کتابخانه تفاسیر
الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين، ج1، ص: 57
و صلة بينهم و بينه تعالى.
و لعل تكرار الضمير، للتنصيص على التخصيص بالاستعانة، فينتفي توهم التخصيص بالأمرين و تقدير مفعول الاستعانة مؤخرا، و لبسط الكلام مع المحبوب، كآية هي عصاي. و لعل تقديم العبادة على الاستعانة، لتوافق الفواصل، و لكون تقديم الوسيلة، على طلب الحاجة ادعى إلى الاجابة، و لمناسبة تقديم مطلوبه تعالى من العباد، على مطلوبهم منه، و لان المتكلم لمّا نسب العبادة إلى نفسه كان كالمتعبد بما يصدر منه، فاستدراك ذلك، بان العبادة لا تتم إلا بمعونته، و لعلّ «1» إيثار صيغة المتكلم وحده، لملاحظة القارئ دخول الحفظة، او حاضري صلاة الجماعة، او كل موجود، و ان من شيء إلا يسبّح بحمده، او لان كل جارحة و عضو منه، تشتغل بذلك، أو لادخال عبادته و استعانته في عبادة الغير، إيذانا بحقارتها بانفرادها، و جعلها مع الغير كبيع الصفقة، إما أن يقبل الجميع، او يردّ الجميع، و هو تعالى أكرم من أن يرد الجميع، إذ لا بد من وجود عبادة مقبولة فيهم، كامام الزمان فيقبل الجميع، و للاحتراز عن الكذب، لو انفرد في ادّعائه قصر خضوعه التام، او استعانته عليه تعالى، و في الجمع يمكن ان يقصد تغليب الخلص على غيرهم فيصدق.
و لعل النكتة في الالتفات، من الغيبة إلى الخطاب، مضافا إلى التفنن في الكلام، و التطرية و تنشيط السامع، أنّ الأوصاف المذكورة أوجبت التميز و الانكشاف بحيث صار حاضرا مخاطبا، او ان القراءة، انما يعتدّ بها إذا صدرت عن قلب حاضر مقبل على المنعم، و لم يزل في ازدياد حتى أوجب الحضور، أو أن الحمد، اظهار مزايا المحمود، فالمخاطب به غيره تعالى، فالمناسب له طريق الغيبة، و العبادة و نحوها ينبغي كتمانها عن غير المعبود، للقرب إلى الإخلاص، و البعد عن الرياء، فناسبه طريق
(1) كذا في الأصل و لعلّ الأصح و لعلّ عدم إيثار آلخ.
الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين، ج1، ص: 58
الخطاب. او التلويح إلى قوله (ع) اعبد اللّه كأنك تراه، فان لم تكن تراه فانه يراك.
و عن الصادق (ع) لقد تجلّى اللّه لعباده في كلامه، و لكن لا يبصرون. و عنه (ع) أنه خرّ مغشيّا عليه، و هو في الصلاة، فسئل عن ذلك، فقال: ما زلت أردّدها، حتى سمعتها من المتكلم.
و في النبوي: إياك نعبد، اخلاص للعبادة، و إياك نستعين، أفضل ما طلب به العباد حوائجهم. و قال الرضا (ع) إياك نعبد رغبة و تقرّب إلى اللّه، و اخلاص له بالعمل، دون غيره، و إياك نستعين استزادة من توفيقه و عبادته، و استدامة لما أنعم اللّه عليه و نصره.
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فصل عمّا قبله لكمال الانقطاع، لتخالفهما خبرا و إنشاء. أو لكمال الاتصال، لأنه بيان للاعانة المطلوبة، كأنه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهدنا.
و الهداية: الدلالة بلطف، و ان لم توصل إلى المطلوب.
و قيل: الموصلة، و يدفعه، فهديناهم فاستحبوا العمى. و قيل: اراءة ما يوصل، و يدفعه، انك لا تهدي من أحببت. و قيل: ان تعدت إلى ثاني مفعوليها بنفسها، فالموصلة، و لا تسند إلا إليه تعالى، أو بالحرف، فالاراءة، و تسند إلى النبي (ص) و القرآن، و يدفعه، و هديناه النجدين، و الاسناد إلى غيره تعالى في فاتبعني أهدك صراطا سويا. و الحق استعمالها في الجميع.
قيل: و هداية اللّه تعالى تتنوع أنواعا لا يحصيها عدّ، لكنها تنحصر في أجناس مترتبة.
الأول: افاضة القوى و الحواس، لجلب النفع و دفع الضرر، اعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين، ج1، ص: 59
الثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق و الباطل، و هديناه النجدين.
الثالث: إرسال الرسل، و إنزال الكتب، و اما ثمود فهديناهم.
الرابع: ازالة الغواشي البدنية، و إراءة الأشياء كما هي بالوحي و الإلهام، او المنام الصادق، و الاستغراق في ملاحظة جماله و جلاله، و هذا يختص به الأنبياء، و الأولياء و نحوهم، أولئك الذين هدى اللّه، فبهداهم اقتده.
فغير الواصل، يطلب المرتبة الاخيرة، و الواصل يطلب الزيادة و الثبات، و الذين اهتدوا زادهم هدى.
و في المرتضوي: اهدنا ثبتنا، و الصراط الجادّة، من سرط الطعام اي ابتلعه، فكأنه يسترط السابلة «1» و هم يسترطونه، و جمعه سرط ككتب، و يذكّر و يؤنث كالسبيل، و أصله السين قلبت صادا لتطابق الطاء في الاطباق.
و قرأ ابن كثير بالأصل، و حمزة بالإشمام، و الباقون بالصاد، و هي لغة قريش. و الصراط المستقيم، صراط الأنبياء و هم الذين أنعم اللّه عليهم.
و روي انه كتاب اللّه، و في الصادقي: انه امير المؤمنين و معرفته، و فيه: و اللّه نحن الصراط المستقيم، و في آخر: هو الطريق إلى معرفة اللّه، و هما صراطان، صراط في الدنيا، و صراط في الآخرة، فاما الصراط في الدنيا، فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في
(1) السابلة: الذين يسيرون في الطريق.
الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين، ج1، ص: 60
الدنيا، و اقتدى به، مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، و من لم يعرفه في الدنيا، زلت قدمه عن الصراط في الآخرة، فتردّى في نار جهنم.
و عنه (ع) في وصفه ألف سنة صعود، و ألف سنة هبوط، و ألف سنة حدال «1» .
و سئل (ع) عن الصراط، فقال: هو أدّق من الشعر، و أحدّ من السيف، فمنهم من يمرّ عليه مثل البرق، و منهم من يمرّ عليه مثل عدو الفرس، و منهم من يمر عليه ماشيا، و منهم من يمر عليه حبوا، و منهم من يمرّ عليه متعلقا، فتأخذ النار منه شيئا، و تترك منه شيئا.
و عنه (ع) في الآية أرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك، و المبلغ دينك، و المانع من ان نتبع هوانا فنعطب، أو نأخذ بآرائنا فنهلك.
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ اشارة إلى قوله تعالى: أولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين كما عن علي و العسكري (ع).
و قيل المراد بهم المسلمون، فإنّ نعمة الإسلام اصل كل النعم، و قيل الأنبياء و هو بدل كل مما قبله.
و عن الصادق (ع) صراط الذين أنعمت عليهم يعني محمدا و ذريّتة، و الانعام إيصال النعمة، و هي في الأصل مصدر بمعنى الحالة المستلذة، ثم أطلقت على نفس الشيء المستلذ تسمية للسبب باسم المسبب.
قيل: و نعمه سبحانه على كثرتها، و تعذّر حصرها، و ان تعدوا نعمة
(1) حدال بكسر الحاء كما في هامش تفسير البرهان ص 47. و في لسان العرب أحدل قيل هو المائل العنق من خلقة أو وجع لا يملك ان يقيمه. حرف اللام مادة حدل.
الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين، ج1، ص: 61
اللّه لا تحصوها، ثمانية انواع، اما دنيوي موهبي روحاني، كافاضة العقل. او جسماني كخلق الأعضاء.
اما دنيوي كسبي روحاني، كتحلية النفس بالأخلاق الزكية، او جسماني كتزيين البدن بالهيئات المطبوعة.
و اما اخروي موهبي روحاني، كغفران ذنب من لم يتب، او جسماني كأنهار العسل.
و اما اخروي كسبي روحاني، كغفران ذنب التائب، او جسماني كاللذات الجسمانية المستجلبة بالطاعات. و المراد هنا الاربعة الاخيرة، و ما يكون وصلة إليها من الاربعة الأول لاشتراك المؤمن و الكافر فيما عدا ذلك.
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ . و الغضب ثوران النفس، لإرادة الانتقام، و اسناده إليه تعالى باعتبار الغاية كما مرّ في الرّحمة، و لعلّ العدول عن اسناده إليه صيغة المجهول بخلاف أنعمت و نحوه، لتأسيس مباني الرّحمة، فكأن الغضب و العذاب لم يصدر منه تعالى، و انما هو العمل السيء تجسّم، إنما هي أعمالكم، بخلاف الرّحمة، و الانعام، فإنها تفضّل منه تعالى لا يستوجبها العبد بفعله كما قال (ع) لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، و مثله في التصريح بالوعد و التعريض بالوعيد قوله: لئن شكرتم لأزيدنكم، و لئن كفرتم ان عذابي لشديد. و لم يقل لأعذبنكم.
و الضلال العدول عن الطريق النّبوي و لو خطأ، و شعبه كثيرة، بشهادة قوله (ص) ستفترق امّتي ثلاثا و سبعين فرقة، فرقة ناجية، و الباقون في النار.
و المشهور تفسير المغضوب عليهم باليهود، و الضالّين بالنصارى، لقوله تعالى في اليهود: منهم من لعنه اللّه و غضب عليه، و في النصارى قد ضلّوا
الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين، ج1، ص: 62
من قبل، و اضلّوا كثيرا.
و قيل المراد بهما مطلق الكفّار، و قيل مطلق من اتصف بذلك من الكفّار و غيرهم.
و غير: بدل كل من (الذين) اي ان المنعم عليهم هم الذين اسلموا من الغضب و الضلال، فيفيد التأكيد و التنصيص، او صفة، و يكون تعريف الموصوف و توغّل الصفة في النكارة مخرجا لأحدهما عن الصرافة «1» ، اما بجعل الموصول مقصودا به جماعة لا بأعيانهم، فيصير معهودا ذهنيا، فيجري مجرى النكرات، كالمعرف بلام الجنس المراد به فرد غير معيّن، او بجعل غير بالإضافة إلى ذي الضد الواحد معيّنا تعيّن المعارف فينكسر إبهامه، فيصح وصف المعرفة به.
تمّت و للّه الحمد سورة الفاتحة و تفسيرها.
(1) أي مخرجا عن صرفية التعريف للأول و التنكير للثاني.
الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين، ج1، ص: 63
سورة البقرة
مدنية، و قيل أول سورة نزلت بالمدينة و هي مائتان و ست، أو سبع و ثمانون آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 5]