقب فقالوا: ما شأنك تذكر صاحبنا قال: من هو؟ قالوا: عيسى تزعم أنه عبد اللَّه قال: أجل إنه عبد اللَّه قالوا فهل رأيت ... فجاء جبرئيل فقال: قل لهم إذا أتوك: إن مثل عيسى عند اللَّه كمثل آدم ...
وفيه عن قتادة أنهما نبي اللَّه فسألاه عن عيسى فقالا: كل آدمي له أب فما شأن عيسى لا أب له فأنزل اللَّه فيه هذه الآية.
وفيه أتاه صلى الله عليه و آله منهم أربعة من خيارهم فسألوه ما تقول في عيسى قال: هو عبد اللَّه وروحه وكلمته قالوا هم: لا ولكنه هو اللَّه نزل من ملكه فدخل في جوف مريم ثم خرج منها فأرانا قدرته وأمره فهل رأيت إنساناً خلق من غير أب فأنزل اللَّه هذه الآية
(2). أخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد رسول اللَّه إلى أسقف نجران إن أسلمتم فإني أحمد اللَّه إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة اللَّه من عبادة العباد، أدعوكم إلى ولاية اللَّه من ولاية العباد فإن أبيتم فقد أذنتم بحرب والسلام، فلما قرء الأسقف الكتاب فظع به وذعر ذعراً شديداً فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شر حبيل بن وداعة فدفع إليه كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقرأ فقال له الأسقف ما رأيك؟ فقال شر حبيل: قد علمت ما وعد اللَّه تعالى إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل نبياً وليس لي في النبوة رأي لو كان أمر من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلمهم قال مثل قول شر حبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شر حبيل وعبد اللَّه ابنه وحيار بن قنص فيأتوهم بخبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فانطلق الوفد حتى أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فسألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى بن مريم؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى صبح الغداة فأنزل اللَّه هذه الآية إلى «فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملًا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة ...»
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج7، ص: 190
«الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» «1» .
أترى أن رسول الهدى إمترى في الحق من ربه، ومنه مثل عيسى في خلقه حتى يخاطب ب «فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» ؟ طبعاً لا وألف كلّا، فإنما ذلك التعبير هو قضية الموقف حيث المتسائلون لم يكونوا ليسكتوا عن قيلاتهم، وكأن ذلك المثل لا يحمل حقاً من اللَّه.
لذلك يخاطب الرسول صلى الله عليه و آله من باب «إياك اعني واسمعي يا جارة» تأكيداً لحق الجواب، حسماً لكل مرية هي بعيدة عن جادة الصواب.
فهو- إذاً- ك «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» - «وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» وكيف يجوز الإمتراء والشك والشرك على من باشر برد اليقين وتلقى عن الروح الأمين ... أو أن الخطاب في «رَبِّكَ» ليس ليختص بمن لا يمتري، بل هو كل من يجوز في حقه الإمتراء وهو كل مخاطب سامع للبرهان من المكلفين كائناً من كان، فهو خطاب الإفراد شاملًا كل الأفراد على سبيل الأبدال فيشمل الذين قالوا- فيما غالوا بحق المسيح عليه السلام- إنه اللَّه أو إبن اللَّه، ف «الْحَقُّ» كله «مِنْ رَبِّكَ» الذي رباك يا رسول الهدى، وكل من يصح خطابه، دون الغالين الدجالين «فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» بحق الحق، ولا تمار فيه مجادلًا عن الباطل، ومحاجاً ضدّ الحق، وقد فعلوا فنزلت آية المباهلة.
ووجه ثالث- علّه معني مع الأولين- أن ليس الإمتراء هو الشك فقط بل وهو المماراة والمجادلة بشأن الحق الجلي مع من لا يخضع لبرهان، فلماذا- إذاً- المماراة مع المعاندين «فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» فكل أمرك إلى رب العالمين مع من حاجك حول الحق اليقين، الناصح الأمين:
هذه من غرر الآيات بشأن الغر الكرام من آل الكساء عليهم السلام، حيث تعبر عن علي عليه السلام ب
(1). سورة آل عمران- آية 60
(2). سورة آل عمران- آية 61
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج7، ص: 191
«أَنْفُسَنا» وعن فاطمة عليها السلام ب «نِساءَنا» وعن الحسنين عليهما السلام ب «أَبْناءَنا» مما يدل على أخص الإختصاصات لهؤلاء بالرسالة القدسية المحمدية صلى الله عليه و آله.
هنا «مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» دون «بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يحمل توسيعاً لدائرة العلم، فهو علم الوحي بعد العلم العقلي وقد حصلا معاً بتلك الممائلة في «إِنَّ مَثَلَ عِيسى ...» .
وذلك مما يؤكد عدم عناية الشك من إمتراءه صلى الله عليه و آله لو أنه المخاطب ب «فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» .
«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ» في الحق من ربك، الذي لا مرية فيه ولا ريبة تعترية «فَقُلْ تَعالَوْا ...» وهذه دعوة صارحة صارخة في هذه الإذاعة القرآنية إلى مباهلة الكاذبين المصرين على كذبهم بعد صراح الحق المبين، فقد تجوز المباهلة وتفيد حين تتوفر شروطها «1» ، إذ ليس الحق ليقف مكتوب الأيدي أمام الناكرين المكذبين، فإما تقبّله ببرهان أم دخول في لعنة اللَّه على الكاذبين.
ولقد دعى الرسول صلى الله عليه و آله الذين كانوا يحاجونه في قصة المسيح عليه السلام إلى اجتماع حاشد من أعز الملاصقين من الجانبين، ليبتهل الجميع إلى اللَّه في دعاء قاصع قاطع أن ينزل لعنته على الكاذبين فخافوا العاقبة وأبوا المباهلة «2» وتبين الحق واضحاً وضح الشمس في رايعة النهار.
(1)). نور الثقلين 1: 351 عن أصول الكافي علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن حكيم عن أبي مشرق (مسروق) عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قلت: إنا نكلم الناس فنحتتج عليهم بقول اللَّه عزوجل: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» فيقولون نزلت في امراء السرايا، فنحتج عليهم بقول اللَّه عزوجل «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ ...» فيقولون: نزلت في المؤمنين ونحتج عليهم بقول اللَّه عزوجل «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» فيقولون: نزلت في قربى المسلمين، قال: فلم ادع شيئاً مما حضرني ذكره من هذا أو شبهه إلّا ذكرته فقال لي: إذا كان كذلك فادعهم إلى المباهلة قلت: وكيف أصنع؟ قال: أصلح نفسك ثلاثاً- وأظنه قال: صم واغتسل- وأبرز أنت وهو إلى الجبان فشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ثم انصفه وابداً بنسك وقل: اللّهم رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع عالم الغيب والشهادة إن كان أبو مسترق جحد حقاً وادعى باطلًا فأنزل عليه حسباناً من السماء وعذاباً أليماً، ثم رد الدعوة عليه فقل: وإن كان فلان جحد حقاً وادعى باطلًا فأنزل عليه حسباناً من السماء أو عذاباً أليماً ثم قال لي: فإنك لا تلبث أن ترى ذلك فيه فواللَّه ما وجدت خلقاً يجيبني إليه