کتابخانه تفاسیر
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 16
كالماء يطلق على القليل كالقطرة و على الكثير كالبحر. و هذا شأن كل اسم جنس لا يختصّ ببعض دون بعض.
و لا يجمع إلا بالإطلاق الأول فيتعيّن هنا. و إنما جمع ليشمل مسمّاه كلّ الأجناس و أفرادها. و يجمع بالواو و النون لتغليب جانب العقلاء. و أما وجه أنه جمع مع كونه معرّفا بالألف و اللام الاستغراقية و هي تفيد الشمول، فللدلالة على كون العالم أجناسا مختلفة الحقائق كما عدّدنا آنفا المشهور منها. و هذا المعنى لا يستفاد من حرف التعريف و إن كان مفيدا للشمول الاستغراقي».
3- الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : كرّرا في مفتاح الكتاب الكريم إشعارا بشدة اعتنائه سبحانه بالرحمة، و تثبيتا للرجاء بأن مالك يوم الجزاء هو البالغ في الرحمة غايتها فلا يقنط من عفوه و غفرانه المذنبون. و الوجه الثالث لتكرارهما، هو أنهما بيان لعلة تخصيص الحمد به تعالى.
مالك: بالألف على قراءة عاصم و الكسائي، و يؤيّده: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ .. و قرأ الباقون: «ملك يوم الدين» و يؤيّده: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ . و هذه أدخل في التعظيم و أنسب بالإضافة إلى يوم الدين، و لوصفه تعالى بالملكية بعد الربوبية في سورة مباركة خاتمة للكتاب ليوافق الافتتاح الاختتام.
و الفرق أن المالك من له التصرّف فيما في حوزته و تحت يده، و الملك من له التصرف في الأمور كلها أمرا و نهيا للسلطة و الغلبة على الناس و ما في يدهم و تحت تصرفهم طرّا.
و الدّين: هو الجزاء، و منه: «كما تدين تدان». و
عن الباقر عليه السلام: «أنه الحساب»
و تخصيص اليوم بالإضافة، مع أنه تعالى مالك و ملك
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 17
لجميع الأشياء في كل الأوقات، لتعظيم ذلك اليوم، أو لتفرّده تعالى بالملك و السلطان فيه، لأن ما حصل منهما لبعض في الدنيا ظاهرا، يزول و يفنى، فينفرد سبحانه بهما على ما يستفاد من قوله جلّ و علا: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ .
و في التعبير باسم الذات الدالّ على استجماع جميع الكمالات و تعقيبه بالصفات المنتفية عمّن سواه، دلالة على انحصار استحقاق الحمد فيه، و قصر العبادة و الاستعانة عليه تعالى، و إرشاد إلى المبدأ و المعاد، و تنبيه على أن من يحمده الناس إما لكماله الذاتي، أو لرجائهم إحسانه في المستقبل، أو لخوفهم من كمال قهره. فكأنه تعالى يقول: أيها الناس، إن كنتم تحبّون أن تحمدوا للكمال الذاتي فأنا المستجمع له، أو للإنعام و التربية فأنا «ربّ العالمين» أو للرجاء في المستقبل فأنا «الرّحمن الرّحيم» أو للخوف و السطوة فأنا «مالك يوم الدّين».
فاللّه تعالى سدّ طرق العباد في عباداتهم من جميع الجهات التي يتصوّر أن تكون عباداتهم لها، و حصرها بذاته المقدّسة جلّ و علا، فما بقي للعباد عذر في عبادة من سواه سبحانه .. و بعد ذكر الأوصاف الثابتة لذاته المقدّسة التي لا تعلم و لا تعرف إلّا بعد انكشافها من ناحيته عقّبها بقوله: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ إلخ ...» تعليما للعباد طرق المخاطبة له حين تخضّعهم و تخشّعهم لربّهم، و تربية لهم حينما يدعونه تعالى على كيفية الدعوة.
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 18
5- إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ :
إيّا: ضمير منفصل منصوب، و لواحقه من الهاء، و الكاف، و الياء، و النون، حروف لبيان الغيبة، و الخطاب، و التكلّم، لا محلّ لها من الإعراب، نحو كاف «ذلك» على أصحّ الأقوال. و هو منصوب على المفعولية. و انفعاله و تقدّمه على فعله لإفادة الحصر، لأن تقديم ما هو حقه التأخير يفيد الحصر. أي قصروا العبادة و الاستعانة عليه.
و العبادة أعلى مراتب الخضوع و التذلّل، لا يستحقها إلّا المنعم لأعظم النّعم من الوجود، و الحياة و توابعهما.
و الاستعانة طلب المعونة في الفعل، و يراد هنا طلب المعونة في كل المهمّات، و لذا أبهم المستعان فيه، أو في أداء العبادة بوظائفها المقرّرة بقرينة توسّطها بين: «نعبد و اهدنا» فحذف اختصارا للقرينة. و تقديم المفعول لقصر العبادة و الاستعانة عليه تعالى.
و أما وجه الاقتصار أنه تعالى بيّن صغرى و كبري بذكر أوصافه الخاصة له، و عقّبها باسمه الخاصّ الذي يدل على ذاته المستجمعة للكمالات بأجمعها من المذكورات و غيرها، فيستفاد منه أنه سبحانه واجد لوصف الرحمانية في الدنيا، و الرّحيمية و الملوكيّة في العقبى، حيث إنه «ملك يوم الدين» أي هو الذي أزمّة الأمور طرّا بيده، هذه صغرى. و كل من كان هذه الصفات و هذه القوة و القدرة صفته، فهو الذي يستحق أن يعبد و يستعان به لا غيره. فنستنتج أنه جلّ و علا مستحقّ للعبادة و الاستعانة من دون غيره، فلا معنى لقصر العبادة و الاستعانة عليه تعالى إلّا هذا. فثبت الحصر و وجهه ظهر. و الحصر حقيقيّ ثبوتا، و أما إثباتا فإضافيّ بالنسبة إلى المؤمنين باللّه، و الوجه الآخر لتقدّم المفعول، تقدمه سبحانه في الوجود، و للتّنبيه على أن العابد و المستعين ينبغي
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 19
أن يكون نظرهما بالذات أولا إلى الحق المتعال، ثم منه إلى أنفسهم، لا من حيث ذواتها بل من جهة أنها وسيلة إلى لحاظه تعالى، ثم إلى عبادتهم و نحوها، لا من حيث صدورها عنهم، بل من حيث أنها وصلة بينهم و بين الخالق جلّ و علا.
و تكرير الضمير: «إيّاك و إيّاك» للتنصيص على التخصيص بالاستعانة، فينتفي احتمال تقدير مفعول لها غيره تعالى مؤخرا. و لبسط الكلام مع المحبوب كآية: هِيَ عَصايَ .
و تقديم العبادة على الاستعانة ليتوافق الفواصل في متلوّ الآخر، و لأن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة. و لمناسبة تقديم مطلوبه تعالى من العباد على مطلوبهم منه. و لأن المتكلّم، لما نسب العبادة إلى نفسه، كان كالمعتدّ بما يصدر منه، فعقّبه بقوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إيذانا بأن العبادة لا تتمّ إلا بمعونته، و إيثار صيغة المتكلّم مع الغير ليؤذن بحقارة نفسه عن عرض العبادة و طلب المعونة منفردا على باب الكبرياء، فلا بد من انضمامه إلى جماعة تشاركه في العرض و الطلب كما يصنع في عرض الهدايا و رفع الحوائج إلى الملوك. و في الجمع يمكن أن يقصد تغليب الخلّص على غيرهم، فيصدق:
«و ليدرج عبادته و حاجته في عبادة المقرّبين و حاجتهم، و لعلها تقبل و تجاب ببركتهم».
و العدول من الغيبة إلى الخطاب: أولا من عادة العرب العدول من أسلوب إلى آخر تفنّنا في الكلام، و ثانيا لأن في العدول من الغيبة إلى الخطاب تطرية و تنشيطا للسامع ليس في غيره، فإن في الخطاب اعتناء بشأن المخاطب بل لطف و إحسان إليه، و لا سيّما إذا كان من شخصية سامية: فكيف بذات
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 20
رفيعة مقدّسة جامعة لجميع الكمالات و الأوصاف العظيمة التي لا توجد في غيرها.
على ان مواقع العدول و تختصّ بنكت و رموز:
فممّا اختصّ به هذا الموضع أن العبادة و الاستعانة ينبغي كتمانها عن غير المعبود المستعان لتكون أقرب إلى الإخلاص و أبعد عن الرّياء. فالمناسب له طريق الخطاب، فلذا عدل إليه. و منه التلويح إلى ما في الحديث: «أعبد اللّه كأنك تراه». إذ العبادة الكاملة هي ما يكون العابد حال اشتغاله بها مستغرقا في الحضور كأنه مشاهد لجناب معبوده. فظنّ أنه وصل إلى مقام المقرّبين، فقال:
6- اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ : بيان للمعونة المطلوبة، كأنه قال:
«كيف أعينكم؟» فقالوا: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ .
و الهداية: الدلالة بلطف إلى المطلوب. و قيل هي الموصلة، و غيرها إراءة الطريق. و يدفعه قوله تعالى: فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى و يرفع الدفع أنّه من الممكن أن يوصل الإنسان شخصا إلى مطلوبه و مع ذلك يصير المطلوب مبغوضا له و يرفع اليد عنه و يؤثر الغير عليه لسبب من الأسباب. و الحاصل أن الآية مصداق من مصاديق المعونة، و آثره الطالب إيذانا على أنه أسماها و أعلاها، ثم إنّ أصناف هدايته جلّ و علا و إن لم يحصرها العدّ على أربعة أوجه:
الأول: إفاضته القوى و الحواسّ لجلب النفع و دفع الضّرر، يدل عليه: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى .
الثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق و الباطل، يدل عليه وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ .
الثالث: إرسال الرّسل و إنزال الكتب: وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ . أي
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 21
بالإرسال و الإنزال.
الرابع: إزالة الغواشي البدنية و إراءة الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام أو المنام الصادق أو الاستغراق في ملاحظة جماله و جلاله بحيث تقشعرّ جلودهم من الخشية ثم يرغبون في ذكر ربهم و يعرضون عمّا سواه، قال تعالى:
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ، ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ . و هذا يختص به الأنبياء و الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ . هذه الآية الشريفة بالنسبة إلى غير الواصلين و هو الهداية في المرتبة الرابعة. و بالإضافة إلى الواصلين يراد مزيد الهداية: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً . فإنها ذات مراتب كما تدلّنا على ذلك هذه الشريفة. و
عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «اهدنا: أي ثبّتنا».
و الصراط: هو الجادّة، و الطريق. من سرط الطعام أي ابتلعه. فكأنه يسترط السابلة. كما يسمّى لقما، كأنه يلتقمهم. و جمعه سرط ككتب.
و أصله السين قلبت صادا لتطابق الطاء في الإطباق. و الصراط- بالصاد- لغة قريش.
و المراد بالصّراط المستقيم: دين الحق أو دين الإسلام أو كتاب اللّه عزّ و جلّ.
7- صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ :
هذه الجملة بدل كلّ من الصّراط المستقيم، و نتيجته التأكيد أو التّنصيص على أن الطريق الذي هو علم في الاستقامة هو طريق المنعم عليهم لأنه جعل كالتفسير له. و المراد بهم: المذكورون في كتابه: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ ... الآية». و قيل أراد بهم
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 22
المسلمين، حيث إن نعمة الإسلام أصل كلّ النّعم.
و الإنعام: إيصال النّعمة. و هي في الأصل مصدر بمعنى الحالة المستلذّة ككون الإنسان مليّا عليما خطيبا بليغا مثلا. ثم أطلقت على نفس الشيء المستلذّ به تسمية للشيء باسم مسبّبه. و نعمه سبحانه كثيرة بحيث تعذّر حصرها و عدّها وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها .
و هي إمّا دنيويّة كإفاضة الوجود و العمر و القوى البدنية و النّعم الظاهرية الأخر. أو باطنية. و من أسماها العقل و سائر القوى، و التوفيق للتّخلية من الرّذائل و التّحلية بالأخلاق الفاضلة الزكية، و الإيمان باللّه و التصديق بالرسالة و بما جاء به النبيّ (ص).
و إما أخروية، و هي روحانيّ «كغفران الذنوب» و جسماني «كأنهار العسل و الشراب الطّهور». و إجمالهما ما ذكرناه مما «تشتهيه الأنفس و تلذّ الأعين»،
«مما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر».
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ :
و الغضب: ثوران النّفس لإرادة الانتقام تشفّيا. فإن أسند إليه تعالى فباعتبار الغاية كما في الرّحمة، و العدول عن إسناده إليه تعالى إلى صيغة المجهول و إسناد عديله إليه تعالى، تأسيس لمباني الرّحمة. فكأنّ الغضب صادر عن غيره تعالى، و إلّا فالظاهر أن يقول: «غير الّذين غضبت عليهم». و مثل ما نحن فيه في التصريح بالوعد و التعريض بالوعيد كثير في الكتاب، و منه قوله سبحانه: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ . و المقابل لقوله: «لأزيدّنكم: لأعذّبنّكم».