کتابخانه تفاسیر
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج12، ص: 305
الطيبات، و نعمة الليل و النهار .. فقال- تعالى-:
[سورة غافر (40): الآيات 61 الى 68]
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج12، ص: 306
فقوله- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً بيان لنعمتي الليل و النهار اللتين أنعم بهما- سبحانه- على الناس.
أى: اللّه- تعالى- هو وحده الذي جعل لكم- أيها الناس- الليل لتسكنوا فيه، و تستريحوا من عناء العمل بالنهار و هيأه لهذه الاستراحة بأن جعله مظلما ساكنا ...
و جعل لكم بقدرته و فضله النهار مبصرا، أى: جعله مضيئا مسفرا، بحيث تبصرون فيه ما تريدون إبصاره من الأشياء المتنوعة.
قال صاحب الكشاف: قوله: مُبْصِراً هو من الإسناد المجازى لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار.
فإن قلت: لم قرن الليل بالمفعول له، و النهار بالحال؟ و هلا كانا حالين أو مفعولا لهما.
فيراعى حق المقابلة؟
قلت: هما متقابلان من حيث المعنى، لأن كل واحد منهما يؤدى مؤدى الآخر، و لأنه لو قال: لتبصروا فيه فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازى، و لو قيل: ساكنا- و الليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة، الا ترى إلى قولهم: ليل ساج و ساكن لا ريح فيه- لم تتميز الحقيقة من المجاز «1» .
و قوله: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ بيان لموقف أكثر الناس من نعم اللّه- تعالى- عليهم.
أى: إن اللّه- تعالى- لصاحب فضل عظيم على الناس جميعا، و لكن أكثرهم لا يشكرونه على آلائه و نعمه، لغفلتهم و جهلهم و استيلاء الأهواء و الشهوات عليهم.
و قال- سبحانه- لَذُو فَضْلٍ بالتنكير للإشعار بأنه فضل لا تحيط به عبارة أو وصف.
و اسم الإشارة في قوله- تعالى-: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ..
يعود إلى من سبقت صفاته و نعمه و هو اللّه- عز و جل-.
و ذلِكُمُ مبتدأ، و ما بعده أخبار متعددة.
أى: ذلكم الذي أعطاكم من النعم ما أعطاكم هو اللّه- تعالى- ربكم خالق كل شيء في هذا الوجود. لا إله إلا هو في هذا الكون ..
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 176.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج12، ص: 307
و قوله- تعالى-: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ تعجيب من انصرافهم- بعد هذه النعم- عن الحق إلى الباطل، و عن الشكران إلى الكفران.
أى: فكيف تنقلبون عن عبادته- سبحانه- إلى عبادة غيره، مع أنه- عز و جل- هو الخالق لكل شيء، و هو صاحب تلك النعم التي تتمتعون بها.
و قوله- تعالى-: كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ بيان لحال الذين وقفوا من نعم اللّه- تعالى- موقف الجحود و الكفران.
و يؤفك هنا: بمعنى القلب و الصرف عن الشيء، من الأفك- بالفتح- مصدر أفكه عن الشيء بمعنى صرفه عنه- و بابه ضرب- و منه قوله- تعالى-: قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا ... أى: لتصرفنا عن عبادتها.
و المعنى: مثل ذلك الصرف العجيب من الحق إلى الباطل، ينصرف و ينقلب كل أولئك الذين انتكست عقولهم، و الذين كانوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا و قدرتنا يجحدون و يكفرون.
و بعد أن بين- سبحانه- مظاهر نعمه عن طريق الزمان- الليل و النهار- أتبع ذلك ببيان نعمه عن طريق المكان- الأرض و السماء- فقال: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً أى: جعل لكم الأرض مكانا لاستقراركم عليها، و السعى فيها.
وَ السَّماءَ بِناءً أى: و جعل لكم السماء بمنزلة القبة المبنية المضروبة فوق رءوسكم، فأنتم ترونها بأعينكم مرفوعة فوقكم بغير عمد.
قال الآلوسى قوله: وَ السَّماءَ بِناءً أى: قبة، و منه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب.
و إطلاق ذلك على السماء على سبيل التشبيه، و هو تشبيه بليغ. و فيه إشارة لكرويتها. و هذا بيان لفضله- تعالى- المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان «1» .
و قوله: وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بيان لفضله- تعالى- المتعلق بذواتهم.
أى: جعل لكم الأرض مستقرا، و السماء بناء، و صور أشكالكم في أحسن تقويم. و أجمل هيئة. كما قال- تعالى-: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ .
وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أى: و رزقكم من الرزق الطيب الحلال المستلذ.
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أى: ذلكم الذي أعطاكم تلك النعم المتعلقة
(1) تفسير الآلوسى ج 24 ص 83.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج12، ص: 308
بزمانكم. و مكانكم. و ذواتكم. و مطعمكم و مشربكم. هو اللّه ربكم الذي تولاكم بتربيته و رعايته في جميع أطوار حياتكم. فتبارك اللّه- تعالى- و تعاظم في ذاته و في صفاته. فهو رب العالمين و مالك أمرهم.
هُوَ الْحَيُ أى: هو- سبحانه- المنفرد بالحياة الدائمة الباقية ..
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا موجود يدانيه لا في ذاته و لا في صفاته و لا في أفعاله.
فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أى: فاعبدوه عبادة خالصة لوجهه الكريم، و أطيعوه طاعة لا مكان معها للتردد أو التكاسل، حالة كونكم قائلين: الحمد للّه رب العالمين.
قال ابن جرير: كان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال لا إله إلا اللّه، أن يتبعها بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ عملا بهذه الآية «1» .
ثم لقن اللّه- تعالى- نبيه صلّى اللّه عليه و سلم الرد الذي يوبخ به المشركين فقال: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي ... .
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المشركين الذين يطلبون منك مشاركتهم في عبادة آلهتهم: قل لهم إنى نهيت من ربي و خالقي و مالك أمرى عن عبادة غيره- تعالى-، و السبب في ذلك أن كل الدلائل و البراهين التي أكرمنى- سبحانه- بها، تشهد و تصرح بأن المستحق للعبادة هو اللّه- تعالى- وحده.
فقوله: لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي بيان السبب الذي من أجله نهاه ربه عن عبادة غيره، و هذه البينات تشمل دلائل التوحيد العقلية و النقلية.
و قوله وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أى: إنى بعد أن نهاني ربي عن عبادة غيره، أمرنى بأن أسلم وجهى إليه بالعبادة و الطاعة، إذ هو وحده رب العالمين و مالك أمرهم.
ثم بين- سبحانه- مظاهر قدرته في خلق الإنسان في أطوار مختلفة، فقال- تعالى-:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أى: خلق أباكم آدم من تراب، و أنتم فرع عنه.
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ و أصل النطفة: الماء الصافي. أو القليل من الماء الذي يبقى في الدلو أو القربة، و جمعها نطف و نطاف. يقال: نطفت القربة إذا تقاطر ماؤها بقلة.
(1) تفسير ابن جرير ج 24 ص 53.
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج12، ص: 309
و المراد بها هنا: المنى الذي يخرج من الرجل، و يصب في رحم المرأة، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ و العلقة قطعة من الدم المتجمد.
ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أى: ثم يخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا صغارا، بعد أن تكامل خلقكم فيها. فقوله: طِفْلًا اسم جنس يصدق على القليل و الكثير.
ثم لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ بعد ذلك، بعد أن تنتقلوا من مرحلة الطفولة إلى المرحلة التي تكتمل فيها أجسامكم و عقولكم.
ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً بعد ذلك، بأن تصلوا إلى السن التي تتناقص فيها قوتكم و الجملة الكريمة معطوفة على قوله لِتَبْلُغُوا ، أو معمولة لمحذوف كالجمل التي تقدمتها، أى: ثم يبقيكم لتكونوا شيوخا.
وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أى: و منكم من يدركه الموت من قبل أن يدرك سن الشيخوخة، أو سن الشباب، أو سن الطفولة.
و قوله- تعالى-: وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى معطوف على مقدر. أى: فعل ذلك بكم لكي تعيشوا، و لتبلغوا أجلا مسمى تنتهي عنده حياتكم، ثم تبعثون يوم القيامة للحساب.
و الجزاء.
و قوله: وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أى: و لعلكم تعقلون عن ربكم أنه هو الذي يحييكم يوم القيامة كما أماتكم، و كما أنشأكم من تلك الأطوار المتعددة و أنتم لم تكونوا قبل ذلك شيئا مذكورا.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الزاخرة بكثير من النعم بقوله- تعالى- هُوَ الَّذِي يُحْيِي من يريد إحياءه وَ يُمِيتُ من يشاء إماتته.
فَإِذا قَضى أَمْراً أى: فإذا أراد إبراز أمر من الأمور إلى هذا الوجود فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ أى لهذا الأمر كُنْ فَيَكُونُ في الحال بدون توقف على سبب من الأسباب، أو علة من العلل.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك ما يسلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم عما أصابه من المشركين، بأن بين له سوء عاقبتهم يوم القيامة، و بأن أمره بالصبر على كيدهم، و بشره بأن العاقبة ستكون له و لأتباعه .. فقال- تعالى-:
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج12، ص: 310
[سورة غافر (40): الآيات 69 الى 78]
و الاستفهام في قوله- تعالى-: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ ... للتعجب من أحوال هؤلاء المشركين. حيث أنكروا الحق الواضح و انساقوا وراء الأوهام و الأباطيل.
و المعنى: انظر- أيها الرسول الكريم- إلى أحوال المشركين، و تعجب من سلوكهم
التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ج12، ص: 311
الذميم، حيث جادلوا في الآيات الدالة على وحدانية اللّه و قدرته بدون علم أو حجة.
و قوله: أَنَّى يُصْرَفُونَ أى: انظر كيف يصرفون عن آيات اللّه الموجبة للإيمان بها.
إلى الجحود و التكذيب و الجدال بالباطل فيها؟
لقد كان من المنتظر منهم أن يهتدوا إلى الحق بعد أن وصل إليهم .. و لكنهم عموا و صموا عنه. لانطماس بصائرهم، و استحواذ الشيطان عليهم.
و قوله: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ .. بدل من قوله الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ .
أى: تعجب من هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن الكريم. الذي أنزلناه إليك- يا محمد- لتخرجهم به من الظلمات إلى النور.
و كذبوا- أيضا- بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب و المعجزات. فهم لم يكتفوا بالتكذيب بك بل أضافوا إلى ذلك تكذيبهم بكل كتاب و رسول.
و قوله- تعالى-: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ و عيد شديد لهم على تكذيبهم بالرسل و بكتبهم، أى: فسوف يعلمون سوء عاقبة تكذيبهم لأنبياء اللّه- تعالى- و لكتبه التي أنزلها عليهم.
ثم فصل- سبحانه- هذا الوعيد، و بين ما أعده لهم من عذاب فقال: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ .
و «إذ» هنا ظرف بمعنى «إذا» و هو متعلق بيعلمون، و عبر- سبحانه- بالظرف الدال على المضي، للدلالة على تحقق الخبر، حتى لكأن العذاب قد نزل بهم فعلا.
و الأغلال: جمع غل- بضم الغين- و هو القيد يوضع في اليد و العنق فيجمعهما.
و السلاسل: جمع سلسلة، و هي ما يربط بها الجاني على سبيل الإذلال له.
و الحميم: الماء البالغ أقصى درجات الحرارة.
و يسجرون: مأخوذ من سجر التنور، إذا ملأه بالوقود.
و المعنى: فسوف يعلمون سوء عاقبة تكذيبهم و جدالهم بالباطل يوم القيامة، وقت أن توضع الأغلال و القيود في أعناقهم، ثم يسحبون و يجرون إلى الحميم بعنف و إهانة، ثم يلقى بهم في النار التي تمتلئ بهم، و يكونون وقودا لها.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: و هل قوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. إِذِ الْأَغْلالُ ..