کتابخانه تفاسیر
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج16، ص: 181
وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» «1» .
وفي رجعة أخرى إلى الحق نقول إنه إثنان: حق طليق يخص باللَّه تعالى شأنه، و حق غير طليق و هو لأهل الحق من خلقه شرعة و إيماناً، و لجميع خلقه تكويناً فإنهم كخلق اللَّه حق خُلقوا بحق: «ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ»
وهنا «يَقُصُّ الْحَقَّ» يعمهما، فهو يقص حق ذاته وصفاته و أفعاله و تشريعاته عمن سواه، كما يقصها عن باطل كلِّ المنسوب به إياه، و يقص رسله عن المدعين رسالته كذباً، وأحكامه عن سائر الأحكام المنسوبة إليه.
إذاً فقصُّ الحق يخصه دون سواه تكويناً و تشريعاً و شرعة، و ما الرسل إلَّا حملة شرعته دون تشريع أو تكوين.
ثم «يَقُصُّ» طليقةً عن ظرف ك «عن» و ما أشبه، تعم قَصَّ الحق في نفسه و قصَّه عما سواه، فله القصص الحق كأصل لا سواه.
حول الشهادة و الحكم 2
هذه شروط ثلاثة لواقع الإيمان: 1- «حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ» 2- «ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ» 3- وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» .
فلأن قرار النفس هي مَقر الإيمان فليحكموك فيما شجر بينهم قضيةَ الإيمان بهذه الرسالة القدسية «ثُمَّ لا يَجِدُوا» مهما فتشوا «فِي أَنْفُسِهِمْ» و قلوبهم وكل خطرات أنفسهم «حَرَجاً» و ضيقاً «مِمَّا قَضَيْتَ» ثم «وَ يُسَلِّمُوا» لكل قضاءك و أمرك و نهيك «تَسْلِيماً»
(1) 13: 14
(2) 4: 65
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج16، ص: 182
طليقاً دونما شرط. «1»
أجل «فَلا» إيمان لهؤلاء الأنكاد المتحاكمين إلى الطاغوت «وَ رَبِّكَ» الذي رباك بهذه التربية القمة الفائقة التصور «لا يُؤْمِنُونَ» صالح الإيمان «حَتَّى يُحَكِّمُوكَ» كرسول من اللَّه «فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ» و اختلط من أحكام زمنية أو روحية حيث الرسالة القدسية بسناد الكتاب و السنة هي مرجع كل التشاجرات «ثُمَّ» بعد تحكيمك حتى «لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ» مهما كان عليهم، و حتى «يُسَلِّمُوا» لقضاءك «تَسْلِيماً» طليقاً رفيقاً. «2»
وإذا كانت هذه الثلاث و جاه رسول اللَّه شروطاً في و اقع الإيمان باللَّه، فبأحرى أن تكون شروطه و جاه حكم اللَّه رجاحةَ الأصل على الفرع، و فضيلةَ المرسِل على الرسول.
ومما يستفاد من «لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى» أن الإيمان باللَّه و بشرعته لا يكفي ما لم يحكَّم
(1) نور الثقلين 1: 423 في أصول الكافي قال أبو عبداللَّه عليه السلام: لو أن قوماً عبدوا اللَّه وحده لا شريك له و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و حجوا البيت وصاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيءٍ صنعه اللَّه أو صنعه النبي صلى الله عليه و آله ألاصنع خلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين ثم تلا هذه الآية ثم قال عليه السلام: فعليكم بالتسليم.
وفيه عن الكافي عن زيد الشحام عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال قلت له: إن عندنا رجلًا يقال له كليب فلا يجيء عنكم شيءٌ إلا قال: أنا أسلِّم فسميناه كليب تسليم، قال: فترحم عليه ثم قال: أتدرون ما التسليم؟ فسكتنا فقال: هو و اللَّه الإخبات قول اللَّه عز و جل «الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ»
(2) في الدر المنثور 2: 180 عن أم سلمة قالت: خاصم الزبير رجلًا الى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقضى للزبير فقال الرجل إنما قضى له لأنه ابن عمته فأنزل اللَّه «فَلا وَ رَبِّكَ ...» .
وفيه أن عروة بن الزبير حدث عن الزبير بن العوام أنه خاصم رجلًا من الأنصار قد شهد بدراً مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الى رسول اللَّه في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل فقال الأنصاري سرح الماء يمر بي فأبى عليه فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اسق يا زبير ثم أرسل الماء الى جارك فغضب الأنصاري و قال يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ان اكن ابن عمتك فتلوّن وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع الى الجدر ثم أرسل الماء الى جارك و استرعى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله للزبير حقه و كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبل ذلك أشار على الزبير برأى أراد فيه السعة له و للأنصاري فلما حفظ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الأنصاري أسترعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير: ما أحب هذه الآية نزلت في ذلك «فَلا وَ رَبِّكَ ..» .
وفيه أخرج ابن المنذر عن جريح قال: لما نزلت هذه الآية قال الرجل الذي خاصم الزبير و كان من الأنصار: سلمت
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج16، ص: 183
رسول اللَّه يما شجر بينهم، ف «و ما اختلفتم فيه من شيء فردوه إلى الله» و ذلك الحكيم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحصران مرجع المشاجرات في كتاب اللَّه و سنة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأصالة الكتاب و هامشية السنة.
فكما التارك لكتاب اللَّه المقبل إلى السنة غير مؤمن بشرعة اللَّه و لا معتصم بحبل اللَّه جميعاً، كذلك المقبل إلى الكتاب التارك للسنة، فهما- إذاً- الأصلان الأصيلان في كل وارد و شارد من المشاجرات في كل حقولها، دون أي مرجع آخر مختلَق بين الطوائف الإسلامية شيعية و سنية اماهيه.
وهنا نرى في مثلث الإيمان سيرة «لا إله إلا الله» على صورتها، ف «لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ» تحمل «لا إله» ثم «يُحَكِّمُوكَ .. وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» تحملان «إلا الله» و هكذا نرى في و اقع الكلمة التوحيدية في كافة الأقوال و الأحوال و الأعمال أنها تضم كلا السلب و الإيجاب.
ولا تختص هذه الآية بالمنافقين الصامدين على نفاقهم، بل هي شاملة لهم و للمنافقين الذين يطبِّقون هذه الثلاث بعد تخلفات كما حصل، و كذلك ضعفاء الإيمان المتحرجون أحياناً من حكم الرسول صلى الله عليه و آله.
إذاً فهذه الثلاث تشمل هؤلاء الثلاث دونما اختصاص بكتلةدون أخرى مهما كانوا دركات.
«اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ» هما من البليات التي نُكب بها المتخلفون من اليهود، و «لَوْ» هنا لمحة إلى استحالة هذه البلية و أمثالها في هذه الأمة المرحومة، و هي في نفس الوقت تنديدة شديدة بهؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت أن «لَوْ أَنَّا كَتَبْنا .. ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» و هم الفرقة الثالثة من الذين «لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ..» و «ان من أمتي لرجالا الإيمان اثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» «2» و هؤلاء القليل هم
(1) 4: 66
(2)) الدر المنثور 2: 181- أخرج ابن جرير و ابن إسحاق السبيعي قال: لما نزلت «وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ ..» قالرجل لو أمرنا لفعلنا و الحمد للَّهالذي عافانا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و آله فقال: إن من أمتي ...
وفيه عن زيد بن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال ناس من الأنصار: و اللَّه لو كتبه اللَّه علينا لقبلنا الحمد للَّهالذي عافانا فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: الإيمان أثبت في قلوب رجال من الأنصار من الجبال الرواسي
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج16، ص: 184
من اولئك الاكارم مهما اختلفت الدرجات. «1»
وقد يتقبل اللَّه منهم توبتهم بعد حوبتهم إذا رجعوا إلى و اقع الإيمان، تطبيقاً لشروطه الثلاثة الماضية دون أن يحمَّلوا بأن «اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ» .
«وَ لَوْ أَنَّهُمْ» و هم الثلَّة المنافقة منهم دون القلة المؤمنة بالعظة «لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ» من تطبيق شروطات الإيمان «لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» يقابل شراً لهم «وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً» على الإيمان المدعى، و الأشد هنا مجارات معهم إذ لم يكن لإيمانهم أي شد حتى يصبح أشد تثبيتاً.
«وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً 67 وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» «2» .
« وَ إِذاً» تحقيقاً لما يوعظون به، سواء من هولاء المتخلفين- و بأحرى- السالكين مسالك الإيمان دون نكول و لا أفول «لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً» على عظيم ما فعلوا من الوعظ في مثلثه السامي، ثم «وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» تحقيقاً حقيقاً رفيقاً لاستدعاء الهداية في الصلاة: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» .
فأصل العظة الأصيل هو طاعة اللَّه و الرسول كما ابتدأت به آية فرض الطاعة المثلثة:
آية وحيدة في القرآن كله تعرِّف بالذين أنعم اللَّه عليهم بمواصفات أربع كقمة عليا، حيث نهتدي في دعاء الهداية إلى صراطهم «صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» . «4»
(1) المصدر- أخرج ابن أبي حاتم عن شريح بن عبيداللَّه: لما تلا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هذه الآية أشار بيده الى عبداللَّه بن رواحة فقال: لو أن اللَّه كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل
(2) 4: 67- 68
(3) 4: 69
(4) نور الثقلين 1: 515 في كتاب معاني الأخبار عن الإمام الحسن عليه السلام في قول اللَّه عز و جل: «صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» أي قولوا: اهدنا الصراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك و طاعتك و هم الذين قال اللَّه عز و جل: «وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ ...» .
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج16، ص: 185
أترى «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ» الموعود بهذه المعية المشرِّفة هو كل من أطاع اللَّه ورسوله مهما كانت قليلة؟ و ليست تكفي هكذا طاعة لهدي الصراط المستقيم. «1»
«يُطِعِ» بالصيغة المضارعة دون «أطاع» تلمح صارحة إلى استمرارية الطاعة، و أنها سنة المطيع في حياته الإيمانية، مهما فلت عنه فالت و ابتلي بلمم عن جهالة مغفورة.
وتلك الطاعة محلقة على كافة الحقول الحيوية عقيدية و ثقافية و خلقية و عملية أمّاهيه؟.
لتحكم بين الناس بما اراك اللَّه 3
على ضوء هذه اليتيمة المنقطعة النظير نعرف مدى حاكمية الرسول صلى الله عليه و آله بين الناس، حاكمية هي في الأغلبية الساحقة في الحقول السياسية و الجماعية و الحربية أماهيه من دون الأحكامية المتعودة، حيث الحاكم في الحقل الأحكامي هو اللَّه بكتابة و سنة نبيه صلى الله عليه و آله. «3»
(1) كما فصلناه على ضوء آية الحمد فراجع الفرقان (1: 117- 133)
(2) 4: 105
(3) و قد و ردت روايات بشأن نزول هذه الآيات مما أوجبت التنديد الشديد المديد بالذين ارادوا الرسول صلى الله عليه و آله أن يكون للخائنين خصيماً و يجادل عن الذين يختانون أنفسهم و هم يستخفون من الناس و لا يستخفون من اللَّه، و هم اولاء الذين يكسبون إثما ثم يرمون به بريئاً و يريدون ان يضلوا الرسول بما ضلوا و هم يشاقون الرسول بعد ما تبين لهم الهدى.
ففي نور الثقلين 1: 547 عن تفسير القمي في الآية كان سبب نزولها أن قوماً من الأنصار من بني ابيرق اخوة ثلاث كانوا منافقين بشير و مبشر و بشر فنقبوا على عم قتادة بن النعمان و كان قتادة بدرياً و أخرجوا طعاماً كان أعده لعياله و سيفاً و درعاً فشكى قتادة ذلك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه ان قوماً نقبوا على عمي و أخذوا طعاماً كان أعده لعياله و درعاً و سيفاً و هم أهل بيت سوء و كان معهم في الرأي رجل مؤمن يقال له لبيد بن سهل فقال بنو ابيرق لقتادة: هذا عمل لبيد بن سهل فبلغ ذلك لبيداً فأخذ سيفه و خرج عليهم فقال: يا بني ابيرق اترمونني بالسرق و أنتم اولى به مني و أنتم المنافقون تهجون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و تنسبونه إلى قريش لتبينن ذلك أو لأملأن سيفي منكم فداروه و قالوا له: ارجع يرحمك اللَّه فإنك بريءٌ من ذلك فمشى بنو ابيرق إلى رجل من رهطهم يقال له أسيد بن عروة و كان منطقياً بليغاً فمشى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه ان قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منا أهل شرف و نسب فرماهم بالسرق و اتهمهم بما ليس فيهم فاغتم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لذلك و جاء إليه قتادة فأقبل عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و قال له: عمدت إلى أهل بيت شرف و حسب و نسب فرميتهم بالسرقة و عاتبه عتاباً شديداً فاغتم قتادة و رجع إلى عمه و قال: يا ليتني مت و لم أكلم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقد كلمني بما كرهته فقال عمه: اللَّه المستعان، فأنزل اللَّه في ذلك على نبيه هذه الآيات إلى «بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً»
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج16، ص: 186
فهنالك إراءة ربانية لهذا الرسول صلى الله عليه و آله في رموز قرآنية، اذ «وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ» : القرآن.
«مُلْتَحَداً» (18: 27) إضافة الى القرآنية العامة، إراءَة خاصة في تأويل الأحكام الشرعية، هي له خاصة أو من علَّمه من خلفاءه المعصومين، و خاصة أخرى هي بسنته الثابتة غير المفرقة، و ثالثة هي بما أراه اللَّه كافة المصالح الملزمة الحيوة الإسلامية، فهو- إذاً- حاكم رباني بين الناس بما أراه اللَّه، لا رأى له مِن سواه.
والمحور الأصيل مما يحكم به الرسول بين الناس هو الكتاب ف «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ» كأصل في هذا الكتاب و لقد أمر الرسول صلى الله عليه و آله ليحكم بين الناس- كأصل- بالقرآن، كسائر الرسل بسائر الكتب، حيث «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ..» «1» .
ولو أن «بِما أَراكَ اللَّهُ» هي نفس «أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ» دالًا لغويا لكان الصحيح الفصيح «لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ» كما «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» «2» «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها ..» «3» .
(1) 2: 213
(2)) 50: 45
(3) 42: 7./
التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج16، ص: 187
ذلك، و ليس الحكم القضاء في الدعاوي و سائر الأحكام في مختلف الحقول، غير المنصوصة في القرآن، ليست هذه مما أنزل إليه في نص الكتاب أو ظاهره، اللّهم إلّا في تأويله إتساعاً علمياً له بالأحكام، و في سنته تفصيلًا لكافة الأحكام، و فيما أراه اللَّه رؤية معرفية تجعله حاكماً طليقاً بين الناس في كل قليل و جليل، فلا يخطأ في أي حكم بياناً وتطبيقاً، كما لا يخطأ في الأحكام القضائية و السياسية و الحربية أمَّاهيه، مما لا نص لها في الكتاب و السنة.
فكما «أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ» هي وحيه الأصيل، كذلك «بِما أَراكَ اللَّهُ» هي وحي رمزى له آخر يحلق على سائر الوحي، إذاً فكل أحكامه عاصمة معصومة بما أراه اللَّه، حتى في الأقضية الخاصة.
ف «إِنَّا» بجمعية ربانية الصفات «أَنْزَلْنا» - «بِالْحَقِّ» - «إِلَيْكَ» - «بِالْحَقِّ» - «الْكِتابَ» «بِالْحَقِّ» ، فذلك الإنزال هو في مثلث الحق الثابت الذي لا حول عنه، و لماذا؟:
«لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ» حكماً في كافة البينونات السياسية و الإقتصادية و الثقافية والعقيدية و الخلقية و العملية، فردية و جماعية، إزالة لكل بين و بون عن ذلك البين وبماذا؟:
«بِما أَراكَ اللَّهُ» و تراها إراءة بصرية؟ و ليس الحكم- فضلًا عن مادته- مبصَراً! أم إراءَة عقيدية؟ و قد كان يعتقد كل ما أنزل اللَّه عليه و ينزله قبل إنزاله!.
أم عرَّفك اللَّه؟ و هذا هو الصحيح، و هذه من الحكمة النازلة عليه مع الكتاب: «وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» «1» فلا بد و أنها حكمة مع القرآن مهما كان القرآن نفسه أصل الحكمة لحد أصبح برهاناً للرسول لا مرد له: «وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» : «حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ» «2» .
ولقد كفت «بِما أَراكَ اللَّهُ» برهاناً ساطعاً على أنه صلى الله عليه و آله ما كان ليحكم إلّا بإراءة ربانية،
(1)) 4: 113