کتابخانه تفاسیر
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 34
و ما يتعلق به من أحكام، فحدثتنا عن الإيلاء و عن الطلاق. و عن الرضاع، و عن العدة، و عن الخطبة، و عن غير ذلك مما يتعلق بهذا الشأن، ثم ختمت حديثها بهذه الآية الكريمة:
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .
ثم عادت السورة في الربع السادس عشر منها إلى الحديث عن الملأ من بنى إسرائيل:
.. قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
فساقت لنا قصتهم بأسلوب زاخر بالعظات و العبر، التي من أهمها أن الدين هو أساس العزة و المنعة، و أن الشدائد من شأنها أن تصهر النفوس فتجعلها تتجه إلى معالى الأمور، و أن الأمير يجب أن يكون له من قوة العقل و قوة الجسم و سعة العلم، و كمال التجربة- ما يقود به أمته إلى صالح الأمور، و أن العاقل هو الذي يسلك الوسائل السليمة لبلوغ غايته الشريفة، ثم يفوض الأمور بعد ذلك إلى اللّه.
و في الربع السابع عشر منها أفاضت في الحديث عن مظاهر قدرة اللّه و وحدانيته، و أقامت على ذلك من الأدلة ما يشفى الصدور، و يطمئن القلوب، و يزيد المؤمنين إيمانا، استمع إلى آية الكرسي و هي تصور عظمة اللّه و قدرته فنقول.
و بعد هذا الحديث عن مظاهر قدرة اللّه ساقت السورة في أواخرها أنماطا من التوجيهات التي تسعد المجتمع، و تنزع الأحقاد من قلوب الأفراد، فقد حضت المسلمين في جملة من آياتها على الإنفاق و الإحسان، و ضربت لذلك أروع الأمثال و نهتهم عن المن و الأذى، و صرحت بأن الكلمة الطيبة للسائل خير من العطاء الذي تتبعه الإساءة.
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ .
ثم بعد أن عقدت مقارنه مؤثرة بين من ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة اللّه، و بين من ينفقونها رئاء الناس، بعد كل ذلك مدحت الفقراء الذين يتعففون عن السؤال، و لا يلجئون إليه إلا عند الضرورة القصوى فقالت:
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 35
ثم حذرت السورة بعد ذلك المؤمنين من التعامل بالربا، و وصفت آكليه بصفات تنفر منها القلوب، و تعافها النفوس، و وجهت إلى المؤمنين نداء أمرتهم فيه بتقوى اللّه، و أنذرتهم بحرب من اللّه لهم إن لم يتوبوا عن التعامل بالربا فقالت:
ثم تحدثت بعد ذلك عن الديون و الرهون، فصاغت للمؤمنين دستورا هو أدق الدساتير المدنية في حفظ الحقوق و ضبطها و توثيقها بمختلف الوسائل، ثم ختمت السورة حديثها الجامع عن العقائد و الشرائع و الآداب و المعاملات، بذلك الدعاء الخاشع:
تلك هي سورة البقرة، أ رأيت وحدتها في كثرتها؟ أ عرفت اتجاه خطوطها في لوحتها؟ أ رأيت كيف التحمت لبناتها و ارتفعت سماؤها بغير عمد تسندها؟ أ رأيت كيف ينادى كل عضو فيها بأنه قد أخذ مكانه المقسوم وفقا لخط جامع مرسوم، رسمه مربى النفوس و مزكيها، و منور العقول و هاديها و مرشد الأرواح و حاديها. فتاللّه لو أن هذه السورة رتبت بعد تمام نزولها، لكان جمع أشتاتها على هذه الصورة معجزة، فكيف و كل نجم منها كان يوضع في رتبته من فور نزوله، و كان يحفظ لغيره مكانه انتظارا لحلوله. و هكذا كان ما ينزل منها معروف الرتبة، محدد الموقع قبل أن ينزل.
لعمري لئن كانت للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات، و في أساليب ترتيبه معجزات، و في نبوءاته الصادقة معجزات، و في تشريعاته الخالدة معجزات، و في كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية و الكونية معجزات لعمري إنه في ترتيب آياته على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات «1» .
و بعد: فهذا عرض سريع لأهم مقاصد سورة البقرة، قدمناه بين يديها لنعطى القارئ الكريم صورة متميزة عنها. و من هذا العرض نرى أنها بجانب احتوائها على أصول العقائد، و على كثير من أدلة التوحيد، قد وجهت عنايتها إلى أمرين اقتضتهما حالة المسلمين، بعد أن
(1) من كتاب «النبأ العظيم» ص 208 لفضيلة الدكتور محمد عبد اللّه دراز.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 36
أصبحت لهم دولة بالمدينة يجاورهم فيها عدد كبير من اليهود.
أما الأمر الأول فهو توجيه الدعوة إلى بنى إسرائيل، و مناقشتهم فيما كانوا يثيرونه حول الرسالة الإسلامية من مؤامرات. و إماطة اللثام عن تاريخهم المظلم، و أخلاقهم المرذولة حتى يحذرهم المسلمون.
و أما الأمر الثاني فهو التشريع للدولة الإسلامية الفتية، و قد رأينا أن سورة البقرة في النصف الثاني منها قد تحدثت عن تلك الجوانب التشريعية حديثا مفصلا منوعا تناول أحكام القصاص، و الوصية، و الصيام و الاعتكاف و الحج، و العمرة، و القتال، و النكاح، و الإنفاق في سبيل اللّه.
و المعاملات المالية. إلى غير ذلك من التشريعات التي سبق الحديث عنها. و الآن فلنبدأ في تفسير السورة الكريمة فنقول- و باللّه التوفيق-.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 37
تفسير سورة البقرة
[سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
سورة البقرة من السور التي ابتدئت ببعض حروف التهجي.
و قد وردت هذه الفواتح تارة مفردة بحرف واحد، و تارة مركبة من حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة.
فالسور التي بدأت بحرف واحد ثلاثة و هي سور ص، ق، ن.
و السور التي بدأت بحرفين تسعة و هي: طه، يس، طس، و حم في ست سور هي:
غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف.
و السور التي بدأت بثلاثة أحرف ثلاث عشرة سورة و هي: الم في ست سور: البقرة، و آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة و الر* في خمس سور هي: يونس، هود، يوسف، الحجر، إبراهيم و طسم* في سورتين هما: الشعراء، القصص.
و هناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف و هما. الرعد، المر ، و الأعراف، المص ، و سورتان- أيضا- بدئتا بخمسة أحرف و هما: مريم كهيعص ، و الشورى حم عسق .
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 38
فيكون مجموع السور التي افتتحت بالحروف المقطعة تسعا و عشرين سورة.
هذا، و قد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية، و يمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسين:
الرأى الأول يرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها غير معروف، فهي من المتشابه الذي استأثر اللّه بعلمه.
و إلى هذا الرأى ذهب ابن عباس- في إحدى رواياته- كما ذهب إليه الشعبي، و سفيان الثوري، و غيرهم من العلماء، فقد أخرج ابن المنذر و غيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال: إن لكل كتاب سرا، و إن سر هذا القرآن في فواتح السور. و يروى عن ابن عباس أنه قال: عجزت العلماء عن إدراكها. و عن على- رضي اللّه عنه- أنه قال: «إن لكل كتاب صفوة و صفوة هذا الكتاب حروف التهجي». و في رواية أخرى عن الشعبي أنه قال:
«سر اللّه فلا تطلبوه».
و من الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأى، أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس، لأنه من المتشابه، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل، أو مثله كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها ..
و قد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإفهام عنها عند كل الناس، فالرسول صلّى اللّه عليه و سلّم كان يفهم المراد منها، و كذلك بعض أصحابه المقربين و لكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل بعض السور.
و هناك مناقشات أخرى للعلماء حول هذا الرأى يضيق المجال عن ذكرها أما الرأى الثاني فيرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها معلوم، و أنها ليست من المتشابه الذي استأثر اللّه بعلمه.
و أصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة، من أهمها ما يأتى:
1- أن هذه الحروف أسماء للسور، بدليل قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم (من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح) و بدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها كسورة ص و سورة يس .
و لا يخلو هذا القول من الضعف، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح، و الغرض من التسمية رفع الاشتباه.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 39
2- و قيل إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة و ابتداء أخرى.
3- و قيل: إنها حروف مقطعة، بعضها من أسماء اللّه- تعالى- و بعضها من صفاته، فمثلا الم* أصلها: أنا اللّه أعلم.
4- و قيل: إنها اسم اللّه الأعظم. إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلو من مقال، و التي أوصلها السيوطي في «الإتقان» إلى أكثر من عشرين قولا.
5- و لعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال: إن هذه الحروف المقطعة قد وردت في افتتاح بعض السور للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى اللّه به المشركين هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها، و يقدرون على تأليف الكلام منها، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه في الفصاحة و الحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم و بلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة، و فضلا عن ذلك فإن تصدير السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإنصات و التدبر، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم، و ذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها، فيستمعوا حكما و حججا قد تكون سببا في هدايتهم و استجابتهم للحق.
هذه خلاصة لآراء العلماء في الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية، و من أراد مزيدا لذلك فليرجع- مثلا- إلى كتاب «الإتقان» للسيوطي، و إلى كتاب «البرهان» للزركشى، و إلى تفسير الآلوسي.
ثم قال- تعالى-: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ .
ذلِكَ اسم إشارة و اللام للبعد حقيقة في الحس، مجازا في الرتبة، و الكاف للخطاب، و المشار إليه- على الراجح- الكتاب الموعود به صلّى اللّه عليه و سلّم في قوله- تعالى- إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا .
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أخبرنى عن تأليف ذلِكَ الْكِتابُ مع الم قلت:
إن جعلت الم اسما للسورة ففي التأليف وجوه. أن يكون الم مبتدأ و ذلِكَ مبتدأ ثانيا، و الْكِتابُ خبره. و الجملة خبر المبتدأ الأول.
و معناه أن ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، و أنه الذي يستأهل أن يسمى كتابا، كما تقول: هو الرجل، أى: الكامل في الرجولية، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج1، ص: 40
و إن جعلت الم بمنزلة الصوت، كان «ذلك» مبتدأ خبره «الكتاب»، أى: ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل «1» ... ا ه ملخصا.
و قيل: المشار إليه الم على أنه اسم للسورة و المراد المسمى.
و الْكِتابُ مصدر كتب كالكتب، و أصل الكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة. و استعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط، و أريد به هنا المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي يتألف منها في الخط، تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه.
و (الريب) في الأصل مصدر رابه الأمر إذا حصل عنده فيه ريبة، و حقيقة الريبة، قلق النفس و اضطرابها، ثم استعمل في معنى الشك مطلقا. و قال ابن الأثير: الريب هو الشك مع التهمة.
و (هدى). مصدر هداه هدى و هداية و هدية- بكسرها- فهدى، و معناه الدلالة الموصلة إلى البغية، و ضده الضلال.
و (المتقون) جمع متق، اسم فاعل من اتقى و أصله اوتقى- بوزن افتعل- من وقى الشيء وقاية، أى: صانه و حفظه مما يضره و يؤذيه.
و المعنى: ذلك الكتاب الكامل، و هو القرآن الكريم، ليس محلا لأن يرتاب عاقل أو منصف في أنه منزل من عند اللّه، و أنه هداية و إرشاد للمتقين الذين يجتنبون كل مكروه من قول أو فعل، حتى يصونوا أنفسهم عما يضرها و يؤذيها.
و كانت الإشارة بصيغة البعيد، لأنه سامى المنزلة أينما توجهت إليه، فإن نظرت إليه من ناحية تراكيبه فهو معجز للبلغاء، و إن نظرت إليه من ناحية معانيه فهو فوق مدارك الحكماء، و إن نظرت إليه من ناحية قصصه و تاريخه فهو أصدق محدث عن الماضين، و أدق محدد لتاريخ السابقين، فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن، و قد شاع في كلام البلغاء تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال، لأن الشيء النفيس عزيز على أهله، فمن العادة أن يجعلوه في مكان مرتفع بعيد عن الأيدى.
و صحت الإشارة إلى الكتاب و هو لم ينزل كله بعد، لأن الإشارة إلى بعضه كالإشارة إلى الكل حيث كان بصدد الإنزال، فهو حاضر في الأذهان، فشبه بالحاضر في العيان.
و نفى عنه الريب على سبيل الاستغراق مع وقوع الريب فيه من المشركين حيث وصفوه بأنه