کتابخانه تفاسیر
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج6، ص: 232
و أيضا: فما الحكمة في تقديم ذكر الليل مع أن النهار أشرف من الليل؟
فيقال إن الليل و النوم في الحقيقة طبيعة عدميّة في الجملة فهو غير مقصود كما أن الظلمة طبيعة عدميّة و النور طبيعة وجوديّة و العدم في المحدثات مقدّم على الوجود كما قال سبحانه وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ و أما الجواب عن الإتيان بالاسم دون الفعل فقال بعض الأفاضل: من فنّ علم النحو في كتاب دلائل الإعجاز أن دلالة صيغة الاسم على الكمال أقوى من دلالة الفعل عليه، فهذا هو السبب في هذا المقام. و لمّا ذكر سبحانه بأن القيامة حق و صدق و لا ينتفع العباد فيها إلّا بالطاعة للّه تعالى فلذا أمر بالدّعاء لأنه أشرف أنواع الطاعات عقلا و نقلا و كتابا و سنّة، و لا بدّ أن يكون الداعي ذا معرفة بدلائل معرفة الآيات الآفاقيّة و الفلكيّة مثل وجود اللّيل و النهار اللّذين يدلّان على ذاته و وجود الصّانع تعالى و تعاقبهما الذي يدلّ أيضا على الصّانع العليم القدير و كمال تدبيره و حكمته. و لما بيّن سبحانه الدلائل المذكورة على وجوده و قدرته و سائر أوصافه الكماليّة قال تعالى:
62- ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ... قال صاحب الكشّاف ذلِكُمُ أي المعلوم المميّز بالأفعال الخاصّة التي لا يشاركه فيها أحد، هو اللّه ربّكم خالق الأشياء جميعا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ هذه جمل خبريّة مترادفة دالّة على أنّه الجامع لهذه الأوصاف من الإلهيّة و الرّبوبيّة و الخالقيّة و الوحدانيّة الأحديّة. و هذا تعريف لا يتصوّر فوقه تعريف لذاته المقدّسة و لذا يقول فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي فكيف تنصرفون و تعرضون عنه و عن عبادته مع وضوح الدّلائل على ذاته و توحيده و استحقاقه للعبادة دون غيره؟
و الحاصل أن الحجّة تامّة على جميع الخلق و ليس لأحد عذر.
63- كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا ... أي كما أنكم انصرفتم و أعرضتم عن دين الإسلام، هكذا ينصرف و يعرض كلّ من يجحد و ينكر آيات اللّه، أي أن رؤساءهم يصرفونهم عن الآيات و يردّونهم إلى غير دين الحق. ثم
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج6، ص: 233
إنّه سبحانه بعد ذلك يستدل بأمور خاصّة لذاته القدسيّة على ربوبيّته و ألوهيّته و قدرته الكاملة و يقول:
[سورة غافر (40): الآيات 64 الى 68]
64- اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً ... أي مسكنا و مستقرّا
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج6، ص: 234
تسكنون فيها و هي منزلكم أحياء و أمواتا إلى يوم لقاء اللّه وَ السَّماءَ بِناءً أي كالقبّة المضروبة على الأرض قائمة ثابتة. و من مننه على العباد أنه جعل السماء مرتفعة و لو جعلها رتقا مع الأرض لما كان يمكن الانتفاع في ما بينهما، بل لما كان للخلق أن يعيشوا على وجه الأرض وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ لأنّ صورة بني آدم طبق صورة أبيهم و هي أحسن صورة الحيوانات: قال ابن عباس خلق ابن آدم قائما معتدلا يأكل بيده و يتناول بها، و غيره يأكل بفيه بادي البشرة و لذلك سمّي بشرا منتصب القامة متناسب الأعضاء متهيّئا لاكتساب الصّنايع و الكمالات. و لكون هذه الصّورة من بدائع عالم الكون و أعاجيبه قال تعالى فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ و ما قال و لن يقول في شيء من بدائع الخلقة مثل هذا التبريك لذاته المقدّسة. و من هذا نستكشف كشفا تامّا أن تلك الصّنعة أعظم و أعجب صنائعه و أكمل مخلوقاته السماويّة و الأرضيّة، و قد شبعنا الكلام في هذا الإبداع سابقا و لا نعيده رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني تعيّن و تميّز أرزاقكم ممّا جعل للحيوانات الأخر، فرزقكم أنواع الفواكه اللذيذة و من النباتات الطيّبة من حيث الطعم و الريح، و من الحبوب ذوات الخواصّ و الآثار المفيدة ذلِكُمُ أي الخالق لهذه الأشياء و المنعوت بهذه النعوت الخاصّة اللَّهُ رَبُّكُمْ أي الجامع لصفات الجلال و الجمال و المتّصف بصفة الرّبوبيّة بالإضافة إليكم خاصّة، و لا ربّ لكم سواه و بالنسبة إلى جميع العوالم فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ إنّه تعالى يقدّس نفسه بربوبيّته لجميع العوالم كما أنه بارك و قدّس ذاته بخليقته البديعة بأجمعها.
65- هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ... أي المتفرّد بحياته الذاتيّة لا إله إلّا هو بمعنى لا أحد يساويه في ذاته و في ألوهيّته فَادْعُوهُ يعني تفرّع على صفاته الخاصّة به المذكورة الّتي لا تليق بغيره أن العبادة منحصرة به فلذا أمر عباده أن يدعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي بشرط كونها خالصة من
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج6، ص: 235
الشّرك و الرّياء و هذا شرط قبولها و إذا وفّقوا لذلك فحينئذ يقولون:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و لما كانت قريش بل الكفّار مطلقا بكلمة واحدة كثيرا ما يرغبّون الرسول الأكرم في أن يدخل في ديدنهم و دينهم قال اللّه سبحانه و تعالى:
66- قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ... أي يا محمد قل لهؤلاء المشركين: أنا منهيّ عن عبادة آلهتكم التي تعبدونها حال كونهم غير اللّه الذي هو خالق كلّ شيء. فأدّب المشركين بألين بيان ليصرفهم عن عبادة الأوثان و بيّن أنّ وجه النّهي ما جاءه من البيّنات كما قاله سبحانه أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي أي بعد مجيء البراهين الواضحة و الدلائل السّاطعة على حقّانيّة معبودي و ديني من صفات القدرة و الخلق و الرزق، و العقل يحكم بأن العبادة لا تليق إلّا لمن كان موصوفا بهذه الصّفات، و يستنكر كمال الاستنكار و يستقبح غاية القبح أن يعبد أشرف المخلوقات أدنى المخلوقات و هي الجمادات و يجعله شريكا لمن هو الواجد للصّفات المذكورة، فأين التراب و ربّ الأرباب؟ وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي أخلص له و انقاد لأمره الذي يملك تدبير الخلائق و العوالم بحذافيرها. ثم إنه تعالى ما اكتفى بذكر ما سبق من الأدلة الدالة على التوحيد و إبطال الشّرك، بل أعاد ذكر الأدلة الأخر مبالغة و تأكيدا لما سبق و إتماما للحجّة على الكفرة المتمرّدين على الحق و الجحدة لنعمه فقال سبحانه:
67- هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ... أي خلق أباكم آدم من تراب و أنتم سلالته و إليه تنتمون. هذا و ما بعده من المراتب و الدرجات حجج ملازمة لذات البشر بحسب العادة النوعيّة، و كل عاقل و متدبّر إذا تدبّر في خلقته بهذه الكيفيّة يعترف و يقرّ إذا لم يكن من أهل الجحد و العناد بأن له خالقا قادرا يستحق العبادة، و غيره ليس بشيء ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي أنشأ
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج6، ص: 236
من الأصل الذي كان مخلوقا من التراب النطفة، و هي الماء القليل من الرجل و المرأة يختلط في رحمها ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي قطعة من الدم شبيهة بالعلقة يتشكّل المنيّ بعد مضيّ أربعين يوما بها ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ترك ذكر المراتب الأخر إلى أن ينفصل من بطن أمّه لأنه تعالى ذكرها في الآيات الأخر، أي أطفالا. و الطفل يطلق على الواحد و الجماعة، قال تعالى:
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي كمال قوتكم. و الجارّ متعلّق بمقدّر، أي يبقيكم لتبلغوا.
و بلوغ الأشدّ هو منتهى سنّ الشّباب من الثلاثين إلى الأربعين، و على هذا القياس قوله تعالى ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً يعني من سنّ الشّباب يبقيكم إلى أن تصيروا شيوخا و الشيخ أحد معانيه الذي هو محلّ حاجتنا في المقام من استبان فيه الشيب و هو بياض الشّعر وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أي قبل وصول الإنسان للمراتب الثلاث المذكورة بعد ولوج الرّوح على سبيل مانعة الخلّو وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى متعلّق بفعل مقدّر أي يفعل ذلك، أو يبقيكم لبلوغكم آجالكم المعلومات عند بارئكم جلّ و علا وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي تتعقلون تلك العوالم الماضية و هذه الانتقالات من عالم إلى آخر، و بتلك الحجج و العبر تستبصرون و تستبين لكم معرفة إلهكم و خالقكم.
68- هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ ... أي الذي أحياكم و خلقكم من تراب بالكيفيّة المزبورة هو الذي يميتكم و يرجعكم إلى أصلكم، فأوّلكم من تراب و آخركم إلى التراب، كما قال تعالى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى ، فَإِذا قَضى أَمْراً أي فإذا أراده و حكم عليه فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي يفعل ذلك بلا تجشم كلفة و بلا صوت و بلا احتياج إلى كلام و نطق حتى بحرف، و من غير عدّة فهو بمنزلة أن يقال له كن فيكون فبابه من باب التنزيل لا أنه بحسب الواقع لفظ يكون أو
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج6، ص: 237
كلام في البين لأنّه سبحانه يخاطب المعدوم في عالم الأمر بالتكوّن و المخاطبة في ذاك العالم لا تكون بلفظ بل خطابه قصده و مقارنا لتلك الإرادة.
و المراد أن الموجود يكون بلا فصل زماني، بل الإرادة و المراد مقترنان في الوجود تمام المقارنة. و التعبير بالفاء التي تدلّ على التقدّم و التأخّر الزمانيّ من باب التفهيم و التفاهم لعامّة الناس و تقريب المقصود إلى أفهامهم و المطالب الدّقيقة إلى أذهانهم، و إلّا فلم يكن بين إرادة اللّه و مراده في الإيجاد تقدّم و لا تأخر زماني. نعم التقدم و التأخّر الرّتبي لا بدّ و أن نقول به حيث إنه ما لم يكن قصد لم يكن مقصود، و بالجملة فاستدل سبحانه بهذه الصفات على كمال القدرة، و عبّر عن الإيجاد و الإعدام، و إن شئت قلت عن الإحياء و الإماتة بقوله: كن فيكون، أي الانتقال من كونه ترابا إلى النطفة و إلى كونه علقة، و إلى العظام. و في هذه الانتقالات على مقتضى الحكمة حصول تدريجي. و أمّا تعلّق جوهر الرّوح به فذلك يحدث دفعة واحدة. و لا يخفى أن تلك المراتب من عالم الخلق و لكن قضية تعلق الزمان من عالم الأمر فلعلّه لذلك عبر بقوله كن فيكون.
[سورة غافر (40): الآيات 69 الى 76]
الجديد فى تفسير القرآن المجيد، ج6، ص: 238
69- أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ ... ثم أن الكفّار مع كثرة الدلائل و البراهين الواضحة لمّا كانوا في مقام المنازعة و المخاصمة و لم يتوقفوا عنها لذلك قام في صدد تهديدهم يقول على سبيل التعجّب مخاطبا لرسوله صلّى اللّه عليه و آله: ألا ترى إلى هؤلاء المشركين المعاندين المخاصمين في آياتنا بلا حجة و لا سلطان أَنَّى يُصْرَفُونَ أي كيف يصرفون عن التّصديق بها مع كثرتها و وضوحها.