کتابخانه تفاسیر
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 18
و قد افتتحت سورة الفاتحة بهذه الجملة الكريمة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لأنه سبحانه أول كل شيء و آخر كل شيء، و لكي يعلمنا- سبحانه- أن نبدأ كتبنا و خطبنا بالحمد و الثناء عليه، حتى نبدأ و نحن في صلة باللّه تكشف عن النفوس أغشيتها، و تجلو عن القلوب أصداءها.
و المعنى- كما قال ابن جرير- «الشكر خالصا للّه- جل ثناؤه- دون سائر ما يعبد من دونه، و دون كل ما برأ من خلقه بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد. و لا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، و تمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، و غذاهم به من نعيم العيش، عن غير استحقاق لهم عليه، و مع ما نبههم عليه و دعاهم إليه، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم. لربنا الحمد على ذلك كله أولا و آخرا «1» .
فالآية الكريمة قد قررت بصراحة و وضوح ثبوت الثناء المطلق الذي لا يحد للّه- تعالى- و إنه ليس لأحد أن ينازعه إياه- سبحانه- هو رب العالمين.
و جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ مفيدة لقصر الحمد عليه- سبحانه- نحو قولهم: «الكرم في العرب».
كما أن أل في «الحمد» للاستغراق. أى: أن جميع أجناس الحمد ثابتة للّه رب العالمين.
و إنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على اللّه، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه و مرجعه إليه، إذ هو الخالق لكل شيء، و ما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو في الحقيقة حمد للّه، لأنه- سبحانه- هو الذي وفقهم لذلك و أعانهم عليه.
و لم تفتتح السورة بصيغة الأمر بأن يقال: احمدوا اللّه، و إنما افتتحت بصيغة الخبر الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لأن الأمر يقتضى التكليف: و التكليف قد تنفر منه النفوس أحيانا، فأراد- سبحانه- و هو يبادئهم بشرعة جديدة و تكاليف لم يعهدوها، أن يؤنس نفوسهم، و يؤلف قلوبهم، فساق لهم الخطاب بصيغة الخبر، ترفقا بهم، حتى يديموا الإصغاء لما سيلقيه عليهم من تكاليف.
و قد تكلم بعض المفسرين عن الحكمة في ابتداء السورة الكريمة بقوله- تعالى- الْحَمْدُ لِلَّهِ ، دون قوله- تعالى-: المدح للّه، أو: الشكر للّه. فقال:
اعلم أن المدح أعم من الحمد، و الحمد أعم من الشكر. أما بيان أن المدح أعم من الحمد فلأن المدح يحصل للعاقل و غير العاقل، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله، فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله. أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام و الإحسان، فثبت أن المدح أعم من الحمد.
(1) تفسير ابن جرير ج 1 ص 135 طبعة دار المعارف.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 19
و أما بيان أن الحمد أعم من الشكر، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام. سواء أ كان ذلك الإنعام و أصلا إليك أم إلى غيرك. و أما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك، فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد، و أن الحمد أعم من الشكر.
إذا عرفت هذا فنقول: إنما لم يقل: المدح للّه، لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره. و أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار. فكان قوله «الحمد للّه» تصريحا بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة و المشيئة ... و إنما لم يقل: الشكر للّه، لأننا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه و وصل إليك، و هذا يشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة. فحينئذ يكون المطلوب الأصلى له وصول النعمة إليه. و هذه درجة حقيرة. فأما إذا قال «الحمد للّه»، فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه- سبحانه- أوصل النعمة إليه، فيكون الإخلاص أكمل، و استغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم، و انقطاعه عما سوى الحق أقوى و أثبت «1» .
و قد أجرى- سبحانه- على لفظ الجلالة نعت الربوبية للعالمين، ليكون كالاستدلال على استحقاقه- تعالى- للحمد وحده، و في ذلك إشعار لعباده بأنهم مكرمون من ربهم، إذ الأمر بغير توجيه فيه إيماء إلى إهمال عقولهم، أما إذا كان موجها و معللا فإنه يكون فيه إشعار لهم برعاية ناحية العقل فيهم، و في تلك الرعاية تشريف و تكريم لهم.
فكأنه- سبحانه- يقول لهم: اجعلوا حمدكم و ثناءكم لي وحدي. لأنى أنا رب العالمين.
و أنا الذي تعهدتكم برعايتي و عنايتي و تربيتي منذ تكوينكم من الطين حتى استويتم عقلاء مفكرين.
و قد أتبع- سبحانه- هذا الوصف و هو رَبِّ الْعالَمِينَ ، بوصف آخر هو الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لحكم سامية من أبرزها: أن وصفه- تعالى- رَبِّ الْعالَمِينَ أى: مالكهم، قد يثير في النفوس شيئا من الخوف أو الرهبة، فإن المربى قد يكون خشنا جبارا متعنتا، و ذلك مما يخدش من جميل التربية، و ينقص من فضل التعهد.
لذا قرن- سبحانه- كونه مربيا، بكونه الرحمن الرحيم، لينفى بذلك هذا الاحتمال، و ليفهم عباده بأن ربوبيته لهم مصدرها عموم رحمته و شمول إحسانه، فهم برحمته يوجدون، و برحمته يتصرفون و يرزقون، و برحمته يبعثون و يسألون.
(1) تفسير الفخر الرازي ج 4 ص 3 طبعة المطبعة الشرقية سنة 1334 ه.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 20
و لا شك أن في هذا الإفهام تحريضا لهم على حمده و عبادته بقلوب مطمئنة، و نفوس مبتهجة، و دعوة لهم إلى أن يقيموا حياتهم على الرحمة و الإحسان، لا على الجبروت و الطغيان، فالراحمون يرحمهم الرحمن.
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بعد أن بين- سبحانه- لعباده موجبات حمده، و أنه الجدير وحده بالحمد، لأنه المربى الرحيم، و المنعم الكريم، أتبع ذلك ببيان أنه- سبحانه- مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ .
و المالك وصف من الملك- بكسر الميم- بمعنى حيازة الشيء مع القدرة على التصرف فيه.
و اليوم في العرف: ما يكون من طلوع الشمس إلى غروبها، و ليس هذا مرادا هنا، و إنما المراد مطلق الزمن و هو يوم القيامة.
و الدين: الجزاء و الحساب، يقال: دنته بما صنع، أى: جازيته على صنيعه، و منه قولهم.
كما تدين تدان. أى: كما تفعل تجازى، و في الحديث (الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت) أى: حاسب نفسه: و المعنى: أنه- تعالى- يتصرف في أمور يوم الدين من حساب و ثواب و عقاب، تصرف المالك فيما يملك، كما قال- تعالى- يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ .
و هناك قراءة أخرى للآية و هي ملك يوم الدين من الملك- بضم الميم- و عليها يكون المعنى: أنه- تعالى- هو المدبر لأمور يوم الدين، و أن له على ذلك اليوم هيمنة الملوك و سيطرتهم، فكل شيء في ذلك اليوم يجرى بأمره، و كل تصرف فيه ينفذ باسمه، كما قال- تعالى- لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ .
قال الإمام ابن كثير: «و تخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه، لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين، و ذلك عام في الدنيا و الآخرة. و إنما أضيف إلى يوم الدين، لأنه لا يدعى أحد هنالك شيئا، و لا يتكلم أحد إلا بإذنه، كما قال- تعالى- يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا. لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً .
و الملك في الحقيقة هو اللّه، قال- تعالى- هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ و في الصحيحين عن أبى هريرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: «يقبض اللّه الأرض، و يطوى السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون، أين المتكبرون» ثم قال: و أما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال- تعالى- إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً «1» .
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 25.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 21
و في هذه الأوصاف التي أجريت على اللّه تعالى، من كونه ربا للعالمين و ملكا للأمر كله يوم الجزاء، بعد الدلالة على اختصاص الحمد به في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ في كل ذلك دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه للحمد و الثناء عليه، بل لا يستحق ذلك على الحقيقة سواه، فإن ترتب الحكم على الوصف مشعر بعليته له» «1» .
و المتدبر لهذه الآية الكريمة يراها خير وسيلة لتربية الإنسان و غرس الإيمان العميق في قلبه، لأنه إذا آمن بأن هناك يوما يظهر فيه إحسان المحسن و إساءة المسيء، و أن زمام الحكم في ذلك اليوم للّه الواحد القهار، فإنه في هذه الحالة سيقوى عنده خلق المراقبة لخالقه، و يجتهد في السير على الطريق المستقيم.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ كانت الآيات الثلاث التي تقدمت هذه الآية تقريرا للحقيقة في جانب الربوبية و عظمتها و عموم سلطانها وسعة رحمتها تقريرا جمع أمور الدنيا و الآخرة ثم جاءت هذه الآية لتقرر أن الذي يجدر بنا أن نعبده و أن نستعين به إنما هو اللّه الذي تجلت أوصافه، و وضحت عظمته، و ثبتت هيمنته على هذا الكون.
و لفظ «إيا» ضمير منفصل، و «الكاف» الملحقة به للخطاب.
و العبارة تفيد أن الطاعة البالغة حد النهاية في الخضوع و الخشوع و التعظيم، و العبادة الصحيحة تتأتى للمسلّم بتحقق أمرين: إخلاصها للّه، و موافقتها لما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
قال ابن جرير: «لأن العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة، و أنها تسمى الطريق المذلل الذي وطئته الأقدام و ذللته السابلة معبدا» «2» .
و الاستعانة: طلب المعونة، من أجل الاقتدار على الشيء و التمكن من فعله.
و المعنى: لك يا ربنا وحدك نخشع و نذل و نستكين، فقد توليتنا برعايتك و غمرتنا برحمتك، فنحن نخصك بطلب الإعانة على طاعتك و على أمورنا كلها، و لا نتوجه بهذا الطلب إلى أحد سواك، فأنت المستحق للعبادة، و أنت القدير على كل شيء، و العليم ببواطن الأمور و ظواهرها، لا تخفى عليك طوية، و لا تتوارى عنك نية.
و قدم- سبحانه- المعبود على العبادة فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، لإفادة قصر العبادة عليه، و هو ما يقتضيه التوحيد الخالص.
(1) «فتح البيان ج 1 ص 29. الشيخ صديق حسن خان.
(2) تفسير ابن جرير ج 1 ص 191.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 22
و قال: نَعْبُدُ بنون الجماعة و لم يقل أعبد، ليدل على أن العبادة أحسن ما تكون في جماعة المؤمنين، و للإشعار بأن المؤمنين المخلصين يكونون في اتحادهم و إخائهم بحيث يقوم كل واحد منهم في الحديث عن شئونهم الظاهرة و غير الظاهرة مقام جميعهم، فهم كما قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:
«المؤمنون تتكافأ دماؤهم، و يسعى بذمتهم أدناهم، و هم يد على من سواهم».
و قدمت العبادة على الاستعانة، لكون الأولى وسيلة إلى الثانية. و تقديم الوسائل سبب في تحصيل المطالب، و ليدل على أنهم لا يستقلون بإقامة العبادات، بل إن عون اللّه هو الذي ييسر لهم أداءها.
و لم يذكر المستعان عليه من الأعمال، ليشمل الطلب كل ما تتجه إليه نفس الإنسان من الأعمال الصالحة.
و جاءت الآية الكريمة بأسلوب الخطاب على طريقة الالتفات، تلوينا لنظم الكلام من أسلوب إلى أسلوب. و قد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال: «فإن قلت: لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلت: هذا يسمى الالتفات في علم البيان. و هو قد يكون من الغيبة إلى الخطاب، و من الخطاب إلى الغيبة، و من الغيبة إلى التكلم ... و ذلك على عادة العرب في افتنانهم في الكلام و تصرفهم فيه. لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، و إيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد: و قد تختص مواضعه بفوائد. و مما اختص به هذا الموضع: أنه لما ذكر الحقيق بالحمد، و أجرى عليه تلك الصفات العظام، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بالثناء و غاية للخضوع و الاستعانة في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل: إياك يا من هذه صفاته نخصك بالعبادة و الاستعانة، و لا نعبد غيرك و لا نستعينه ...» «1» .
هذا، و قد جاءت في فضل هذه الآية الكريمة آثار متعددة، و من ذلك قول بعض العلماء:
الفاتحة سر القرآن، و سرها هذه الكلمة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فالأول تبرؤ من الشرك، و الثاني تبرؤ من الحول و القوة و التفويض إلى اللّه» «2» .
ثم بين- سبحانه- أن أفضل شيء يطلبه العبد من ربه، إنما هو هدايته إلى الطريق الذي يوصل إلى أسمى الغايات، و أعظم المقاصد، فقال- تعالى-:
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 13 طبعة بيروت.
(2) تفسير ابن كثير ج 1 ص 25 طبعة الحلبي.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 23
و الهداية: هي الإرشاد و الدلالة بلطف على ما يوصل إلى البغية، و تسند الهداية إلى اللّه و إلى النبي و إلى القرآن، و قد يراد منها الإيصال إلى ما فيه خير، و هي بهذا المعنى لا تضاف إلى اللّه- تعالى-.
قال أبو حيان في البحر ما ملخصه: و قد تأتى بمعنى التبيين كما في قوله- تعالى- وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أى بينا لهم طريق الخير. أو بمعنى الإلهام كما في قوله تعالى. قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟ قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى . قال المفسرون معناه: ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها، أو بمعنى الدعاء كما في قوله. تعالى: وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أى: داع.
و الأصل في هدى أن يصل إلى ثانى معموليه باللام كما في قوله. تعالى. إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أو بإلى كما في قوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ثم يتسع فيه فيعدى إليه بنفسه و منه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «1» .
و الصراط: الجادة و الطريق، من سرط الشيء إذا ابتلعه، و سمى الطريق بذلك لأنه يبتلع المارين فيه، و تبدل سينه صاد على لغة قريش.
و المستقيم: المعتدل الذي لا اعوجاج فيه.
و أنعمت عليهم: النعمة لين العيش و خفضه، و نعم اللّه كثيرة لا تحصى غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الغضب هيجان النفس و ثورتها، عند الميل إلى الانتقام، و هو ضد الرضا. و إذا أسند إلى اللّه فسر بمعنى إرادة الانتقام أو بمعنى الانتقام نفسه.
و الموافق لمذهب السلف أن يقال: هو صفة له- تعالى- لائقة بجلاله لا نعلم حقيقتها مجردة عن اللوازم البشرية و إنما نعرف أثرها و هو الانتقام من العصاة، و إنزال العقوبة بهم.
و المعنى: اهدنا يا ربنا إلى طريقك المستقيم، الذي يوصلنا إلى سعادة الدنيا و الآخرة، و يجعلنا مع الذين أنعمت عليهم من خلقك، و جنبنا يا مولانا طريق الذين غضبت عليهم من الأمم السابقة أو الأجيال اللاحقة بسبب سوء أعمالهم و طريق الذين هاموا في الضلالات، فانحرفوا عن القصد، و حق عليهم العذاب.
و في هذا الدعاء أسمى ألوان الأدب، لأن هذا الدعاء قد تضرع به المؤمنون إلى خالقهم بعد أن اعترفوا له- سبحانه- قبل ذلك بأنه هو المستحق لجميع المحامد، و أنه هو رب العالمين، و المتصرف في أحوالهم يوم الدين.
قال الإمام ابن كثير: و هذا أكمل أحوال السائل. أن يمدح مسئوله ثم يسأل حاجته و حاجة
(1) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج 1 ص 25.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 24
إخوانه المؤمنين بقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ لأنه أنجح للحاجة، و أنجع للإجابة، و لهذا أرشدنا اللّه إليه لأنه الأكمل «1» .
و قد تكلم المفسرون كلاما كثيرا عن المراد بالصراط المستقيم الذي جعل اللّه طلب الهداية إليه في هذا السورة أول دعوة علمها لعباده. و الذي نراه: أن أجمع الأقوال في ذلك أن المراد بالصراط المستقيم، هو ما جاء به الإسلام من عقائد و آداب و أحكام، توصل الناس متى اتبعوها إلى سعادة الدنيا و الآخرة، فإن طريق السلام هو الطريق الذي ختم اللّه به الرسالات السماوية، و جعل القرآن دستوره الشامل، و وكل إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أمر تبليغه و بيانه.
و قد ورد في الأحاديث النبوية ما يؤيد هذا القول، و من ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، عن النواس بن سمعان، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: «ضرب اللّه مثلا صراطا مستقيما، و على جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، و على الأبواب ستور مرخاة، و على باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا و لا تعوجوا، و داع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال له: و يحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، و السوران حدود اللّه، و الأبواب المفتحة محارم اللّه، و ذلك الداعي من فوق الصراط واعظ اللّه في قلب كل مسلّم».
و المراد بقوله- تعالى- اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أى: ثبتنا عليه، و اجعلنا من المداومين على السير في سبيله، فإن العبد مفتقر إلى اللّه في كل وقت لكي يثبته على الهداية، و يزيده منها، و يعينه عليها. و قد أمر سبحانه المؤمنين أن يقولوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ .
و جملة صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بدل من الصراط المستقيم.
و لم يقل: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم مستغنيا عن ذكر الصراط المستقيم، ليدل أن صراط هؤلاء المنعم عليهم هو الصراط المستقيم.
و قال: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و لم يقل صراط الأنبياء أو الصالحين، ليدل على أن الدين في ذاته نعمة عظيمة، و يكفى للدلالة على عظمتها إسنادها إليه- تعالى- في قوله:
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لأن المراد بالإنعام هنا- على الراجح- الإنعام الديني. فالمنعم عليهم هم من عرفوا الحق فتمسكوا به، و عرفوا الخير فعملوا به.
قال بعض العلماء: (و إنما اختار في البيان أن يضيف الصراط إلى المنعم عليهم لمعنيين: