کتابخانه تفاسیر
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 13
7- و «الشفاء»، لحديث. هي الشفاء من كل داء.
8- و «الكافية» لأنها تكفى عن سواها و لا يكفى سواها عنها.
9- و «الأساس». 10- و «الرقية».
هذا، و قد ذكر القرطبي للفاتحة اثنى عشر اسما، كما ذكر السيوطي لها في كتابه «الإتقان» خمسة و عشرين اسما.
رابعا: فضلها: ورد في فضل سورة الفاتحة أحاديث كثيرة منها:
ما رواه البخاري في صحيحه عن أبى سعيد بن المعلى- رضي اللّه عنه- قال:
كنت أصلى في المسجد، فدعاني النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فلم أجبه فقلت: يا رسول اللّه، إنى كنت أصلّى.
فقال: ألم يقل اللّه: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ .
ثم قال لي: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد». ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت: يا رسول اللّه. ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن. قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، هي السبع المثاني و القرآن العظيم الذي أوتيته» «1» .
و روى مسلّم و النسائي، عن ابن عباس، قال:
بينما جبريل قاعد عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم سمع نقيضا من فوقه- أى: صوتا- فرفع رأسه فقال:
هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم. فسلّم و قال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، و لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، و خواتيم سورة البقرة، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته» «2» .
و روى مسلّم عن أبى هريرة- رضي اللّه عنه- عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:
«من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ثلاثا): غير تمام» فقيل لأبى هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك؛ فإنى سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: قال اللّه- تعالى-: «قسمت الصلاة بيني و بين عبدى نصفين، و لعبدي ما سأل»، فإذا قال العبد:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ . قال اللّه: حمدنى عبدى، و إذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . قال اللّه تعالى: أثنى على عبدى. و إذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال اللّه: مجدنى عبدى. فإذا قال:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . قال اللّه: هذا بيني و بين عبدى و لعبدي ما سأل. فإذا قال:
(1) صحيح البخاري. كتاب التفسير. باب ما جاء في فاتحة الكتاب ج 6 ص 21.
(2) أخرجه مسلّم في كتاب: صلاة المسافرين و قصرها ج 2 ص 198.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 14
قال اللّه: «هذا لعبدي و لعبدي ما سأل» «1» .
و أخرج الإمام أحمد في مسنده، عن عبد اللّه بن جابر، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال له: ألا أخبرك بأخير سورة في القرآن؟ قلت: بلى يا رسول اللّه. قال: اقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حتى تختمها «2» .
تلك هي بعض الأحاديث التي وردت في فضل هذه السورة الكريمة.
و قد ذكر العلماء أنه يسن للمسلّم قبل القراءة أن يستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم، استجابة لقوله- تعالى- فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «3» .
و معنى «أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم»: ألتجئ إلى اللّه و أتحصن به، و استجير بجنابه من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياى.
قال ابن كثير: «و الشيطان في لغة العرب كل متمرد من الجن و الإنس و الدواب و كل شيء.
و هو مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع الشر، و بعيد بفسقه عن كل خير.
و قيل: مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار. و الأول أصح إذ عليه يدل كلام العرب، فهم:
يقولون تشيطن فلان إذا فعل أفعال الشيطان، و لو كان من شاط. لقالوا: تشيط، فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح» «4» .
و الرجيم: فعيل بمعنى مفعول أى أنه مرجوم مطرود من رحمة اللّه و من كل خير، و قيل:
رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس و الشكوك.
قال بعض العلماء: «و إنما خصت القراءة بطلب الاستعاذة مع أنه قد أمر بها على وجه العموم في جميع الشئون، لأن القرآن مصدر الهداية و الشيطان مصدر الضلال، فهو يقف للإنسان بالمرصاد في هذا الشأن على وجه خاص، فيثير أمامه ألوانا من الشكوك فيما يقرأ، و فيما يفيد من قراءته، و فيما يقصد بها، فيفوت عليه الانتفاع بهدى اللّه و آياته، فعلمنا اللّه أن نتقي ذلك كله بهذه الاستعاذة التي هي في الواقع عنوان صدق، و تعبير حق، عن امتلاء قلب المؤمن بمعنى اللجوء إلى اللّه، و قوة عزيمته في طرد الوساوس و الشكوك، و استقبال الهداية بقلب طاهر،
(1) أخرجه مسلّم في كتاب الصلاة ج 2 ص 9.
(2) تفسير ابن كثير ج 1 ص 10.
(3) سورة النحل الآية 98.
(4) تفسير ابن كثير ج 1 ص 14.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 15
و عقل واع، و إيمان ثابت» «1» .
قال القرطبي: و قد أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن و لا آية منه، و هو قول القارئ: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم «2» .
و الآن و بعد هذا التمهيد الموجز الذي تكلمنا فيه عن نزول سورة الفاتحة، و عن عدد آياتها، و عن أشهر أسمائها، و عن بعض الأحاديث التي وردت في فضلها نحب أن نبدأ في تفسير السورة الكريمة فنقول- و باللّه التوفيق-:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» الاسم: اللفظ الذي يدل على ذات أو معنى. و قد اختلف النحويون في اشتقاقه على وجهين، فقال البصريون: هو مشتق من السمو، و هو العلو و الرفعة، فقيل: اسم، لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به.
و قال الكوفيون: إنه مشتق من السمة و هي العلامة، لأن الاسم علامة لمن وضع له، فأصل اسم على هذا «وسم».
و يرى المحققون أن رأى البصريين أرجح، لأنه يقال في تصغير «اسم» سمى، و في جمعه أسماء، و التصغير و الجمع يردان الأشياء إلى أصولها. و لو كان أصله وسم- كما قال الكوفيون- لقيل في جمعه: أوسام، و في تصغيره وسيم.
و لفظ الجلالة و هو «اللّه» علم على ذات الخالق- عز و جل- تفرد به- سبحانه- و لا يطلق على غيره، و لا يشاركه فيه أحد.
قال القرطبي: قوله «اللّه» هذا الاسم أكبر أسمائه- سبحانه- و أجمعها حتى قال بعض العلماء: إنه اسم اللّه الأعظم و لم يتسم به غيره، و لذلك لم يثن و لم يجمع: فاللّه اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو- سبحانه- «3» .
و الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ صفتان مشتقتان من الرحمة. و الرحمة في أصل اللغة: رقة في القلب تقتضي الإحسان، و هذا المعنى لا يليق أن يكون وصفا للّه- تعالى- و لذا فسرها بعض العلماء بإرادة الإحسان. و فسرها آخرون بالإحسان نفسه.
(1) تفسير القرآن الكريم ص 16 لفضيلة الإمام الأكبر المرحوم محمود شلتوت.
(2) تفسير القرطبي ج 1 ص 86.
(3) تفسير القرطبي ج 1 ص 102.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 16
و الموافق لمذهب السلف أن يقال: هي صفة قائمة بذاته- تعالى- لا نعرف حقيقتها، و إنما نعرف أثرها الذي هو الإحسان.
و قد كثرت أقوال المفسرين في العلاقة بين هاتين الصفتين، فبعضهم يرى أن الرَّحْمنِ هو المنعم على جميع الخلق. و أن الرَّحِيمِ هو المنعم على المؤمنين خاصة. و يرى آخرون أن الرَّحْمنِ هو المنعم بجلائل النعم، و أن الرَّحِيمِ هو المنعم بدقائقها.
و يرى فريق ثالث أن الوصفين بمعنى واحد و أن الثاني منهما تأكيد للأول. و الذي يراه المحققون من العلماء أن الصفتين ليستا بمعنى واحد، بل روعي في كل منهما معنى لم يراع في الآخر، فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة، لأن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء و عظمته، و يلزم منه الدوام كغضبان و سكران. و الرحيم بمعنى دائم الرحمة، لأن صيغته فعيل تستعمل في الصفات الدائمة ككريم و ظريف. فكأنه قيل: العظيم الرحمة الدائمة «1» .
أو أن الرَّحْمنِ صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة و الإحسان. و الرَّحِيمِ صفة فعل تدل على وصول الرحمة و الإحسان و تعديهما إلى المنعم عليه.
و لعل مما يؤيد ذلك أن لفظ الرحمن لم يذكر في القرآن إلا مجرى عليه الصفات كما هو الشأن في أسماء الذات. قال- تعالى-: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ و الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ، قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ، و هكذا ...
أما لفظ الرحيم فقد كثر في القرآن استعماله وصفا فعليا، و جاء في الغالب بأسلوب التعدية و التعلق بالمنعم عليه. قال- تعالى- إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ* - وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ، إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً إلخ.
قال بعض العلماء «و هذا الرأى في نظرنا هو أقوى الآراء، فإن تخصيص أحد الوصفين بدقائق النعم أو ببعض المنعم عليهم لا دليل عليه، كما أنه ليس مستساغا أن يقال في القرآن:
إن كلمة ذكرت بعد أخرى لمجرد تأكيد المعنى المستفاد منها» «2» .
و الجار و المجرور «بسم» متعلق بمحذوف تقديره ابتدئ.
و المعنى: ابتدئ قراءتي متبركا و متيمنا باسم اللّه الذي هو الأول و الآخر، و الظاهر و الباطن، و الذي رحمته وسعت كل شيء، و أتبرأ مما كان يفعله المشركون و الضالون، من ابتدائهم قراءتهم و أفعالهم باسم اللات أو باسم العزى أو باسم غيرهما من الآلهة الباطلة.
(1) تفسير سورة الفاتحة لفضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين. مجلة لواء الإسلام العدد الأول من السنة الأولى ص 8.
(2) تفسير القرآن العظيم ص 24 لفضيلة المرحوم الشيخ محمود شلتوت.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 17
هذا و قد أجمع العلماء على أن البسملة جزء آية من سورة النمل في قوله- تعالى- إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ .
ثم اختلفوا بعد ذلك في كونها آية مستقلة أنزلت للفصل بين السور مرة واحدة، أو هي آية من سورة الفاتحة و من كل سورة إلخ.
فبعضهم يرى أن البسملة آية من الفاتحة و من كل سورة، و من حججهم أن السلف قد أثبتوها في المصحف مع الأمر بتجريد القرآن مما ليس منه، و لذا لم يكتبوا «آمين». فثبت بهذا أن البسملة جزء من الفاتحة و من كل سورة.
و بهذا الرأى قال ابن عباس و ابن عمر و أبو هريرة و سعيد بن جبير و الشافعى، و أحمد في أحد قوليه.
و يرى آخرون أن البسملة ليست آية من الفاتحة و لا من غيرها من السور، و قالوا: إنها آية فذة «1» . من القرآن أنزلت للفصل و التبرك للابتداء بها، و من حججهم أنها لو كانت آية من الفاتحة و من كل سورة، لما اختلف الناس في ذلك، و لما اضطربت أقوالهم في كونها آية من كل سورة أو من الفاتحة فقط.
و كما وقع الخلاف بين العلماء في كونها آية مستقلة أو آية من كل سورة، فقد وقع الخلاف بينهم- أيضا- في وجوب قراءتها في الصلاة، و في الجهر بها أو الإسرار إذا قرئت.
و تحقيق القول في ذلك مرجعه إلى كتب الفقه، و إلى كتب التفسير التي عنيت بتفسير آيات الأحكام.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها.
رَبِّ الْعالَمِينَ أى: مالكهم، إذ الرب مصدر «ربه يربه» إذا تعاهده بالتربية حتى يبلغ به شيئا فشيئا درجة الكمال. و هو اسم من أسماء اللّه- تعالى- و لا يطلق على غيره إلا مقيدا فيقال: رب الدار، و رب الضيعة أى: صاحبها و مالكها.
و العالمين: جمع عالم، و هو كل موجود سوى اللّه- تعالى- قال القرطبي: «و هو مأخوذ من العلم و العلامة لأنه يدل على موجده» و قيل: المراد بالعالمين أولو العلم من الإنس و الجن و الملائكة.
(1) فذة: مفردة مستقلة.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 18
و قد افتتحت سورة الفاتحة بهذه الجملة الكريمة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لأنه سبحانه أول كل شيء و آخر كل شيء، و لكي يعلمنا- سبحانه- أن نبدأ كتبنا و خطبنا بالحمد و الثناء عليه، حتى نبدأ و نحن في صلة باللّه تكشف عن النفوس أغشيتها، و تجلو عن القلوب أصداءها.
و المعنى- كما قال ابن جرير- «الشكر خالصا للّه- جل ثناؤه- دون سائر ما يعبد من دونه، و دون كل ما برأ من خلقه بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد. و لا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، و تمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، و غذاهم به من نعيم العيش، عن غير استحقاق لهم عليه، و مع ما نبههم عليه و دعاهم إليه، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم. لربنا الحمد على ذلك كله أولا و آخرا «1» .
فالآية الكريمة قد قررت بصراحة و وضوح ثبوت الثناء المطلق الذي لا يحد للّه- تعالى- و إنه ليس لأحد أن ينازعه إياه- سبحانه- هو رب العالمين.
و جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ مفيدة لقصر الحمد عليه- سبحانه- نحو قولهم: «الكرم في العرب».
كما أن أل في «الحمد» للاستغراق. أى: أن جميع أجناس الحمد ثابتة للّه رب العالمين.
و إنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على اللّه، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه و مرجعه إليه، إذ هو الخالق لكل شيء، و ما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو في الحقيقة حمد للّه، لأنه- سبحانه- هو الذي وفقهم لذلك و أعانهم عليه.
و لم تفتتح السورة بصيغة الأمر بأن يقال: احمدوا اللّه، و إنما افتتحت بصيغة الخبر الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لأن الأمر يقتضى التكليف: و التكليف قد تنفر منه النفوس أحيانا، فأراد- سبحانه- و هو يبادئهم بشرعة جديدة و تكاليف لم يعهدوها، أن يؤنس نفوسهم، و يؤلف قلوبهم، فساق لهم الخطاب بصيغة الخبر، ترفقا بهم، حتى يديموا الإصغاء لما سيلقيه عليهم من تكاليف.
و قد تكلم بعض المفسرين عن الحكمة في ابتداء السورة الكريمة بقوله- تعالى- الْحَمْدُ لِلَّهِ ، دون قوله- تعالى-: المدح للّه، أو: الشكر للّه. فقال:
اعلم أن المدح أعم من الحمد، و الحمد أعم من الشكر. أما بيان أن المدح أعم من الحمد فلأن المدح يحصل للعاقل و غير العاقل، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله، فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله. أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام و الإحسان، فثبت أن المدح أعم من الحمد.
(1) تفسير ابن جرير ج 1 ص 135 طبعة دار المعارف.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 19
و أما بيان أن الحمد أعم من الشكر، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام. سواء أ كان ذلك الإنعام و أصلا إليك أم إلى غيرك. و أما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك، فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد، و أن الحمد أعم من الشكر.
إذا عرفت هذا فنقول: إنما لم يقل: المدح للّه، لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره. و أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار. فكان قوله «الحمد للّه» تصريحا بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة و المشيئة ... و إنما لم يقل: الشكر للّه، لأننا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه و وصل إليك، و هذا يشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة. فحينئذ يكون المطلوب الأصلى له وصول النعمة إليه. و هذه درجة حقيرة. فأما إذا قال «الحمد للّه»، فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه- سبحانه- أوصل النعمة إليه، فيكون الإخلاص أكمل، و استغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم، و انقطاعه عما سوى الحق أقوى و أثبت «1» .
و قد أجرى- سبحانه- على لفظ الجلالة نعت الربوبية للعالمين، ليكون كالاستدلال على استحقاقه- تعالى- للحمد وحده، و في ذلك إشعار لعباده بأنهم مكرمون من ربهم، إذ الأمر بغير توجيه فيه إيماء إلى إهمال عقولهم، أما إذا كان موجها و معللا فإنه يكون فيه إشعار لهم برعاية ناحية العقل فيهم، و في تلك الرعاية تشريف و تكريم لهم.
فكأنه- سبحانه- يقول لهم: اجعلوا حمدكم و ثناءكم لي وحدي. لأنى أنا رب العالمين.
و أنا الذي تعهدتكم برعايتي و عنايتي و تربيتي منذ تكوينكم من الطين حتى استويتم عقلاء مفكرين.
و قد أتبع- سبحانه- هذا الوصف و هو رَبِّ الْعالَمِينَ ، بوصف آخر هو الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لحكم سامية من أبرزها: أن وصفه- تعالى- رَبِّ الْعالَمِينَ أى: مالكهم، قد يثير في النفوس شيئا من الخوف أو الرهبة، فإن المربى قد يكون خشنا جبارا متعنتا، و ذلك مما يخدش من جميل التربية، و ينقص من فضل التعهد.
لذا قرن- سبحانه- كونه مربيا، بكونه الرحمن الرحيم، لينفى بذلك هذا الاحتمال، و ليفهم عباده بأن ربوبيته لهم مصدرها عموم رحمته و شمول إحسانه، فهم برحمته يوجدون، و برحمته يتصرفون و يرزقون، و برحمته يبعثون و يسألون.