کتابخانه تفاسیر
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 456
مثل هذا الكلام بليغ» و تسمية مثل هذا «جواب» غير معروف لغة و صناعة. و قدّره أبو البقاء: «فبما نقضهم ميثاقهم طبع على قلوبهم، أو لعنوا. و قيل: تقديره: فبما نقضهم لا يؤمنون، و الفاء زائدة». انتهى. و هذا الذي أجازه أبو البقاء تعرّض له الزمخشري و ردّه فقال: «فإن قلت: فهلّا زعمت أنّ المحذوف الذي تعلّقت به الباء ما دل عليه قوله «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ ، فيكون التقدير: فبما نقضهم طبع اللّه على قلوبهم، بل طبع اللّه عليها بكفرهم ردّ و إنكار لقولهم:
«قُلُوبُنا غُلْفٌ» فكان متعلقا به».
قال الشيخ «1» : «و هو جواب حسن، و يمتنع من وجه آخر و هو أنّ العطف ب «بَلْ» للإضراب، و الإضراب إبطال أو انتقال، و في كتاب اللّه في الإخبار لا يكون إلا للانتقال، و يستفاد من الجملة الثانية ما لا يستفاد من الأولى، و الذي قدّره الزمخشري لا يسوغ فيه الذي قررناه، لأنّ قوله: «فبما نقضهم ميثاقهم و كفرهم بآيات اللّه و قولهم قلوبنا غلف طبع اللّه» هو مدلول الجملة التي صحبتها بَلْ» ، فأفادت الثانية ما أفادت الأولى، و لو قلت: «مرّ زيد بعمرو، بل مرّ زيد بعمرو» لم يجز». و قدّره الزمخشري «فعلنا بهم ما فعلنا».
قوله: بَلْ طَبَعَ هذا إضراب عن الكلام المتقدم أي: ليس الأمر كما قالوا من قولهم: «قُلُوبُنا غُلْفٌ» .
و أظهر القرّاء لام بل في «طَبَعَ» إلا الكسائي فأدغم من غير خلاف، و عن حمزة خلاف. و الباء في «بِكُفْرِهِمْ» يحتمل أن تكون للسببية، و أن تكون للآلة كالباء في «طبعت بالطين على الكيس» يعني أنه جعل الكفر كالشيء المطبوع به أي مغطّيا عليها، فيكون كالطابع. و قوله: «إِلَّا قَلِيلًا» يحتمل النصب على نعت مصدر محذوف أي: إلا إيمانا قليلا، و يحتمل كونه نعتا لزمان محذوف أي: زمانا قليلا، و لا يجوز أن يكون منصوبا على الاستثناء من فاعل «يُؤْمِنُونَ» أي: إلا قليلا منهم فإنهم يؤمنون، لأنّ الضمير في «لا يؤمنون» عائد على المطبوع على قلوبهم، و من طبع على قلبه بالكفر فلا يقع منه الإيمان.
[سورة النساء (4): الآيات 156 الى 159]
قوله تعالى:
وَ بِكُفْرِهِمْ: فيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على «ما» في قوله: «فَبِما نَقْضِهِمْ» فيكون متعلقا بما تعلق به الأول.
الثاني: أنه عطف على «بِكُفْرِهِمْ» الذي بعد «طَبَعَ» . و قد أوضح الزمخشري ذلك غاية الإيضاح، و اعترض و أجاب بأحسن جواب، فقال: فإن قلت: علام عطف قوله «وَ بِكُفْرِهِمْ» ؟ قلت: الوجه أن يعطف على «فَبِما نَقْضِهِمْ» و يجعل قوله: «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ» كلاما يتبع قوله: «وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ» على وجه الاستطراد،
(1) انظر البحر المحيط (3/ 389).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 457
و يجوز عطفه على ما يليه من قوله «بِكُفْرِهِمْ» . فإن قلت: فما معنى المجيء بالكفر معطوفا على ما فيه ذكره؟ سواء عطف على ما قبل الإضراب، أو على ما بعده، و هو قوله: «وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ» و قوله «بِكُفْرِهِمْ» . قلت: قد تكرر منهم الكفر؛ لأنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد، فعطف بعض كفرهم على بعض، أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه، كأنه قيل: فبجمعهم بين نقض الميثاق، و الكفر بآيات اللّه، و قتل الأنبياء، و قولهم: قلوبنا غلف، و جمعهم بين كفرهم و بهتهم مريم و افتخارهم بقتل عيسى عاقبناهم، أو بل طبع اللّه عليها بكفرهم و جمعهم بين كفرهم كذا و كذا».
قوله: بُهْتاناً في نصبه خمسة أوجه:
أظهرها: أنه مفعول به، فإنه مضمّن معنى «كلام» نحو: قلت خطبة و شعرا.
الثاني: أنه منصوب على نوع المصدر كقولهم: «قعد القرفصاء» يعني أن القول يكون بهتانا و غير بهتان.
الثالث: أن ينتصب نعتا لمصدر محذوف أي: قولا بهتانا، و هو قريب من معنى الأول.
الرابع: أنه منصوب بفعل مقدر من لفظه أي: بهتوا بهتانا.
الخامس: أنه حال من الضمير المجرور في قولهم أي: مباهتين، و جاز مجيء الحال من المضاف إليه لأنه فاعل معنى، و التقدير: و بأن قالوا ذلك مباهتين.
قوله تعالى:
وَ قَوْلِهِمْ: عطف على «و كفرهم» و «عِيسَى» بدل من «الْمَسِيحَ» أو عطف بيان، و كذلك «ابْنَ مَرْيَمَ» ، و يجوز أن يكون صفة أيضا، و أجاز أبو البقاء في «رَسُولَ اللَّهِ» هذه الأوجه الثلاثة، إلّا أنّ البدل بالمشتقات قليل. و قد يقال: إنّ «رَسُولَ اللَّهِ» جرى مجرى الجوامد و أجاز فيه أن ينتصب بإضمار «أعني»، و لا حاجة إليه.
قوله «شُبِّهَ لَهُمْ» : «شُبِّهَ» مبني للمفعول و فيه وجهان:
أحدهما: أنه مسند للجار بعده كقولك: «حيل إليه، و لبس عليه».
و الثاني: أنه مسند لضمير المقتول الذي دلّ عليه قولهم: «إِنَّا قَتَلْنَا» أي: و لكن شبّه لهم من قتلوه. فإن قيل:
لم لا يجوز أن يعود على المسيح؟ فالجواب أن المسيح مشبه به لا مشبه.
قوله: لَفِي شَكٍّ مِنْهُ: «مِنْهُ» في محلّ جر صفة ل «شَكٍّ» يتعلّق بمحذوف، و لا يجوز أن تتعلّق فضلة بنفس «شَكٍّ» ؛ لأن الشك إنما يتعدّى ب «في» لا ب «من»، و لا يقال: إنّ «مِنْ» بمعنى «في» فإن ذلك قول مرجوح، و لا ضرورة لنا به هنا.
و قوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ يجوز في «مِنْ عِلْمٍ» وجهان:
أحدهما: أنه مرفوع بالفاعلية و العامل أحد الجارّين: إمّا «لَهُمْ» و إما «بِهِ» ، و إذا جعل أحدهما رافعا له تعلّق الآخر بما تعلّق به الرافع من الاستقرار المقدر. و «مِنْ» زائدة لوجود شرطي الزيادة.
و الوجه الثاني: أن يكون «مِنْ عِلْمٍ» مبتدأ زيدت فيه «مِنْ» أيضا، و في الخبر احتمالان، أحدهما: أن يكون
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 458
«لَهُمْ» فيكون «بِهِ» : إمّا حالا من الضمير المستكنّ في الخبر، و العامل فيها الاستقرار المقدر، و إمّا حالا من «عِلْمٍ» و إن كان نكرة لتقدّمها عليه و لاعتماده على نفي. فإن قيل: يلزم تقدّم حال المجرور بالحرف عليه و هو ضرورة لا يجوز في سعة الكلام. فالجواب أنّا لا نسلّم ذلك، بل نقل أبو البقاء و غيره أنّ مذهب أكثر البصريين جواز ذلك، و لئن سلّمنا أنه لا يجوز إلا ضرورة لكن المجرور هنا مجرور بحرف جر زائد، و الزائد في حكم المطّرح، و أمّا أن يتعلّق بمحذوف على سبيل البيان أي: أعني به، ذكره أبو البقاء، و لا حاجة إليه، و لا يجوز أن يتعلق بنفس «عِلْمٍ» لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه. و الاحتمال الثاني: أن يكون «بِهِ» هو الخبر، و «لَهُمْ» متعلق بالاستقرار كما تقدم، و يجوز أن تكون اللام مبيّنة مخصصة كالتي في قوله: وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «1» . و هذه الجملة المنفية تحتمل ثلاثة أوجه:
الجر على أنها صفة ثانية ل «شَكٍّ» أي: غير معلوم.
الثاني: النصب على الحال من «شَكٍّ» ، و جاز ذلك و إن كان نكرة لتخصّصه بالوصف بقوله «مِنْهُ» .
الثالث: الاستئناف، ذكره أبو البقاء، و هو بعيد.
قوله: إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ في هذا الاستثناء قولان:
أحدهما: و هو الصحيح الذي لم يذكر الجمهور غيره أنه منقطع؛ لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم، و لم يقرأ فيما علمت إلا بنصب «اتِّباعَ» على أصل الاستثناء المنقطع، و هي لغة الحجاز، و يجوز في تميم الإبدال من «عِلْمٍ» لفظا فيجرّ، أو على الموضع فيرفع لأنه مرفوع المحل كما قدّمته لك، و «مِنْ» زائدة فيه.
و الثاني:- قاله ابن عطية-: أنه متصل قال: «إذ العلم و الظن يضمهما جنس أنهما من معتقدات اليقين، يقول الظانّ على طريق التجوّز: «علمي في هذا الأمر كذا» إنما يريد ظني» انتهى. و هذا غير موافق عليه لأن الظنّ ما ترجّح فيه أحد الطرفين، و اليقين ما جزم فيه بأحدهما، و على تقدير التسليم فاتباع الظن ليس من جنس العلم، بل هو غيره، فهو منقطع أيضا أي: و لكنّ اتباع الظن حاصل لهم.
قوله: وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً الضمير في «قَتَلُوهُ» فيه أقوال:
أظهرها: أنه لعيسى، و عليه جمهور المفسرين.
و الثاني:- و به قال ابن قتيبة و الفراء- أنه يعود على العلم أي: ما قتلوا العلم يقينا، على حد قولهم: «قتلت العلم و الرأي يقينا» و «قلته علما»، و وجه المجاز فيه أن القتل للشيء يكون عن قهر و استعلاء، فكأنه قيل: و ما كان علمهم علما أحيط به، إنما كان عن ظن و تخمين.
الثالث:- و به قال ابن عباس و السدي و طائفة كبيرة- أنه يعود للظن تقول: «قتلت هذا الأمر علما و يقينا» أي:
تحققت، فكأنه قيل: و ما صحّ ظنهم عندهم و ما تحققوه يقينا و لا قطعوا الظن باليقين.
قوله: يَقِيناً فيه خمسة أوجه:
(1) سورة الإخلاص، الاية (4).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 459
أحدها: أنه نعت مصدر محذوف أي: قتلا يقينا.
الثاني: أنه مصدر من معنى العامل قبله كما تقدم مجازه، لأنه في معناه أي: و ما تيقنوه يقينا.
الثالث: أنه حال من فاعل «قَتَلُوهُ» أي: و ما قتلوه متيقنين لقتله.
الرابع: أنه منصوب بفعل من لفظه حذف للدلالة عليه. أي: ما تيقّنوه يقينا، و يكون مؤكدا لمضمون الجملة المنفية قبله. و قدّر أبو البقاء العامل على هذا الوجه مثبتا فقال: «تقديره: تيقنوا ذلك يقينا» و فيه نظر.
الخامس:- و ينقل عن أبي بكر بن الأنباري- أنه منصوب بما بعد «بَلْ» من قوله:
«رَفَعَهُ اللَّهُ» و أن في الكلام 158 تقديما و تأخيرا أي: بل رفعه اللّه إليه يقينا، و هذا قد نصّ الخليل فمن دونه على منعه، أي: إن «بَلْ» لا يعمل ما فيما قبلها، فينبغي ألا يصحّ عنه، و قوله: «بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ» ردّ لما ادّعوه من قتله و صلبه. و الضمير في «إِلَيْهِ» عائد على «اللَّهُ» على حذف مضاف أي: إلى سمائه و محلّ أمره و نهيه.
تعالى:
وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: «إِنْ» هنا نافية بمعنى «ما» و «مِنْ أَهْلِ» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنه صفة لمبتدأ محذوف، و الخبر الجملة القسمية المحذوفة و جوابها، و التقدير: و ما أحد من أهل الكتاب إلا و اللّه ليؤمننّ به، فهو كقوله: وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «1» أي: ما أحد منا، و كقوله: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «2» أي: ما أحد منكم إلّا واردها، هذا هو الظاهر.
و الثاني:- و به قال الزمخشري و أبو البقاء- أنه في محلّ الخبر، قال الزمخشري: «و جملة «لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ» جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: و إن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به، و نحوه: وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها و المعنى: و ما من اليهود أحد إلا ليؤمن».
قال الشيخ «3» : و هو غلط فاحش، إذ زعم أن «لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ» جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف إلى آخره، و صفة «أحد» المحذوف إنما هو الجار و المجرور كما قدّرناه، و أمّا قوله: «لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ» فليست صفة لموصوف و لا هي جملة قسمية، إنما هي جملة جواب القسم، و القسم محذوف، و القسم و جوابه خبر للمبتدأ، إذ لا ينتظم من «أحد» و المجرور إسناد لأنه لا يفيد، و إنما ينتظم الإسناد بالجملة القسمية و جوابها، فذلك هو محطّ الفائدة، و كذلك أيضا الخبر هو «إلّا له مقام»، و كذلك «إلا واردها» إذ لا ينتظم مما قبل «إلا» تركيب إسنادي». و هذا- كما ترى- قد أساء العبارة في حق الزمخشري بما زعم أنه غلط و هو صحيح مستقيم، و ليت شعري كيف لا ينتظم الإسناد من «أحد» الموصوف بالجملة التي بعده و من الجارّ قبله؟ و نظيره أن تقول: «ما في الدار رجل إلا صالح» فكما أن «في الدار» خبر مقدم، و «رجل» مبتدأ مؤخر، و «إلا صالح» صفته، و هو كلام مفيد مستقيم، فكذلك هذا، غاية ما في الباب أنّ «إلا» دخلت على الصفة لتفيد الحصر. و أما ردّه عليه حيث قال: جملة قسمية، و إنما هي جواب القسم فلا يحتاج إلى الاعتذار عنه، و يكفيه مثل هذه الاعتراضات.
و اللام في «لَيُؤْمِنَنَّ» جواب قسم محذوف كما تقدّم. و قال أبو البقاء: «لَيُؤْمِنَنَ جواب قسم محذوف، و قيل:
أكّد بها في غير القسم كما جاء في النفي و الاستفهام» فقوله: «و قيل إلى آخره» إنما يستقيم ذلك إذا أعدنا الخلاف إلى
(1) سورة الصافات، الآية (164).
(2) سورة مريم، الآية (71).
(3) انظر البحر المحيط (3/ 292).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 460
نون التوكيد؛ لأنّ نون التوكيد قد عهد التأكيد بها في الاستفهام باطّراد، و في النفي على خلاف فيه، و أما التأكيد بلام الابتداء في النفي و الاستفهام فلم يعهد البتة. و قال أيضا قبل ذلك: «و ما من أهل الكتاب أحد، و قيل: المحذوف «مِنْ» و قد مرّ نظيره، إلا أنّ تقدير «من» هنا بعيد، لأن الاستثناء يكون بعد تمام الاسم، و «من» الموصولة و الموصوفة غير تامة» يعني أنّ بعضهم جعل ذلك المحذوف لفظ «من» فيقدّر: و إن من أهل من إلا ليؤمننّ، فجعل موضع «أحد» لفظ «من» و قوله: «و قد مر نظيره» يعني قوله تعالى: وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ «1» و معنى التنظير فيه أنه قد صرّح بلفظ «من» المقدّرة ههنا.
و قرأ أبيّ: «ليؤمننّ به قبل موتهم» بضم النون الأولى مراعاة لمعنى «أحد» المحذوف، و هو و إن كان لفظه مفردا فمعناه جمع. و الضمير في «به» لعيسى. و قيل: للّه تعالى، و قيل: لمحمد عليه السّلام. و في «مَوْتِهِ» لعيسى. و يروى في التفسير أنه حين ينزل إلى الأرض يؤمن به كلّ أحد حتى تصير الملة كلها إسلامية. و قيل: يعود على «أحد» المقدر، أي: لا يموت كتابي حتى يؤمن بعيسى، و نقل عن ابن عباس ذلك، فقال له عكرمة:
«أفرأيت إن خرّ من بيت أو احترق أو أكله سبع» قال: لا يموت حتى يحرّك بها شفتيه أي: بالإيمان بعيسى. و قرأ الفياض بن غزوان: «و إنّ من أهل الكتاب» بتشديد «إنّ» و هي قراءة مردودة لإشكالها. قوله: «وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ» العامل فيه «شَهِيداً» و فيه دليل على جواز تقدّم خبر «كان» عليها، لأنّ تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل. و أجاز أبو البقاء أن يكون منصوبا ب «يَكُونُ» و هذا على رأي من يجيز ل «كان» أن تعمل في الظرف و شبهه. و الضمير في «يَكُونُ» لعيسى، و قيل: لمحمد عليه السّلام.
[سورة النساء (4): الآيات 160 الى 162]
قوله تعالى:
فَبِظُلْمٍ: هذا الجارّ متعلق ب «حَرَّمْنا» و الباء سببية، و إنما قدّم على عامله تنبيها على قبح سبب التحريم، و قد تقدّم أنّ قوله: «فَبِظُلْمٍ» بدل من قوله: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ» ، و تقدّم الردّ على قائله أيضا فأغنى عن إعادته. و «مِنَ الَّذِينَ» صفة ل «ظلم» أي: ظلم صادر من الذين هادوا. و قيل: ثمّ صفة للظلم محذوفة للعلم بها أي: فبظلم أيّ ظلم، أو فبظلم عظيم كقوله:
1681- فلا و أبي الطّير المربّة بالضّحى
على خالد لقد وقعت على لحم «2»
أي: لحم عظيم.
قوله: أُحِلَّتْ لَهُمْ هذه الجملة صفة ل «طَيِّباتٍ» فمحلّها نصب، و معنى وصفها بذلك أي: بما كانت
(1) سورة آل عمران، الآية (199).
(2) تقدم.
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 461
عليه من الحلّ، و يوضّحه قراءة ابن عباس: «كانت أحلّت لهم». قوله: «كَثِيراً» فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه مفعول به أي: بصدّهم ناسا أو فريقا أو جمعا كثيرا. و قيل: نصبه على المصدرية أي: صدّا كثيرا. و قيل: على ظرفية الزمان أي: زمانا كثيرا، و الأول أولى، لأنّ المصادر بعدها ناصبة لمفاعيلها، فيجري الباب على سنن واحد، و إنما أعيدت الباء في قوله: «وَ بِصَدِّهِمْ» و لم تعد في قوله: «وَ أَخْذِهِمُ» و ما بعده لأنه قد فصل بين المعطوف و المعطوف عليه بما ليس معمولا للمعطوف عليه، بل بالعامل فيه و هو «حَرَّمْنا» و ما تعلق به، فلمّا بعد المعطوف من المعطوف عليه بالفصل بما ليس معمولا للمعطوف عليه أعيدت الباء لذلك، و أمّا ما بعده فلم يفصل فيه إلا بما هو معمول للمعطوف عليه و هو «الرِّبَوا» .
و الجملة من قوله تعالى:
وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ: في محلّ نصب لأنها حالية، و نظير ذلك في إعادة الحرف و عدم ما تقدّم في قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ «1» الآية. و «بِالْباطِلِ» يجوز أن يتعلق ب «أَكْلِهِمْ» على أنها سببية أو بمحذوف على أنها حال من «هم» في «أَكْلِهِمْ» أي: ملتبسين بالباطل.
قوله تعالى:
لكِنِ الرَّاسِخُونَ: جيء هنا ب «لكِنِ» لأنها بين نقيضين، و هما الكفار و المؤمنون.
و «الرَّاسِخُونَ» مبتدأ، و في خبره احتمالان:
أظهرهما: أنه «يُؤْمِنُونَ» .
الثاني: أنه الجملة من قوله: «أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ» . و «فِي الْعِلْمِ» متعلق ب «الرَّاسِخُونَ» . و «مِنْهُمْ» متعلق بمحذوف لأنه حال من الضمير المستكنّ في «الرَّاسِخُونَ» .
: «وَ الْمُؤْمِنُونَ» عطف على «الرَّاسِخُونَ» ، و في خبره الوجهان المذكوران في خبر «الرَّاسِخُونَ» ، و لكن إذا جعلنا الخبر «أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ» فيكون يؤمنون ما محلّه؟ و الذي يظهر أنه جملة اعتراض لأنّ فيه تأكيدا و تسديدا للكلام، و يكون الضمير في «يُؤْمِنُونَ» يعود على الرَّاسِخُونَ» و «الْمُؤْمِنُونَ» جميعا، و يجوز أن تكون حالا منهما، و حينئذ لا يقال: إنها حال مؤكدة لتقدّم عامل مشارك لها لفظا؛ لأنّ الإيمان فيها مقيد، و الإيمان الأول مطلق، فصار فيها فائدة لم تكن في عاملها، و قد يقال: إنها مؤكدة بالنسبة لقوله: «يُؤْمِنُونَ» ، و غير مؤكدة بالنسبة لقوله:
قوله: وَ الْمُقِيمِينَ قراءة الجمهور بالياء، و قرأ جماعة كثيرة: «و المقيمون» بالواو منهم ابن جبير و أبو عمرو بن العلاء في رواية يونس و هارون عنه، و مالك بن دينار و عصمة «2» عن الأعمش، و عمرو بن عبيد، و الجحدري و عيسى بن عمر و خلائق. فأما قراءة الياء فقد اضطربت فيها أقوال النحاة، و فيها ستة أقوال:
أظهرها:- و عزاه مكي لسيبويه «3» ، و أبو البقاء للبصريين- أنه منصوب على القطع، يعني المفيد للمدح كما في قطع النعوت، و هذا القطع مفيد لبيان فضل الصلاة فكثر الكلام في الوصف بأن جعل في جملة أخرى، و كذلك
(1) سورة النساء، الآية (155).
(2) عصمة بن عروة أبو نجيح الفقيمي البصري. روى القراءة عن أبي عمرو بن العلاء و عاصم بن أبي النجود و روى أيضا حروفا عن أبي بكر بن عياش و الأعمش و معرور بن موسى.-- سئل عنه أبو حاتم فقال مجهول. انظر غاية النهاية (1/ 512).
(3) انظر الكتاب (1/ 248، 249).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 462
القطع في قوله «وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ» على ما سيأتي هو لبيان فضلها أيضا، لكن على هذا الوجه يجب أن يكون الخبر قوله: «يُؤْمِنُونَ» ، و لا يجوز أن يكون قوله: «أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ» لأن القطع إنما يكون بعد تمام الكلام. قال مكي:
«و من جعل نصب «الْمُقِيمِينَ» على المدح جعل خبر «الراسخين»: «يُؤْمِنُونَ» ، فإن جعل الخبر «أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ» لم يجز نصب «الْمُقِيمِينَ» على المدح، لأنه لا يكون إلا بعد تمام الكلام».
و قال الشيخ «1» : «و من جعل الخبر: أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيف» قلت: هذا غير لازم، لأن هذا القائل لا يجعل نصب «الْمُقِيمِينَ» حينئذ منصوبا على القطع، لكنه ضعيف بالنسبة إلى أنه ارتكب وجها ضعيفا في تخريج «الْمُقِيمِينَ» كما سيأتي. و حكى ابن عطية عن قوم منع نصبه على القطع من أجل حرف العطف، و القطع لا يكون في العطف، إنما ذلك في النعوت، و لما استدلّ الناس بقول الخرنق:
1682- لا يبعدن قومي الّذين هم
سمّ العداة و آفة الجزر «2»
النّازلين بكلّ معترك
و الطّيّبون معاقد الأزر
على جواز القطع فرّق هذا القائل بأن البيت لا عطف فيه؛ لأنها قطعت «النازلين» فنصبته، و «الطيبون» فرفعته عن قولها «قومي»، و هذا الفرق لا أثر له؛ لأنه في غير هذا البيت ثبت القطع مع حرف العطف، أنشد سيبويه:
1683- و يأوي إلى نسوة عطّل
و شعثا مراضيع مثل السّعالي «3»
فنصب «شعثا» و هو معطوف.
الثاني: أن يكون معطوفا على الضمير في «مِنْهُمْ» أي: لكن الراسخون في العلم منهم و من المقيمين الصلاة.
الثالث: أن يكون معطوفا على الكاف في «إِلَيْكَ» أي: يؤمنون بما أنزل إليك و إلى المقيمين الصلاة و هم الأنبياء.
الرابع: أن يكون معطوفا على «ما» في «بِما أُنْزِلَ» أي: يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و بالمقيمين، و يعزى هذا للكسائي. و اختلفت عبارة هؤلاء في «الْمُقِيمِينَ» فقيل: هم الملائكة. قال مكي:
«و يؤمنون بالملائكة الذين صفتهم إقامة الصلاة كقوله: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ «4» . و قيل: هم الأنبياء، و قيل: هم المسلمون، و يكون على حذف مضاف أي: و بدين المقيمين.
الخامس: أن يكون معطوفا على الكاف في «قَبْلِكَ» أي: و من قبل المقيمين، و يعني بهم الأنبياء أيضا.
السادس: أن يكون معطوفا على نفس الظرف، و يكون على حذف مضاف أي: و من قبل المقيمين، فحذف
(1) انظر البحر المحيط (3/ 395).
(2) انظر البيتين في ديوانها ص (29) و هما من شواهد الكتاب (1/ 202)، أمالي ابن الشجري (1/ 244)، المحتسب (2/ 198)، الإنصاف (2/ 468)، أوضح المسالك (2/ 76)، التصريح (2/ 116:، الأشموني (3/ 68)،-- الهمع (2/ 129)، مجاز القرآن (1/ 65)، و الجز جمع جزور و هي الناقة تجزر. و المعترك موضع ازدحام الناس.
(3) تقدم.