کتابخانه تفاسیر
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 10
بخلاف سورة الإخلاص، فإن المصلّي مخيّر بينها و بين غيرها من السّور.
و هذا يكشف عمّا ذكرناه.
ب- نزولها:
هي مكّية، و على قول أنها نزلت في المدينة ثانيا. «1» و لها أسماء:
1- فاتحة الكتاب: لأنها مفتتحه أو مفتاحه.
2- و أمّ الكتاب: لاشتمالها على جمل معانيه، أي على خلاصة ما فصّل في الكتاب.
و بيان ذلك: أنها مشتملة على معاني القرآن بصورة اللّف، من الثّناء على اللّه بما هو أهله، و من التعبّد بالأمر و النّهي، و الوعد و الوعيد «2» . فكأنّ الكتاب نشأ و تكوّن منها بالتفصيل بعد هذا الإجمال. أو أنها كمكّة التي سميّت أمّ القرى، لأن الأرض تكوّنت و دحيت منها. و العرب من شأنهم أن يسمّوا ما يحتوي على أشياء، أو هو جامع لمطالب و أصول و مقاصد و رؤوس مطالب:
أمّا، كما يسمّون الجلدة الجامعة للدّماغ بمختلف حواسّه: أمّ الرّأس.
و نذكر في المقام رواية واحدة عن عظمة فاتحة الكتاب:
ففي مجمع البيان، روي عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن النبيّ صلوات اللّه عليهم: لما أراد اللّه عزّ و جلّ أن ينزل فاتحة الكتاب،
(1) هذا القول يجيء بنظري ساقطا، لأن نزولها ثانيا لا يترتب عليه إلا التكرار و لا وجه له، ففي المدينة جرى تحويل الوجوه في الصلاة نحو البيت الحرام بعد ان كان التوجه نحو بيت المقدس و قد كان المسلمون يصلّون بقراءة الفاتحة قبل الهجرة الى المدينة. و لم يحصل في الصلاة أي تبدل أو تغير في سورة الفاتحة أو في غيرها من أجزاء الصلاة، فلا حاجة الى الأخذ بقول لم نقع فيه على آية أو رواية.
(2) و هذه الأمور أصوله و أركانه.
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 11
و آية الكرسيّ، و آية شهد اللّه، و قل اللّهمّ مالك الملك، إلى قوله: بغير حساب- تعلّقن بالعرش و ليس بين اللّه و بينهنّ حجاب و قلن: يا رب، تهبطنا دار الذنوب و إلى من يعصيك، و نحن معلّقات بالطّهور و القدس؟. قال:
و عزّتي و جلالي، ما من عبد قرأكنّ في دبر كلّ صلاة، إلّا أسكنته حظيرة القدس على ما كان فيه، و نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، و إلّا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، و إلّا أعذته من كل عدوّ و نصرته عليه، و لا يمنعه عن دخول الجنة أن يموت.
3- الحمد: و هو من أسمائها لذكره في ابتدائها «1» .
4- السبع المثاني: الأول، لكونها سبع آيات اتّفاقا في جملتها، إلّا أن هناك خلافا بين عدّ البسملة آية، أو «أنعمت» دون البسملة.
و الثاني، لأنها تثنّى في الفريضة، و لنزولها في مكة أولا، و في المدينة ثانيا. نزلت في مكة حين افترضت الصّلاة، و في المدينة- كما قيل- حين حوّلت القبلة لمناسبة خفي مقتضاها علينا، فإن أفعال اللّه كأقواله قد تصدر عن مصلحة مكنونة، كما تصدر عن مصلحة مكشوفة.
5- لها أسماء أخر، كالشافية، و الكنز، و الوافية. و الأشهر ما ذكرناه أولا.
ج- التفسير:
(1) و قد يقال بأن ابتداءها البسملة، و الأوجه تسميتها بها لورودها في أولها. و الجواب: أن البسملة جزء من كل سورة، بل آية منها. و لو تسمّت بها سورة لتسمّت بها جميع السّور ما عدا براءة. فأسماء السور أمر تعبديّ، لا علاقة له بورود الاسم في الأول أو الوسط أو الآخر.
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 12
1- بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ :
هي آية من كلّ سورة عدا براءة بإجماعنا «1» و غيرنا، بين موافق لنا و مخالف. و ذكر الموافق و المخالف ليس فيه كثير فائدة.
و الباء للاستعانة، و يترجّح ذلك بأن الإنسان في جميع أموره يطلب الإعانة منه سبحانه و يشعر بكثرة مدخليّة اسم اللّه تعالى في تسهيل أعماله.
فكأنّه جعل اسمه تعالى آلة للفعل مشعرا بزيادة مدخليته فيه حتى كأنه لا يوجد بغيره.
أو للمصاحبة، و الحجة فيه التبرّك باسمه تعالى، أدخل في أدب الإسلام من أجل الرّد على المشركين الذين كانوا يتبرّكون بأسماء آلهتهم كاللات و العزّى و غيرهما. و الحق أن التبرّك يحصل بكلّ من الاستعانة و المصاحبة، و لا فرق بينهما عند النظر الدقيق.
و السورة مقولة على ألسنة عباده على ما هو الرائج بينهم في محاوراتهم تعليما للتبرّك باسمه و حمده و مسألته. و متعلّق الظّرف فعل مقدّر مؤخّر، لأهمية اسمه تعالى و قصر التبرك عليه سبحانه. هكذا: «بسم اللّه أتلو».
حذف المتعلّق لدلالة الحال عليه، أو لأن كل فعل يضمر له ما يناسبه المقام، مثلا في الذبح و الحلّ و الارتحال: «كأذبح، و أحلّ، و أرتحل». أو يقدّر من الإبهام العام: «كأبدأ، و أعمل، و أفعل.» من الأفعال العامة المبهمة، ما يناسب كل فعل و فعله.
(1) و يدل عليه روايات نذكر منها
ما جاء في تفسير العيّاشي عن يونس بن عبد الرحمن، عمّن رفعه، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قول اللّه تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي إلخ .. قال: هي سورة الحمد، و هي سبع آيات منها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ».
و لا يخفى أن المناسبة تقتضي أن يكون ذكر هذه الرواية عند قولنا في بيان وجه تسمية السورة المباركة بالحمد.
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 13
و الاسم من السّمو: بفتح السين و سكون الميم، و هو مصدر «1» فمعناه جعل الاسم. فحذف عجزه و سكن أوّله و زيدت همزة مبتدأ بها، يشهد بمبدإ اشتقاقه التكسير و التصغير اللذان يردّان الأشياء إلى أصولها.
أو من السّمة: و أصله أي مصدره: وسم، معناه العلامة بالكيّ و نحوه.
و حذفت الواو، و عوّض عنها الألف.
و لم يقل سبحانه: «باللّه» لأن التبرّك باسمه أدخل في الأدب مضافا بأن التبرّك بالاسم يلازم التبرّك بالذّات بالأولى بخلاف العكس و ليعمّ كل أسمائه.
اللّه: أصله إله. حذفت الهمزة و عوّض عنها أداة التعريف فصار مختصّا بالمعبود بالحق بالغلبة، بخلاف الإله فإنه كان لكل معبود، ثم غلب في المعبود بالحق. و هو من: أله بالفتح، بمعنى: عبد أو تحيّر و معنا هما عام.
و بالكسر (أله) بمعنى سكن أو فزع أو ولع لأنه معبود تتحيّر فيه العقول و تطمئنّ بذكره القلوب و يفزع إليه و يولع بالتضرّع لديه. و قيل أصله لاه (مصدره: ليها و لاها) بمعنى احتجب و ارتفع. و أدخلت عليه الأداة فصار علما شخصيّا للذّات المقدّس الجامع لكل كمال، لا اسما لمفهوم واجب الوجود، و إلّا لم تفد كلمة شهادة التوحيد، لاحتمال اعتقاد قائلها تعدّد أفراد ذلك المفهوم العام، و عورض بأنه لو كان كذلك لم يفده قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لجواز علميّته لأحد أفراد الواجب مع عدّهم السورة من أدلة التوحيد. و يجاب بأن ذيلها يفيد الواحديّة، و صدرها الأحديّة، أي نفي قبول القسمة بأنحائها.
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : صفتان مشبّهتان من رحم بكسر عين الفعل، كغضبان من غضب، و عليم من علم. و الرحمة هي رقّة القلب المقتضية للإحسان. و اتّصافه تعالى بها باعتبار غايتها التي هي فعل، لا مبدئها الذي هو
(1) سما يسمو سموا الرجل زيدا، أي جعل اسمه زيدا.
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 14
انفعال. و الرّحمن أبلغ لاقتضاء زيادة البناء زيادة المعنى. و هي هنا باعتبار «الكمّ» حسب كثرة أفراد المرحومين و قلّتها. و عليه حمل: يا رحمان الدنيا لشمول المؤمن و الكافر، و رحيم الآخرة لاختصاصه بالمؤمنين. و أما باعتبار «الكيف» فيصير الأمر في الأبلغيّة بالعكس لجسامة نعم الآخرة فتنخرط القاعدة.
و ملخص القول أن معنى الرحمن أي البالغ في الرحمة غايتها، و لذا اختصّ به سبحانه.
قال الصادق عليه السّلام: «الرّحمن اسم خاصّ بصفة عامّة، و الرّحيم اسم عام بصفة خاصة»
على ما رواها عنه أصحاب التفاسير في كتبهم. و إنما قدّم في البسملة و غيرها من موارد اجتماعهما على الرحيم، لصيرورته بالاختصاص كالواسطة بين العلم و الوصف، فناسب توسيطه بينهما و خصّت البسملة بهذه الأسماء الثلاثة إعلاما بأن التحقيق أن يستعان به تعالى في جميع الأمور، دنيوية و أخروية، لأنه المعبود الحقيقيّ البالغ في الرحمة غايتها، المولي للنّعم الجسيمة كلها. و لعلّ وجه التقديم- مضافا إلى ما قلناه آنفا- كون الرحمانيّة دنيوية، و هي مقدّمة على الأخروية. فالذي يدل عليها طبعا مقدّم «1» على الذي يدل على صفة أخروية. و لا منافاة بين الوجهين.
2- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ :
الحمد: هو الثناء على أمر جليل جميل صدر عن اختيار نعمة و غيرها.
و حمده تعالى على صفاته، حمد على الآثار الاختيارية الصادرة عن ذاته المقدّسة كما هو الحق. و نقيضه: الذّم، و يراد منه المدح. و قيل يعم غير
(1) و لا يخفي أنه تعالى أردف اسمه الذي هو علم لذاته، المستجمع للقهر و الرحمة، بصفة الرحمة دون القهر، تنبيها للعباد بأن «رحمتي غالبة على غضبي و قهري» و هذا سرّ من أسرار البسملة. يا من سبقت رحمته غضبه: أي غلبت.
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 15
الاختياري، و الحق هو الأول من القولين أما الشكر فهو ما قابل النعمة من قول أو عمل أو اعتقاد. و من الشكر الحمد على النعمة و هو أظهر أفراده و شعبه دلالة عليه، لخفاء الاعتقاد، و احتمال عمل الجوارح. و لذا
قال (ص): «الحمد رأس الشكر، ما شكر اللّه من لم يحمده»
فجعله كأشرف الأعضاء، فكأن الشكر منتف بانتفائه. و نقيضه الكفران.
و الحمد مبتدأ و خبره الظرف- أي للّه- و هو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة. فأصله النصب، و عدل إلى الرفع ليفيد الثبات دون التجدد و الحدوث. و لامه يحتمل أن يكون للجنس أو الاستغراق أو العهد، أي حقيقة الحمد أو كلّ أفراده أو أكملها، أي المعهود من الحمد بين العبد و مولاه هو أكمل أفراده ثابت له تعالى على وجه الاختصاص كما تفيد اللام و لو بمعونة المقام.
ربّ العالمين: مالكهم و سائسهم، أي مدبّر أمورهم على ما ينبغي.
و الرب مصدر، بمعنى التربية، و هي تبليغ الشيء كماله المقدّر له تدريجيّا، وصف به سبحانه للمبالغة على ما قيل. بيان ذلك أنه لا يقدر أحد تبليغ الموجودات طرا إلى كمالها- كلّ على حسبه تدريجيّا- إلّا اللّه. فهذا من أوصافه الخاصة به جلّ و علا التي تدل على أن قدرته فوق ما يتصوّر من القوى، و لا يطلق على غيره تعالى إلّا مضافا: كربّ الدار، أو مجموعا: كالأرباب.
لكنه فيه تعالى كما يطلق مفردا يستعمل مضافا
كقوله (ص): «ربّ الماء و التراب واحد».
و العالم: اسم لما سوى اللّه، أو اسم لما يعلّم به كالطابع، غلبت في كل جنس مما يعلم به الصانع تعالى من الجواهر و الأعراض، كما يقال:
عالم الأرواح، و عالم الأفلاك، و عالم العناصر. و يطلق على مجموعها أيضا
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 16
كالماء يطلق على القليل كالقطرة و على الكثير كالبحر. و هذا شأن كل اسم جنس لا يختصّ ببعض دون بعض.
و لا يجمع إلا بالإطلاق الأول فيتعيّن هنا. و إنما جمع ليشمل مسمّاه كلّ الأجناس و أفرادها. و يجمع بالواو و النون لتغليب جانب العقلاء. و أما وجه أنه جمع مع كونه معرّفا بالألف و اللام الاستغراقية و هي تفيد الشمول، فللدلالة على كون العالم أجناسا مختلفة الحقائق كما عدّدنا آنفا المشهور منها. و هذا المعنى لا يستفاد من حرف التعريف و إن كان مفيدا للشمول الاستغراقي».
3- الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : كرّرا في مفتاح الكتاب الكريم إشعارا بشدة اعتنائه سبحانه بالرحمة، و تثبيتا للرجاء بأن مالك يوم الجزاء هو البالغ في الرحمة غايتها فلا يقنط من عفوه و غفرانه المذنبون. و الوجه الثالث لتكرارهما، هو أنهما بيان لعلة تخصيص الحمد به تعالى.
مالك: بالألف على قراءة عاصم و الكسائي، و يؤيّده: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ .. و قرأ الباقون: «ملك يوم الدين» و يؤيّده: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ . و هذه أدخل في التعظيم و أنسب بالإضافة إلى يوم الدين، و لوصفه تعالى بالملكية بعد الربوبية في سورة مباركة خاتمة للكتاب ليوافق الافتتاح الاختتام.
و الفرق أن المالك من له التصرّف فيما في حوزته و تحت يده، و الملك من له التصرف في الأمور كلها أمرا و نهيا للسلطة و الغلبة على الناس و ما في يدهم و تحت تصرفهم طرّا.
و الدّين: هو الجزاء، و منه: «كما تدين تدان». و
عن الباقر عليه السلام: «أنه الحساب»