کتابخانه تفاسیر
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 22
و قال: نَعْبُدُ بنون الجماعة و لم يقل أعبد، ليدل على أن العبادة أحسن ما تكون في جماعة المؤمنين، و للإشعار بأن المؤمنين المخلصين يكونون في اتحادهم و إخائهم بحيث يقوم كل واحد منهم في الحديث عن شئونهم الظاهرة و غير الظاهرة مقام جميعهم، فهم كما قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:
«المؤمنون تتكافأ دماؤهم، و يسعى بذمتهم أدناهم، و هم يد على من سواهم».
و قدمت العبادة على الاستعانة، لكون الأولى وسيلة إلى الثانية. و تقديم الوسائل سبب في تحصيل المطالب، و ليدل على أنهم لا يستقلون بإقامة العبادات، بل إن عون اللّه هو الذي ييسر لهم أداءها.
و لم يذكر المستعان عليه من الأعمال، ليشمل الطلب كل ما تتجه إليه نفس الإنسان من الأعمال الصالحة.
و جاءت الآية الكريمة بأسلوب الخطاب على طريقة الالتفات، تلوينا لنظم الكلام من أسلوب إلى أسلوب. و قد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال: «فإن قلت: لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلت: هذا يسمى الالتفات في علم البيان. و هو قد يكون من الغيبة إلى الخطاب، و من الخطاب إلى الغيبة، و من الغيبة إلى التكلم ... و ذلك على عادة العرب في افتنانهم في الكلام و تصرفهم فيه. لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، و إيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد: و قد تختص مواضعه بفوائد. و مما اختص به هذا الموضع: أنه لما ذكر الحقيق بالحمد، و أجرى عليه تلك الصفات العظام، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بالثناء و غاية للخضوع و الاستعانة في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل: إياك يا من هذه صفاته نخصك بالعبادة و الاستعانة، و لا نعبد غيرك و لا نستعينه ...» «1» .
هذا، و قد جاءت في فضل هذه الآية الكريمة آثار متعددة، و من ذلك قول بعض العلماء:
الفاتحة سر القرآن، و سرها هذه الكلمة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فالأول تبرؤ من الشرك، و الثاني تبرؤ من الحول و القوة و التفويض إلى اللّه» «2» .
ثم بين- سبحانه- أن أفضل شيء يطلبه العبد من ربه، إنما هو هدايته إلى الطريق الذي يوصل إلى أسمى الغايات، و أعظم المقاصد، فقال- تعالى-:
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 13 طبعة بيروت.
(2) تفسير ابن كثير ج 1 ص 25 طبعة الحلبي.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 23
و الهداية: هي الإرشاد و الدلالة بلطف على ما يوصل إلى البغية، و تسند الهداية إلى اللّه و إلى النبي و إلى القرآن، و قد يراد منها الإيصال إلى ما فيه خير، و هي بهذا المعنى لا تضاف إلى اللّه- تعالى-.
قال أبو حيان في البحر ما ملخصه: و قد تأتى بمعنى التبيين كما في قوله- تعالى- وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أى بينا لهم طريق الخير. أو بمعنى الإلهام كما في قوله تعالى. قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟ قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى . قال المفسرون معناه: ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها، أو بمعنى الدعاء كما في قوله. تعالى: وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أى: داع.
و الأصل في هدى أن يصل إلى ثانى معموليه باللام كما في قوله. تعالى. إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أو بإلى كما في قوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ثم يتسع فيه فيعدى إليه بنفسه و منه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «1» .
و الصراط: الجادة و الطريق، من سرط الشيء إذا ابتلعه، و سمى الطريق بذلك لأنه يبتلع المارين فيه، و تبدل سينه صاد على لغة قريش.
و المستقيم: المعتدل الذي لا اعوجاج فيه.
و أنعمت عليهم: النعمة لين العيش و خفضه، و نعم اللّه كثيرة لا تحصى غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الغضب هيجان النفس و ثورتها، عند الميل إلى الانتقام، و هو ضد الرضا. و إذا أسند إلى اللّه فسر بمعنى إرادة الانتقام أو بمعنى الانتقام نفسه.
و الموافق لمذهب السلف أن يقال: هو صفة له- تعالى- لائقة بجلاله لا نعلم حقيقتها مجردة عن اللوازم البشرية و إنما نعرف أثرها و هو الانتقام من العصاة، و إنزال العقوبة بهم.
و المعنى: اهدنا يا ربنا إلى طريقك المستقيم، الذي يوصلنا إلى سعادة الدنيا و الآخرة، و يجعلنا مع الذين أنعمت عليهم من خلقك، و جنبنا يا مولانا طريق الذين غضبت عليهم من الأمم السابقة أو الأجيال اللاحقة بسبب سوء أعمالهم و طريق الذين هاموا في الضلالات، فانحرفوا عن القصد، و حق عليهم العذاب.
و في هذا الدعاء أسمى ألوان الأدب، لأن هذا الدعاء قد تضرع به المؤمنون إلى خالقهم بعد أن اعترفوا له- سبحانه- قبل ذلك بأنه هو المستحق لجميع المحامد، و أنه هو رب العالمين، و المتصرف في أحوالهم يوم الدين.
قال الإمام ابن كثير: و هذا أكمل أحوال السائل. أن يمدح مسئوله ثم يسأل حاجته و حاجة
(1) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج 1 ص 25.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 24
إخوانه المؤمنين بقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ لأنه أنجح للحاجة، و أنجع للإجابة، و لهذا أرشدنا اللّه إليه لأنه الأكمل «1» .
و قد تكلم المفسرون كلاما كثيرا عن المراد بالصراط المستقيم الذي جعل اللّه طلب الهداية إليه في هذا السورة أول دعوة علمها لعباده. و الذي نراه: أن أجمع الأقوال في ذلك أن المراد بالصراط المستقيم، هو ما جاء به الإسلام من عقائد و آداب و أحكام، توصل الناس متى اتبعوها إلى سعادة الدنيا و الآخرة، فإن طريق السلام هو الطريق الذي ختم اللّه به الرسالات السماوية، و جعل القرآن دستوره الشامل، و وكل إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أمر تبليغه و بيانه.
و قد ورد في الأحاديث النبوية ما يؤيد هذا القول، و من ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، عن النواس بن سمعان، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: «ضرب اللّه مثلا صراطا مستقيما، و على جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، و على الأبواب ستور مرخاة، و على باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا و لا تعوجوا، و داع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال له: و يحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، و السوران حدود اللّه، و الأبواب المفتحة محارم اللّه، و ذلك الداعي من فوق الصراط واعظ اللّه في قلب كل مسلّم».
و المراد بقوله- تعالى- اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أى: ثبتنا عليه، و اجعلنا من المداومين على السير في سبيله، فإن العبد مفتقر إلى اللّه في كل وقت لكي يثبته على الهداية، و يزيده منها، و يعينه عليها. و قد أمر سبحانه المؤمنين أن يقولوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ .
و جملة صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بدل من الصراط المستقيم.
و لم يقل: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم مستغنيا عن ذكر الصراط المستقيم، ليدل أن صراط هؤلاء المنعم عليهم هو الصراط المستقيم.
و قال: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و لم يقل صراط الأنبياء أو الصالحين، ليدل على أن الدين في ذاته نعمة عظيمة، و يكفى للدلالة على عظمتها إسنادها إليه- تعالى- في قوله:
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لأن المراد بالإنعام هنا- على الراجح- الإنعام الديني. فالمنعم عليهم هم من عرفوا الحق فتمسكوا به، و عرفوا الخير فعملوا به.
قال بعض العلماء: (و إنما اختار في البيان أن يضيف الصراط إلى المنعم عليهم لمعنيين:
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 26.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 25
أولهما: هو إبراز نفسية المحب المخلص، و أنه يكون شديد الاحتياط دقيق التحري عن الطريق الموصل إلى ساحة الرضا في ثقة تملأ نفسه، و تفعم قلبه، و لا يجد في مثل هذا المقام ما يملأ نفسه ثقة إلا أن يبين الطريق، بأنه الطريق الذي وصل بالسير عليه من قبله الأنبياء و الصديقون و الشهداء و الصالحون.
و ثانيهما: أن من خواطر المؤمل في نعيم ربه أن يكون تمام أنسه في رفقة من الناس صالحين، و صحب منهم محسنين «1» .
و قوله- تعالى- غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدل من الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و أتى في وصف الإنعام بالفعل المسند إلى اللّه- تعالى- فقال: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و في وصف الغضب باسم المفعول فقال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ و في ذلك تعليم لأدب جميل، و هو أن الإنسان يجمل به أن يسند أفعال الإحسان إلى اللّه، و يتحامى أن يسند إليه أفعال العقاب و الابتلاء، و إن كان كل من الإحسان و العقاب صادرا منه، و من شواهد هذا قوله- تعالى- حكاية عن مؤمنى الجن وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً «2» .
و حرف (لا) في قوله وَ لَا الضَّالِّينَ جيء به لتأكيد معنى النفي المستفاد من كلمة غير.
و المراد بالمغضوب عليهم اليهود. و بالضالين النصارى. و قد ورد هذا التفسير عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في حديث رواه الإمام أحمد في مسنده و ابن حبان في صحيحه.
و من المفسرين من قال بأن المراد بالمغضوب عليهم من فسدت إرادتهم حيث علموا الحق و لكنهم تركوه عنادا و جحودا، و أن المراد بالضالين من فقدوا العلم فهم تائهون في الضلالات دون أن يهتدوا إلى طريق قويم.
و قدم المغضوب عليهم على الضالين، لأن معنى المغضوب عليهم كالضد لمعنى المنعم عليهم، و لأن المقابلة بينهما أوضح منها بين المنعم عليهم و الضالين، فكان جديرا بأن يوضع في مقابلته قبل الضالين.
قال العلماء: و يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها (آمين) و معناه اللهم استجب و ليس هذا اللفظ من القرآن بدليل أنه لم يثبت في المصاحف و الدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي عن وائل بن حجر قال: سمعت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ فقال: (آمين) مد بها صوته.
(1) تفسير سورة الفاتحة لفضيلة الأستاذ الشيخ حامد محيسن بمجلة الأزهر السنة 22 العدد 13 ص 885
(2) تفسير سورة الفاتحة لفضيلة الإمام الأكبر المرحوم محمد الخضر حسين بمجلة لواء الإسلام العدد الأول من سنة الأولى ص 10.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 26
و في الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه».
هذا، و قد أفاض العلماء في الحديث عما اشتملت عليه سورة الفاتحة من آداب و عقائد و عبادات و أحكام، و من ذلك قول ابن كثير.
(اشتملت هذه السورة الكريمة، و هي سبع آيات- على حمد اللّه و تمجيده و الثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، و على ذكر المعاد و هو يوم الدين، و على إرشاد عبيده إلى سؤاله و التضرع إليه و التبري من حولهم و قوتهم، إلى إخلاص العبادة له و توحيده بالألوهية، و تنزيهه عن أن يكون له شريك أو نظير، و إلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم، و هو الدين القويم و تثبيتهم عليه، و اشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، و التحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، و هم المغضوب عليهم و الضالون) «1» .
و قال بعض العلماء: سورة الفاتحة مشتملة على أربعة أنواع من العلوم هي مناط الدين.
أحدها: علم الأصول و إليه الإشارة بقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، و معرفة النبوات و إليه الإشارة بقوله: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و معرفة المعاد و إليه الإشارة بقوله مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ .
و ثانيها: علم الفروع و أعظمه العبادات و إليه الإشارة بقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ .
و ثالثها: علم الأخلاق، و إليه الإشارة بقوله وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ .
و رابعها: علم القصص و الأخبار عن الأمم السابقة السعداء منهم و الأشقياء، و هو المراد بقوله صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ .
و صلّى اللّه على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلّم.
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 30.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 27
سورة البقرة
سورة البقرة أطول سورة في القرآن الكريم، فقد استغرقت جزءين و نصف جزء تقريبا من ثلاثين جزءا قسم إليها القرآن. و تبلغ آياتها ستا و ثمانين و مائتي آية. و قيل سبع و ثمانون و مائتا آية.
و سميت بذلك لأنها انفردت بذكر قصة البقرة التي كلف قوم موسى بذبحها بعد أن قتل فيهم قتيل و لم يعرفوا قاتله.
و هي مدنية بإجماع الآراء، و قد ابتدأ نزولها بعد هجرة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إلى المدينة، و قد نزل معظمها في السنوات الأولى من الهجرة، و استمر نزولها إلى قبيل وفاة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بفترة قليلة.
و كانت آخر آية من القرآن نزولا منها، هي قوله- تعالى-:
مناسبتها لسورة الفاتحة: هناك مناسبة ظاهرة بين السورتين، لأن سورة الفاتحة قد اشتملت على أحكام الألوهية و العبودية و طلب الهداية إلى الصراط المستقيم اشتمالا إجماليا، فجاءت سورة البقرة ففصلت تلك المقاصد، و وضحت ما اشتملت عليه سورة الفاتحة من هدايات و توجيهات.
فضلها: و قد ورد في فضل سورة البقرة أحاديث متعددة، و آثار متنوعة منها ما جاء في مسند أحمد و صحيح مسلّم و الترمذي و النسائي عن أبى هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: لا تجعلوا بيوتكم قبورا، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان.
و روى ابن حبان في صحيحه عن سهل بن سعد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم (إن لكل شيء سنام و إن سنام القرآن البقرة، و إن من قرأها في بيته لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، و من قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام).
و روى الترمذي و النسائي و ابن ماجة عن أبى هريرة قال: (بعث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بعثا، و هم ذوو عدد فاستقرأ كل واحد منهم عما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال:
ما معك يا فلان؟ فقال: معى كذا و كذا و سورة البقرة. فقال: أ معك سورة البقرة؟ قال:
نعم. قال. اذهب فأنت أميرهم. فقال رجل من أشرافهم: و اللّه ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أنى خشيت ألا أقوم بها. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم اقرءوا القرآن و تعلموه، فإن مثل القرآن
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 28
لمن تعلمه فقرأه و قام به كمثل جراب أوكى أى أغلق- على مسك.
قال القرطبي: و هذه السورة فضلها عظيم، و ثوابها جسيم، و يقال لها فسطاط القرآن، و ذلك لعظمها و بهائها و كثرة أحكامها و مواعظها «1» .
مقاصدها: عند ما نفتح كتاب اللّه فنطالع فيه سورة البقرة بتدبر و عناية، نراها في مطلعها تنوه بشأن القرآن الكريم، و تصرح بأنه حق لا ريب فيه، و تبين لنا أن الناس أمام هدايته على ثلاثة أقسام:
قسم آمن به و انتفع بهداياته فكانت عاقبته السعادة و الفلاح.
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ و قسم جحد و استكبر و استحب العمى على الهدى، فأصبح لا يرجى منه خير و لا إيمان، فكانت عاقبته الحرمان و الخسران.
ثم فصلت السورة الحديث عن قسم ثالث هو شر ما تبتلى به الأمم و هم المنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون. و قد تحدثت السورة عنهم في ثلاث عشرة آية، كشفت فيها عن خداعهم، و جبنهم، و مرض قلوبهم، و بينت ما أعده اللّه لهم من سوء المصير، ثم زادت في فضيحتهم و هتك سرائرهم فضربت مثلين لحيرتهم و اضطرابهم، قال- تعالى-:
إلى أن يقول: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
ثم وجهت السورة نداء إلى الناس جميعا دعتهم فيه إلى عبادة اللّه وحده و أقامت لهم الأدلة الساطعة على صدق هذه القضية، و تحدتهم- إن كانوا في ريب من القرآن- أن يأتوا بسورة من مثله. و بينت لهم أنهم لن يستطيعوا ذلك لا في الحاضر و لا في المستقبل.
ثم ختم الربع الأول منها ببشارة الذين آمنوا و عملوا الصالحات بأن لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، جمعت لذائذ المادة و الروح، و هم فيها خالدون. ثم قررت السورة الكريمة أن اللّه- تعالى- لا يمتنع عن ضرب الأمثال بما يوضح و يبين دون نظر إلى قيمة الممثل به في ذاته أو عند