کتابخانه تفاسیر
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 414
و الثاني: أنه خفّف الهمزة بإبدالها ألفا، فالتقت مع التنوين فحذفت لالتقاء الساكنين، كما يفعل ذلك بسائر المقصور، و الحسن قرأ: «خطاء» بوزن «سماء».
قوله: فَتَحْرِيرُ الفاء جواب الشرط، أو زائدة في الخبر إن كانت «من» بمعنى الذي، و ارتفاع «تحرير»:
إمّا على الفاعلية، أي: فيجب عليه تحرير و إما على الابتدائية و الخبر محذوف أي: فعليه تحرير، أو بالعكس أي:
فالواجب تحرير. و الدّية في الأصل مصدر، ثم أطلق على المال المأخوذ في القتل، و لذلك قال: «مسلّمة إلى أهله»، و الفعل لا يسلّم بل الأعيان، تقول: ودى يدي دية و وديا كوشى يشي شية، فحذفت فاء الكلمة، و نظيره في الصحيح اللام «زنة» و «عدة». و «إِلى أَهْلِهِ» متعلق ب «مُسَلَّمَةٌ» تقول: سلّمت إليه كذا، و يجوز أن يكون صفة ل «مُسَلَّمَةٌ» و فيه ضعف. و «خَطَأً» في قوله: «وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً» منصوب: إمّا على المصدر أي: قتلا خطأ، و إمّا على أنه مصدر في موضع الحال أي: ذا خطأ أو خاطئا.
قوله: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فيه قولان:
أحدهما: أنه استثناء منقطع.
و الثاني: أنه متصل، قال الزمخشري: «فإن قلت: بم تعلّق «أَنْ يَصَّدَّقُوا» و ما محلّه؟ قلت: تعلّق ب «عليه» أو ب «مُسَلَّمَةٌ» كأنه قيل: و تجب عليه الدّية أو يسلّمها إلا حين يتصدقون عليه، و محلّها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان، كقولهم: «اجلس ما دام زيد جالسا»، و يجوز أن يكون حالا من «أَهْلِهِ» بمعنى إلا متصدقين». و خطّأه الشيخ «1» في هذين التخريجين.
أما الأول فلأنّ النحويين نصّوا على منع قيام «أن» و ما بعدها مقام الظرف، و أنّ ذلك ما تختص به «ما» المصدرية لو قلت: «آتيك أن يصيح الديك» أي: وقت صياحه لم يجز.
و أما الثاني فنصّ سيبويه على منعه أيضا، قال «2» : في قول العرب: «أنت الرجل أن تنازل، أو أن تخاصم» أي: أنت الرجل نزالا و مخاصمة: «إنّ انتصاب هذا انتصاب المفعول من أجله، لأنّ المستقبل لا يكون حالا»، فكونه منقطعا هو الصواب. و قال أبو البقاء: «و قيل: هو متصل، و المعنى: فعليه دية في كل حال إلا في حال التصدّق عليه بها».
و الجمهور على «يَصَّدَّقُوا» بتشديد الصاد، و الأصل يتصدّقوا، فأدغمت التاء في الصاد. و نقل عن أبيّ هذا الأصل قراءة، و قرأ أبو عمرو في رواية عبد الوارث- و تعزى للحسن و أبي عبد الرحمن-: «تصدّقوا» بتاء الخطاب و الأصل: تتصدقوا بتاءين، فأدغمت الثانية. و قرىء: «تصدقوا» بتاء الخطاب و تخفيف الصاد، و هي كالتي قبلها، إلا أنّ تخفيف هذه بحذف إحدى التاءين: الأولى أو الثانية على خلاف في ذلك، و تخفيف الأولى بالإدغام.
قوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مفعوله محذوف أي: فمن لم يجد رقبة، و هي بمعنى وجدان الضالّ، فلذلك تعدّت لواحد. و قوله: «فَصِيامُ شَهْرَيْنِ» ارتفاعه على أحد الأوجه المذكورة في قوله: «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ» و قد مرّ. أي: فعليه صيام أو: فيجب عليه صيام أو فواجبه صيام. قال أبو البقاء: «و يجوز في غير القرآن النصب على «فليصم صوم
(1) انظر البحر المحيط (3/ 323).
(2) انظر الكتاب (1/ 195).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 415
شهرين». و فيه نظر لأنّ الاستعمال المعروف في ذلك أن يقال: «صمت شهرين و يومين»، و لا يقولون: صمت صوم- و لا صيام- شهرين.
قوله: تَوْبَةً في نصبه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مفعول من أجله تقديره: شرع ذلك توبة منه. قال أبو البقاء: «و لا يجوز أن يكون العامل «صوم» إلّا على حذف مضاف، أي: لوقوع توبة أو لحصول توبة» يعني أنه إنما احتاج إلى تقدير ذلك المضاف و لم يقل إن العامل هو الصيام؛ لأنه اختلّ شرط من شروط نصبه؛ لأنّ فاعل الصيام غير فاعل التوبة.
الثاني: أنها منصوبة على المصدر أي: رجوعا منه إلى التسهيل حيث نقلكم من الأثقل إلى الأخفّ، أو توبة منه أي: قبولا منه، من تاب عليه إذا قبل توبته، فالتقدير: تاب عليكم توبة.
الثالث: أنها منصوبة على الحال و لكن على حذف مضاف تقديره: فعليه كذا حال كونه صاحب توبة، و لا يجوز ذلك من غير تقدير هذا المضاف لأنك لو قلت: «فعليه صيام شهرين تائبا من اللّه» لم يجز. و «مِنَ اللَّهِ» في محلّ نصب لأنه صفة ل «تَوْبَةً» فيتعلّق بمحذوف.
و
مُتَعَمِّداً: حال من فاعل «يَقْتُلْ» ، و روي عن الكسائي سكون التاء كأنه فرّ من توالي الحركات.
و «خالِداً» نصب على الحال من محذوف، و فيه تقديران:
أحدهما: «يجزاها خالدا فيها»، فإن شئت جعلته حالا من الضمير المنصوب أو المرفوع،
و الثاني: «جازاه» بدليل «و غضب اللّه عليه و لعنه» فعطف الماضي عليه، فعلى هذا هي حال من الضمير المنصوب لا غير، و لا يجوز أن تكون حالا من الهاء في «جزاؤه» لوجهين:
أحدهما: أنه مضاف إليه، و مجيء الحال من المضاف إليه ضعيف أو ممتنع.
و الثاني: أنه يؤدي إلى الفصل بين الحال و صاحبها بأجنبي و هو خير المبتدأ الذي هو «جَهَنَّمُ» .
قوله تعالى:
فَتَبَيَّنُوا: قرأ الأخوان من التثبّت، و الباقون من البيان، قيل: هما متقاربان لأن من تثبّت في الشيء تبينه، قاله أبو عبيد، و صحّحه ابن عطية. و قال الفارسي: «التثبّت هو خلاف الإقدام و المراد التّأنّي، و التثبت أشد اختصاصا بهذا الموضع، يدل عليه قوله: وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً «1» أي: أشدّ وقعا لهم عمّا وعظوا به بأن لا يقدموا عليه» فاختار قراءة الأخوين. و عكس قوم فرجّحوا قراءة الجماعة قالوا: لأن المتثبّت قد لا يتبيّن، و قال الراغب:
«لأنه قلّ ما يكون إلا بعد تثبّت، و قد يكون التثبت و لا تبيّن، و قد قوبل بالعجلة في قوله عليه السّلام: «التبيّن من اللّه و العجلة من الشيطان» «2» . قلت: فهذا يقوي قراءة الأخوين أيضا. و تفعّل في كلتا القراءتين بمعنى استفعل الدال على الطلب أي: اطلبوا التثبت أو البيان.
و قوله: لِمَنْ أَلْقى اللام للتبليغ هنا، و «من» موصولة. أو موصوفة، و «أَلْقى» هنا ماضي اللفظ، إلا أنه
(1) سورة النساء، الآية (66).
(2) أخرجه الطبراني (26/ 79)، و ذكره العجلوني في كشف الخفا (1/ 350) مرسلا.
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 416
بمعنى المستقبل أي: لمن يلقي، لأنّ النهي لا يكون عمّا وقع و انقضى، و الماضي إذا وقع صلة صلح للمضيّ و الاستقبال. و قرأ نافع و ابن عامر و حمزة: «السّلم» بفتح السين و اللام من غير ألف، و باقي السبعة: «السَّلامَ» بألف، و روي عن عاصم: «السّلم» بكسر السين و سكون اللام. فأما «السَّلامَ» فالظاهر أنه التحية. و قيل:
الاستسلام و الانقياد، و السّلم- بفتحهما- الانقياد فقط، و كذا «السّلم» بالكسر و السكون. و الجحدري بفتحها و سكون اللام، و قد تقدّم القول فيها في البقرة «1» . فعليك بالالتفات إليه. و الجملة من قوله «لَسْتَ مُؤْمِناً» في محل نصب بالقول. و الجمهور على كسر الميم الثانية من «مُؤْمِناً» اسم فاعل، و أبو جعفر بفتحها اسم مفعول أي: لا نؤمّنك في نفسك، و تروى هذه القراءة عن علي و ابن عباس و يحيى بن يعمر.
قوله: تَبْتَغُونَ في محل نصب على الحال من فاعل «يقولوا» أي: لا تقولوا ذلك مبتغين. قوله:
«كَذلِكَ» هذا خبر ل «كان» قدّم عليها و على اسمها أي: كنتم من قبل الإسلام مثل من أقدم و لم يتثبّت. و قوله «فَمَنَّ اللَّهُ» الظاهر أن هذه الجملة من تتمة قوله «كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ» فهي معطوفة على الجملة قبلها. و قيل: بل هي من تتمة قوله «تَبْتَغُونَ» و الأول أظهر. و قوله: «فَتَبَيَّنُوا» قرئت كالتي قبلها فقيل: هي تأكيد لفظي للأولى، و قيل:
ليست للتأكيد لاختلاف متعلقهما، فإنّ تقدير الأول: «فتبيّنوا في أمر من تقتلونه»، و تقدير الثاني: فتبينوا نعمة اللّه، أو تثبّتوا فيها، و السياق يدل على ذلك، و لأنّ الأصل عدم التأكيد. و الجمهور على كسر همزة «إِنَّ اللَّهَ» ، و قرىء «2» بفتحها على أنها معمولة ل «تبيّنوا» أو على حذف لام العلة، و إن كان قد قرىء بالفتح مع التثبت فيكون على لام العلة لا غير. و المغانم: جمع «مغنم»، و هو يصلح للمصدر و الزمان و المكان، ثم يطلق على كل ما يؤخذ من مال العدو في الغزو، إطلاقا للمصدر على اسم المفعول نحو: «ضرب الأمير».
[سورة النساء (4): الآيات 95 الى 100]
قوله تعالى:
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: متعلق بمحذوف لأنه حال، و في صاحبها وجهان:
أحدهما: أنه القاعدون، فالعامل في الحال في الحقيقة يستوي.
(1) الآية (208).
(2) انظر البحر (3/ 330).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 417
و الثاني: أنه الضمير المستكنّ في «الْقاعِدُونَ» لأن «أل» بمعنى الذي، أي: الذين قعدوا في هذه الحال، و يجوز أن تكون «من» للبيان.
قوله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ قرأ ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و عاصم «غَيْرُ» بالرفع، و الباقون بالنصب، و الأعمش بالجر. و الرفع من وجهين:
أظهرهما: أنه على البدل من «الْقاعِدُونَ» و إنما كان هذا أظهر لأن الكلام نفي، و البدل معه أرجح لما قرّر في علم النحو.
و الثاني: أنه رفع على الصفة ل «الْقاعِدُونَ» ، و لا بد من تأويل ذلك لأن «غَيْرُ» لا تتعرّف بالإضافة، و لا يجوز اختلاف النعت و المنعوت تعريفا و تنكيرا، و تأويله: إمّا بأن القاعدين لمّا لم يكونوا ناسا بأعيانهم بل أريد بهم الجنس أشبهوا النكرة فوصفوا كما توصف، و إمّا بأن «غَيْرُ» قد تتعرّف إذا وقعت بين ضدّين، و هذا كما تقدم في إعراب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ «1» في أحد الأوجه، و هذا كلّه خروج عن الأصول المقررة فلذلك اخترت الأول، و مثله:
1648- و إذا أقرضت قرضا فاجزه
إنّما يجزي الفتى غير الجمل «2»
برفع «غَيْرُ» كذا ذكره أبو علي، و الرواية «ليس الجمل» عند غيره. و النصب على أحد ثلاثة أوجه:
الأول: النصب على الاستثناء من «الْقاعِدُونَ» و هو الأظهر لأنه المحدّث عنه.
و الثاني: من «الْمُؤْمِنِينَ» و ليس بواضح.
و الثالث: على الحال من «الْقاعِدُونَ» . و الجرّ على الصفة للمؤمنين، و تأويله كما تقدم في وجه الرفع على الصفة.
و قوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ كلا الجارّين متعلق ب «الْمُجاهِدُونَ» و «الْمُجاهِدُونَ» عطف على «الْقاعِدُونَ» .
قوله: «دَرَجَةً» فيها أربعة أوجه:
أحدها: أنها منصوبة على المصدر لوقوع «دَرَجَةً» موقع المرّة من التفضيل كأنه قيل: فضّلهم تفضيلة نحو:
«ضربته سوطا».
الثاني: أنها حال من «الْمُجاهِدِينَ» أي: ذوي درجة.
الثالث: أنها منصوبة انتصاب الظرف أي: في درجة و منزلة.
الرابع: انتصابها على إسقاط الخافض أي: بدرجة.
: وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى «كُلًّا» مفعول أول ل «وَعَدَ» مقدما عليه، و «الْحُسْنى» مفعول ثان.
و قرىء: و «كلّ» على الرفع بالابتداء، و الجملة بعده خبره، و العائد محذوف أي: وعده، و هذه كقراءة ابن عامر
(1) سورة الفاتحة، الآية (6).
(2) تقدم.
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 418
في سورة الحديد «1» وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى.
قوله «أَجْراً» في نصبه أربعة أوجه:
أحدها: النصب على المصدر من معنى الفعل الذي قبله لا من لفظه؛ لأن معنى «فَضَّلَ اللَّهُ» آجر.
الثاني: النصب على إسقاط الخافض أي: فضّلهم بأجر.
الثالث: النصب على أنه مفعول ثان؛ لأنه ضمّن «فَضَّلَ» أعطى، أي: أعطاهم أجرا تفضّلا منه.
الرابع: أنه حال من «دَرَجاتٍ» . قال الزمخشري: «و انتصب «أَجْراً» على الحال من النكرة التي هي «دَرَجاتٍ» مقدّمة عليها» و هو غير ظاهر؛ لأنه لو تأخّر عن «دَرَجاتٍ» لم يجز أن يكون نعتا ل «دَرَجاتٍ» لعدم المطابقة، لأنّ «دَرَجاتٍ» جمع، و «أجر» مفرد. كذا ردّه بعضهم، و هي غفلة، فإنّ «أَجْراً» مصدر، و الأفصح فيه أن يوّحّد و ذكّر مطلقا.
قوله تعالى:
دَرَجاتٍ: فيه ستة أوجه:
الأربعة المذكورة في «درجة».
و الخامس: أنه بدل من «أَجْراً» .
السادس:- ذكره ابن عطية- أنه منصوب بإضمار فعل على أن يكون تأكيدا للأجر كما تقول: «لك عليّ ألف درهم عرفا» كأنك قلت: أعرفها عرفا، و فيه نظر. و «مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً» عطف على درجات، و يجوز فيهما النصب بفعلهما أي: و غفر لهم مغفرة و رحمهم رحمة.
قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ: «تَوَفَّاهُمُ» يجوز أن يكون ماضيا، و إنما لم تلحق علامة التأنيث للفعل لأن التأنيث مجازي، و يدل على كونه فعلا ماضيا قراءة «توفّتهم» «2» بتاء التأنيث، و يجوز أن يكون مضارعا حذفت إحدى التاءين منه، و الأصل: تتوفاهم.
و «ظالِمِي» حال من ضمير «تَوَفَّاهُمُ» و الإضافة غير محضة، إذ الأصل: ظالمين أنفسهم. و في خبر «إنّ» هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه محذوف تقديره: إنّ الذين توفّاهم الملائكة هلكوا، و يكون قوله: «قالوا: فيم كنتم» مبيّنا لتلك الجملة المحذوفة.
الثاني: أنه «فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ» و دخلت الفاء زائدة في الخبر تشبيها للموصول باسم الشرط، و لم تمنع «إِنَّ» من ذلك، و الأخفش يمنعه، و على هذا فيكون قوله: «قالُوا: فِيمَ كُنْتُمْ» إمّا صفة ل «ظالِمِي» أو حالا للملائكة، و «قد» معه مقدرة عند من يشترط ذلك، و على القول بالصفة فالعائد محذوف أي: ظالمين أنفسهم قائلا لهم الملائكة.
(1) انظر الآية (10).
(2) انظر البحر (3/ 334).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 419
الثالث: أنه «قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ» ، و لا بد من تقدير العائد أيضا أي: قالوا لهم كذا، و «فِيمَ» خبر «كُنْتُمْ» ، و هي «ما» الاستفهامية حذفت ألفها حين جرّت، و قد تقدّم تحقيق ذلك عند قوله: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ «1» الجملة من قوله: «فِيمَ كُنْتُمْ» في محل نصب بالقول. و «فِي الْأَرْضِ» متعلق ب «مُسْتَضْعَفِينَ» ، و لا يجوز أن يكون «فِي الْأَرْضِ» هو الخبر، و «مُسْتَضْعَفِينَ» حالا، كما يجوز ذلك في نحو: «كان زيد قائما في الدار» لعدم الفائدة في هذا الخبر.
قوله: فَتُهاجِرُوا منصوب في جواب الاستفهام، و قد تقدّم تحقيق ذلك. و قال أبو البقاء: «أَ لَمْ تَكُنْ» استفهام بمعنى التوبيخ، «فَتُهاجِرُوا» منصوب على جواب الاستفهام، لأنّ النفي صار إثباتا بالاستفهام». انتهى.
قوله: «لأنّ النفي» إلى آخره لا يظهر تعليلا لقوله «منصوب على جواب الاستفهام» لأن ذلك لا يصحّ، و كذا لا يصحّ جعله علة لقوله «بمعنى التوبيخ». و «ساءَتْ» : قد تقدم القول في «ساء» «2» ، و أنها تجري مجرى «بئس» فيشترط في فاعلها ما يشترط في فاعل تيك. و «مَصِيراً» تمييز.
قوله تعالى:
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ: في هذا الاستثناء قولان:
أحدهما: أنه متصل، و المستثنى منه قوله: «فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ» . و الضمير يعود على المتوفّين ظالمي أنفسهم، قال هذا القائل: كأنه قيل: فأولئك في جهنم إلا المستضعفين، فعلى هذا يكون استثناء متصلا.
و الثاني: و هو الصحيح- أنه منقطع؛ لأن الضمير في «مَأْواهُمْ» عائد على قوله: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ» ، و هؤلاء المتوفّون: إمّا كفار أو عصاة بالتخلف، على ما قال المفسرون، و هم قادرون على الهجرة فلم يندرج فيهم المستضعفون فكان منقطعا. و «مِنَ الرِّجالِ» حال من المستضعفين، أو من الضمير المستتر فيهم، فيتعلّق بمحذوف.
قوله: لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً في هذه الجملة أربعة أوجه:
أحدها: أنها مستأنفة جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل: ما وجه استضعافهم؟ فقيل: كذا.
و الثاني: أنها حال. قال أبو البقاء: «حال مبيّنة عن معنى الاستضعاف» قلت: كأنه يشير إلى المعنى الذي قدّمته في كونها جوابا لسؤال مقدر.
و الثالث: أنها مفسرة لنفس المستضعفين؛ لأنّ وجوه الاستضعاف كثيرة فبيّن بأحد محتملاته كأنه قيل: إلا الذين استضعفوا بسبب عجزهم عن كذا و كذا.
و الرابع: أنها صفة للمستضعفين أو للرجال و من بعدهم، ذكره الزمخشري، و اعتذر عن وصف ما عرّف بالألف و اللام بالجمل التي في حكم النكرات بأن المعرّف بهما لما لم يكن معيّنا جاز ذلك فيه كقوله:
1649- و لقد أمرّ على اللّئيم يسبّني
... «3»
و قد قدّمت تقرير المسألة مرارا.
(1) سورة البقرة، الآية (91).
(2) انظر الكلام عليها في سورة النساء، الآية (22).
(3) تقدم.
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 420
و
مُهاجِراً: نصب على الحال من فاعل «يَخْرُجْ» «1» . قوله: ثُمَّ يُدْرِكْهُ الجمهور على جزم «يُدْرِكْهُ» عطفا على الشرط قبله، و جوابه «فَقَدْ وَقَعَ» ، و قرأ الحسن البصري بالنصب. قال ابن جني: «و هذا ليس بالسهل و إنما بابه الشعر لا القرآن، و أنشد:
1650- و سأترك منزلي لبني تميم
و ألحق بالحجاز فأستريحا «2»
و الآية أقوى من هذا لتقدّم الشرط قبل المعطوف»، يعني أن النصب بإضمار «أن» إنما يقع بعد الواو و الفاء في جواب الأشياء الثمانية أو عاطف، على تفصيل موضوعه كتب النحو، و النصب بإضمار «أن» في غير تلك المواضع ضرورة كالبيت المتقدم، و كقول الآخر:
1651- ...
و يأوي إليها المستجير فيعصما «3»
و تبع الزمخشري أبا الفتح في ذلك، و أنشد البيت الأول. و هذه المسألة جوّزها الكوفيون لمدرك آخر و هو أن الفعل الواقع بين الشرط و الجزاء يجوز فيه الرفع و النصب و الجزم إذا وقع بعد الواو و الفاء، و استدلّوا بقول الشاعر:
1652- و من لا يقدّم رجله مطمئنّة
فيثبتها في مستوى القاع يزلق «4»
و قول الآخر:
1653- و من يقترب منّا و يخضع نؤوه
و لا يخش ظلما ما أقام و لا هضما «5»
و إذا ثبت ذلك في الواو و الفاء فليجز في «ثُمَّ» لأنها حرف عطف. و قرأ النخعي و طلحة بن مصرف برفع الكاف، و خرّجها ابن جني على إضمار مبتدأ أي: «ثم هو يدركه الموت»، فعطف جملة اسمية على فعلية، و هي جملة الشرط: الفعل المجزوم و فاعله، و على ذلك حمل يونس قول الأعشى:
1654- إن تركبوا فركوب الخيل عاداتنا
أو تنزلون فإنّا معشر نزل «6»
أي: و أنتم تنزلون، و مثله:
1655- إن تذنبوا ثمّ تأتيني بقيّتكم
فما عليّ بذنب عندكم حوب «7»
أي: ثم أنتم تأتيني. قلت: يريد أنه لا يحمل على إهمال الجازم فيرفع الفعل بعده، كما رفع في:
1656- ألم يأتيك ...
... «8»
(1) انظر البحر (3/ 337).
(2) تقدم.
(3) تقدم.
(4) البيت لزهير انظر ديوانه (71)، البحر (3/ 337).
(5) انظر البيت في المغني (2/ 566)، التصريح (2/ 251)، الأشموني (4/ 251)، شذور الذهب (422).
(6) تقدم.
(7) البيت لرويشد الطائي انظر شرح ديوان الحماسة للمرزوقي-- (1/ 168)، اللسان (بقى).
(8) جزء بيت لقيس بن زهير و تمامه.
... و الأمناء تنحى
بما لاقت لبون بني زياد