کتابخانه تفاسیر
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 195
هي علّة النّهي عن اتّباعه و الاقتداء به، لأن الإنسان إذا اقتدى به، اقتدى بأعدى عدوّ له، فالشيطان أول عدوّ للإنسان و لا يترقّب منه إلّا الشرّ 169- إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ ... هذه الشريفة بيان لوجوب الكفّ عن اتّباع الشيطان و ظهور عدواته، فهو لا يأمركم بخير قط، و إنّما يأمركم بالسوء: أي الأمر القبيح، و بالفحشاء، و هي ما تجاوز الحدّ في القّبح. و قيل العكس، أي أن السوء ما لا حدّ فيه، و الفحشاء ما فيه الحدّ في القباحة. بهذا يأمركم الشيطان و بغيره من الموبقات وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ كأن يقول للإنسان: هذا حلال، و هذا حرام، من دون علم بهما.
و في الآية الكريمة دلالة على المنع من اتّباع الظّن في المسائل الدّينية رأسا، بل الطريق منحصر فيها بالعلم. فإن القول في الأمور الدينية بلا علم يحسب في عداد السوء و الفحشاء، و كما أن الشيطان يأمر بالفحشاء و السوء فكذلك القول بلا علم .. و
في الكافي عن الصادق عليه السلام: إيّاك و خصلتين ففيهما هلك من هلك. إياك أن تفتي الناس برأيك، و تدين بما لا تعلم.
و
عن الباقر عليه السلام أنه سئل عن حق اللّه تعالى على العباد، قال: أن يقولوا ما يعلمون، و يقفوا عند ما لا يعلمون.
فوا حسرة على بعض العباد يوم المعاد كيف يلقون وجه اللّه، و بما ذا يجيبون لو سئلوا عن حقه عليهم و قد الّفوا رسائل عملية بوجود من هو أعلم منهم و أفتوا الناس بما لم يتوصلوا إليه عن دليل قطعيّ، مع أن الأعلم به كفاية؟ ..
170- وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ ... الضمير في لَهُمُ راجع إلى الناس. و المراد بما الموصولية هو الكتاب الذي أنزله اللّه تعالى و العدول عن مخاطبتهم إلى الغيبة لبيان ضلالتهم و كفرهم و ليبيّن عدم قابليتهم للتوجه و الالتفات إليهم، و لا سيّما للمقلّدين منهم فإنه لا ضالّ أضلّ منهم. فمفاد الآية
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 196
الكريمة أنه إذا قيل لهؤلاء المشركين: أطيعوا كتاب اللّه و اسمعوا قول النبيّ محمد (ص) و اتّبعوه فيما يدعوكم إليه من الهدى قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي نحن نقلّد آباءنا فيما وجدناهم عليه من الدين فإنهم أبصر منّا و أرسخ إيمانا، و لو كان دينهم فاسدا و طريقتهم باطلة ما استقاموا على ذلك طول الزمان بلا مانع يمنعهم. فوبّخهم اللّه جلّ و علا بقوله أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ و الهمزة للردّ و التعجّب، و الواو للحال، و حاصل معنى الجملة الكريمة: أن هؤلاء الحمقى لا يرجعون عن دين آبائهم، و الحال أن آباءهم كانوا فاقدين للعقل المميّز الحقّ من الباطل و الصحيح من الفاسد، و إلّا لما خضع أشرف المخلوقات- و هو الإنسان- لأدون الجمادات من الأصنام التي صنعوها بأيديهم! ... فمن عبد الجماد الفاقد للعقل، كان أفقد منه للعقل و أجمد منه على الباطل. فآباؤهم عبدة أصنام لا تسمع و لا تعقل، و هم مقيمون على عبادتها و تقديسها، و هؤلاء يعتقدون بهم و يقلّدونهم في طريقتهم، و يصمّون آذانهم عن أن يستشمّوا روح الحق و الصواب من الدين الحنيف الذي جاء به محمد بن عبد اللّه (ص). و يستشعر من هذه الكريمة أنه لا بد للإنسان من إعمال عقله و فكره و نظره ليتعمّق في البحث عن مقلّده فلا يقلّده إلا بناء على بصيرة نافذة و رويّة تامّة بعد أن يراه أهلا للتقليد و جامعا لكل الشرائط المعتبرة.
171- وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية ... أي مثل داعي الذين كفروا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ فهم في ادّعائهم كمثل الناعق من البهائم التي لا تسمع إلا تصويتها و لا تفهم مرادها و لا معنى نعيقها، فهم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ لا يسمعون و لا يتكلّمون و لا يرون الهدى و طريق الحق. و الألفاظ الثلاثة إمّا أنها خبر لمبتدأ محذوف- أي هم صمّ بكمّ عمي- و إمّا أنها مبتدأ لخبر محذوف و قد فسّرناه فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ لعلامات التوحيد و البراهين الساطعة على وجود الصانع
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 197
تعالى و الحجج على النبوّة لتركهم النظر فيها بتاتا
[سورة البقرة (2): الآيات 172 الى 176]
172- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ : مستلذّات ما رَزَقْناكُمْ من النّعم الطيبة السائغة غير الخبيثة. فإن الأمر بأكل الطيب للاحتراز عن الخبيث لا عن الحرام، لأن ما رزقه اللّه ليس بحرام، و الحرام هنا قد خرج بقوله تعالى: ممّا رزقناكم. و أمّا التقيد بالطيّبات فلإخراج ضدّها- و هي الخبائث- و الخبائث
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 198
تطلق على كل نجس، و على كلّ رديء و كلّ مستكره، أي عمّا ينفر منه الطبع بالفطرة، و على الفاسد و كلّ حرام بنظر الشّرع. فكلوا الطيّبات فقط وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ احمدوه على ما رزقكم من نعمه الطيبة إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ قدّم المفعول- إياه- و فصله لإفادة الحصر، كما في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . و معنى ذلك إن كنتم تخصّون اللّه بالعبادة و تقرّون بأنه المنعم الحقيقي فأتمّوا عبادتكم له بأداء الشّكر الذي لا يحصل تمامها إلا به.
173- إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ... أي التي تموت بلا ذباحة حسب إذن الشارع المقدّس، فإنها حرام أكلها، حرّمها هي وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي ما ذكر اسم الصنم أو أيّ اسم آخر غير اسم اللّه عليه عند الذّبح كالّذي تتقرّب به الكفار من أسامي أندادهم ... فَمَنِ اضْطُرَّ دفعت به الحاجة في مخمصة أو مجاعة إلى أكل شيء من هذه المحرّمات
غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ غير عاص و ظالم لإمام المسلمين و غير معتد بالمعصية على طريق المحققّين و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السلام
، و يحتمل أن يكون غير ظالم و لا جان على أحد من المسلمين، و غير متجاوز لحدود الشّرع فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي لا حرج في أكل تلك المحرّمات، في تلك الحال فقط إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ متجاوز عن معاصي عباده، فكيف فيما رخّص به هو لعباده، فهو رحيم بالتوسعة على العباد، و رفع الحرج عنهم عند الاضطرار. و بهذه المناسبة نورد بعض الروايات التي تناسب المقام.
ففي الكافي عن الصادق عليه السلام: الباغي: الذي يخرج على الإمام، و العادي: الذي يقطع الطريق، لا يحلّ أكل الميتة،
و
العياشي عنه عليه السلام: الباغي:
الظالم، و العادي: الغاصب.
و
في التهذيب و العياشي عنه عليه السلام: الباغي: باغي الصيد، و العادي: السارق، ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرّا هي حرام عليهما ليس هي عليهما كما هي على المسلمين
و
في رواية عبد
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 199
العظيم عن الجواد عليه السلام: هي حرام عليهما في حال الاضطرار، كما هي حرام عليهما في حال الاختيار.
و ليس لهما أن يقصّرا في صلاة أو صيام. و
في سفر الحديث في الفقه عن الصادق عليه السلام: من اضطرّ إلى الميتة و الدم و لحم الخنزير فلم يأكل شيئا من ذلك حتى يموت فهو كافر.
و لعلّه من حيث أنه لم يعتن برخصة الشارع من أجل حفظ نفسه، و في عدم الاعتناء، بترخيص الشارع المقدّس و هن لحكم الشارع تعالى، و هن الحكم و هن للحاكم و العياذ باللّه ...
174- إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ : المراد بهم اليهود فإنهم كتموا ما أنزل اللّه تعالى على موسى (ع) مِنَ الْكِتابِ أي التوراة التي فيها أوصاف محمد (ص) و علائمه و دلائل نبوّته، بحيث أيقنوا أنه هو الذي أخبر به موسى بن عمران و عيسى بن مريم عليهما السلام، و كتموه و أخذوا في مقابل كتمانهم ثمنا قليلا كما أخبر به اللّه تعالى في كتابه إذ قال وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا من حطام الدنيا أو رئاساتها الزائلة بعد أيام قلائل أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ أي الكاتمون لنعوت محمد (ص) الذي أخذوا عوضا من المال و أكلوا به لقاء الكتم، فإن أكلهم لها يوجب النار، فهو نار تجري في بطونهم وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ لأنهم غير أهل لكلامه بلا واسطة، و هذا متضمّن لغاية غضبه عليهم وَ لا يُزَكِّيهِمْ و لا يطهّرهم من ذنوبهم بالمغفرة لأنهم لا يستحقونها، و لا يثني عليهم و يمدحهم لأنهم عصاة وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع لا يطاق ألمه .. و لا منافاة بين قوله: وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، و قوله في سورة الحجر: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ، أولا لما أشرنا إليه من أن الأول- أي المنفي- هو التكليم بلا واسطة و المثبت مع الواسطة كما هو الظاهر في المقامين. أما الثاني فإن المنفيّ ربما يكون المراد به كلام التلطّف و الإكرام، و المثبت سوء التوبيخ و الإهانة.
175- أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ : الإشارة لعلماء اليهود
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 200
و النّصارى، أو مطلق أهل الضلال الذين كانوا من رؤسائهم، لأنهم المقدّمون لاختيار الضلالة و اشترائها بِالْهُدى أي اشتراؤهم الكفر بالإيمان لحفظ رئاساتهم و حطام الدنيا الفانية وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ أيضا اشتروه بكتمان الحق لأغراض فاسدة باطلة، كأخذ الرّشى و جمع الأموال من أي طريق و لو بقتل النبيّ أو الوصي، و غير ذلك من موبقاتهم، عليهم لعائن اللّه فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ أي ما أشد صبرهم على عمل يصيّرهم لا محالة إلى النار و يجرّهم إليها.
176- ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ : أي أن تصييرهم و جرّهم إلى النار بسبب أنه تعالى نزّل إليهم كتابا حقا ثابتا فرفضوه و كذّبوه و كتموا ما فيه جحدا للحق و عنادا للنبيّ محمد (ص) وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ أي القرآن فقالوا عنه سحرا مرة، و رموه بالتكذيب و الابتداع مرة ثانية، و وصفوه بأنه تعليم بشر مرة ثالثة، و بأنه أساطير الأوّلين و غير ذلك. أو أن المراد بالكتاب الجنس، أي كتب اللّه التي آمنوا منها ببعض و كفروا ببعض. فعلى كل حال إن هؤلاء لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي في خلاف بعيد عن (الحق و الحقيقة، لأنّ من أوقع نفسه في الطّرق المختلفة مع وضوح الطريق الموصلة إلى المقصود، يبعد طبعا عن المقصد و يزيغ عن طريق الحق.
[سورة البقرة (2): الآيات 177 الى 179]
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج1، ص: 201
177- لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ : أي ليس الفعل المرضيّ و العمل الحسن أن تتوجّهوا قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ في الصلاة- و الخطاب لأهل الكتاب الذين خاضوا كثيرا في تغيير القبلة- قال تعالى لهم: ليس البر منحصرا في الصلاة نحو الشرق كما هو ديدن النصارى؛ أو نحو الغرب كما هي طريقة اليهود- أي نحو بيت المقدس-. فما هذا هو البرّ و الطاعة التامة و العمل الحسن المقبول ..