کتابخانه تفاسیر
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 632
المشهود له أي: و لو كان المشهود له ذا قرابة.
قوله: وَ لا نَكْتُمُ الجمهور على رفع ميم «نَكْتُمُ» على أنّ «لا» نافية، و الجملة تحتمل وجهين، أحدهما:- و هو الظاهر- كونها نسقا على جواب القسم فتكون أيضا مقسما عليها. و الثاني: أنه إخبار من أنفسهم بأنهم لا يكتمون الشهادة، و يتأيّد بقراءة الحسن و الشعبي: «وَ لا نَكْتُمُ» على النهي، و هذه القراءة جاءت على القليل من حيث إنّ دخول «لا» الناهية على فعل المتكلم قليل و منه:
1836- إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد
بها أبدا ما دام فيها الجراضم «1»
و الجمهور على شَهادَةَ اللَّهِ بالإضافة، و هي مفعول بها، و أضيفت إليه تعالى لأنه هو الآمر بها و بحفظها و أن لا تكتم و لا تضيّع. و قرأ عليّ أمير المؤمنين و نعيم بن ميسرة و الشعبي في رواية: «شَهادَةَ اللَّهِ» بتنوين شهادة و نصبها و نصب الجلالة، و هي واضحة، ف «شَهادَةُ» مفعول ثان، و الجلالة نصب على التعظيم و هي الأول. و الأصل: و لا نكتم اللّه شهادة، و هو كقوله: وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً «2» و إنما قدّمت هنا للاهتمام بها، فإنها المحدّث عنها.
و فيها وجه ثان- نقله الزهراوي- و هو أن تكون الجلالة نصبا على إسقاط حرف القسم، و التقدير: و لا نكتم شهادة و اللّه، فلمّا حذف حرف الجر نصب المقسم به، و لا حاجة إليه، لأنه يستدعي حذف المفعول الأول للكتمان أي:
و لا نكتم أحدا شهادة و اللّه، و فيه تكلف، و إليه ذهب أبو البقاء أيضا قال: «على أنه منصوب بفعل القسم محذوفا».
و قرأ عليّ أمير المؤمنين و السلمي و الحسن البصري: «شَهادَةُ» بالتنوين و النصب، «آللّه» بمدّ الألف التي للاستفهام دخلت للتقرير و توقيف نفوس الحالفين، و هي عوض من حرف القسم المقدّر، و هل الجرّ بها أم بالحرف المحذوف خلاف؟ و قرأ الشعبي في رواية و غيره: «شهاده» بالهاء و يقف عليها، ثم يبتدىء «آللّه» بقطع همزة الوصل و بمدّ الهمزة على أنها للاستفهام بالمعنى المتقدم، و جرّ الجلالة، و همزة القطع تكون عوضا من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة، تقول: «يا زيد آللّه لأفعلن»، و الذي يعوّض من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة ثلاثة: ألف الاستفهام و قطع همزة الوصل و ها التي للتنبيه، نحو: «ها اللّه»، و يجوز مع «ها» قطع همزة الجلالة و وصلها. و هل الجرّ بالحرف المقدر أو بالعوض؟ تقدّم أنّ فيه خلافا، و لو قال قائل: إن قولهم «ألله لأفعلنّ» بالجر و قطع الهمزة بأنها همزة استفهام لم يردّ قوله. فإن قيل: همزة الاستفهام إذا دخلت على همزة الوصل التي مع لام التعريف أو ايمن في القسم وجب ثبوت همزة الوصل، و حينئذ إمّا: أن تسهّل و إمّا أن تبدل ألفا، و هذه لم تثبت بعدها همزة وصل فتعيّن أن تكون همزة وصل قطعت عوضا عن حرف القسم. فالجواب: أنهم إنما أبدلوا ألف الوصل أو سهّلوها بعد همزة الاستفهام فرقا بين الاستفهام و الخبر، و هنا اللّبس مأمون فإنّ الجر في الجلالة يؤذن بذلك فلا حاجة إلى بقاء همزة الوصل مبدلة أو مسهّلة، فعلى هذا قراءة: اللّه و آللّه بالقصر و المد تحتمل الاستفهام، و هو تخريج حسن. قال ابن جني في هذه القراءة: «الوقف على شهادة» بسكون الهاء و استئناف القسم حسن، لأنّ استئنافه في أول الكلام أوجه له و أشدّ هيبة من أن يدخل في عرض القول» و رويت هذه القراءة- أعني اللّه بقطع الألف من غير مدّ و جر الجلالة- عن أبي بكر عن عاصم. و قرىء: شهادة اللّه» بنصب الشهادة منونة و جر الجلالة
(1) البيت للفرزدق و ليس من ديوانه و نسب أيضا للوليد بن عقبة انظر أمالي ابن الشجري (2/ 266)، التصريح (2/ 246)، المغني (1/ 247)، العيني (4/ 420)،-- و الجراضم: أي: عظيم البطن و أراد به معاوية بن أبي سفيان رضي اللّه عنه.
(2) سورة النساء، الآية (42).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 633
موصولة الهمزة، على أن الجر بحرف القسم المقدّر من غير عوض منه بقطع و لا همزة استفهام، و هو مختصّ بذلك.
و قوله تعالى: إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ هذه الجملة لا محلّ لها لأنها استئنافية، أخبروا عن أنفسهم بأنهم من الآثمين إن كتموا الشهادة، و لذلك أتوا ب «إِذا» المؤذنة بالجزاء و الجواب. و قرأ الجمهور: «لَمِنَ الْآثِمِينَ» من غير نقل و لا إدغام. و قرأ ابن محيصن و الأعمش: «لملّاثمين» بإدغام نون «من» في لام التعريف بعد أن نقل إليها حركة الهمزة في «آثمين» فاعتدّ بحركة النقل فأدغم، و هي نظير قراءة من قرأ: «عادا لّولى» «1» بالإدغام، و هناك إن شاء اللّه يأتي تحقيق ذلك و به القوة.
[سورة المائدة (5): الآيات 107 الى 108]
قوله تعالى:
فَإِنْ عُثِرَ: مبني للمفعول، و القائم مقام فاعله الجارّ بعده، أي: فإن اطّلع على استحقاقهما الإثم يقال: [عثر الرجل يعثر] عثورا: إذا هجم على شيء لم يطّلع عليه غيره، و أعثرته على كذا: أطلعته عليه، و منه قوله تعالى: أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ «2» . قال أهل اللغة: «و أصله من «عثرة الرجل» و هي الوقوع، و ذلك أن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه، فإن عثر به اطّلع عليه و نظر ما هو، فقيل لكل أمر كان خفيّا ثم اطّلع عليه: «عثر عليه».
و قال الليث: «عثر يعثر عثورا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره، و عثر يعثر عثرة وقع على شيء، ففرّق بين الفعلين بمصدريهما. و فرّق أبو البقاء بينهما بغير ذلك فقال: «عثر مصدره العثور، و معناه اطّلع، فأمّا «عُثِرَ» في مشيه و منطقه و رأيه فالعثار». و الراغب جعل المصدرين على حدّ سواء فإنه قال: «عثر الرجل بالشيء يعثر عثورا و عثارا: إذا سقط عليه، و يتجوّز به فيمن يطّلع على أمر من غير طلبه، يقال: «عثرت على كذا».
و قوله: وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ «3» أي: وقّفناهم عليهم من غير أن طلبوا».
قوله تعالى: فَآخَرانِ فيه أربعة أوجه:
الأول: أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره: فالشاهدان آخران، و الفاء جواب الشرط، دخلت على الجملة الاسمية، و الجملة من قوله: «يَقُومانِ» في محلّ رفع صفة ل آخران.
الثاني: أنه مرفوع بفعل مضمر تقديره: فليشهد آخران، ذكره مكي و أبو البقاء، و قد تقدّم أن الفعل لا يحذف وحده إلا في مواضع ذكرتها عند قوله: حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ «4» .
الثالث: أنه خبر مقدم، و «الْأَوْلَيانِ» مبتدأ مؤخر، و التقدير: فالأوليان بأمر الميت آخران يقومان مقامهما،
(1) سورة النجم، الآية (50).
(2) سورة الكهف، الآية (21).
(3) سورة الكهف، الآية (21).
(4) سورة المائدة، الآية (106).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 634
ذكر ذلك أبو عليّ. قال: «و يكون كقولك: «تميمي أنا».
الرابع: أنه مبتدأ، و في الخبر حينئذ احتمالات:
أحدها: قوله: «مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ» ، و جاز الابتداء به لتخصّصه بالوصف و هو الجملة من «يَقُومانِ» .
و الثاني: أنّ الخبر «يَقُومانِ» و «مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ» صفة المبتدأ، و لا يضرّ الفصل بالخبر بين الصفة و موصوفها، و المسوّغ أيضا للابتداء به اعتماده على فاء الجزاء. و قال أبو البقاء لمّا حكى رفعه بالابتداء: «و جاز الابتداء هنا بالنكرة لحصول الفائدة» فإن عنى أنّ المسوّغ مجرد الفائدة من غير اعتبار مسوّغ من المسوّغات التي ذكرتها فغير مسلّم.
الثالث: أنّ الخبر قوله: «الْأَوْلَيانِ» نقله أبو البقاء، و قوله «يَقُومانِ» و «مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ» كلاهما في محلّ رفع صفة ل «آخران»، و يجوز أن يكون أحدهما صفة و الآخر حالا، و جاءت الحال من النكرة لتخصّصها بالوصف.
و في هذا الوجه ضعف من حيث إنه إذا اجتمع معرفة و نكرة جعلت المعرفة محدّثا عنها و النكرة حديثا، و عكس ذلك قليل جدا أو ضرورة كقوله:
1837- ...
يكون مزاجها عسل و ماء «1»
و كقوله:
1838- و إنّ حراما أن أسبّ مجاشعا
بآبائي الشّمّ الكرام الخضارم «2»
و قد فهمت ممّا تقدّم أنّ الجملة من قوله «يَقُومانِ» و الجارّ من قوله: «مِنَ الَّذِينَ» : إمّا مرفوع المحلّ صفة ل «آخران» ألأ خبر عنه، و إما منصوبه على الحال: إمّا من نفس «آخران»، أو من الضمير المستكنّ في «آخران»، و يجوز في قوله «مِنَ الَّذِينَ» أن يكون حالا من فاعل «يَقُومانِ» .
قوله: اسْتَحَقَ قرأ الجمهور: «اسْتَحَقَّ» مبنيا للمفعول، «الْأَوْلَيانِ» رفعا، و حفص عن عاصم:
«اسْتَحَقَّ» مبنيا للفاعل، «الْأَوْلَيانِ» كالجماعة، و هي قراءة عبد اللّه بن عباس و أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنهم، و رويت عن ابن كثير أيضا، و حمزة و أبو بكر عن عاصم: «اسْتَحَقَّ» مبنيا للمفعول كالجماعة، «الأوّلين» جمع «أوّل» جمع المذكر السالم، و الحسن البصري: «اسْتَحَقَّ» مبنيا للفاعل، «الأوّلان» مرفوعا تثنية «أوّل»، و ابن سيرين كالجماعة، إلا أنه نصب الأوليين تثنية «أولى». و قرىء: «الأولين» بسكون الواو و فتح اللام و هو جمع «أولى» كالأعلين في جمع «أعلى». و لما وصل أبو إسحاق الزجاج إلى هذا الوضوع قال: «هذا موضع من أصعب ما في القرآن إعرابا». قلت: و لعمري إنّ القول ما قالت حذام، فإن الناس قد دارت رؤوسهم في فكّ هذا التركيب، و قد اجتهدت- بحمد اللّه تعالى- فلخّصت الكلام فيها أحسن تلخيص، و لا بد من ذكر شيء من معاني الآية لنستضيء
(1) عجز بيت لحسان بن ثابت رضي اللّه عنه من قصيدة عنه يمدح فيها النبي- صلّى اللّه عليه و سلّم- و صدره.
كأن سيئة من بيت رأس
...
انظر ديوانه (73)، و هو من شواهد الكتاب (1/ 49)،-- المقتضب (4/ 92)، الكامل (1/ 126)، شرح المفصل لابن يعيش (7/ 91، 93)، المغني (2/ 453)، الخزانة (9/ 224)، جمل الزجاجي (58)، المحتسب (1/ 279)، الهمع (1/ 119)، الصحاح «سبأ».
(2) تقدم.
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 635
به على الإعراب فإنه خادم لها.
فأمّا قراءة الجمهور فرفع «الْأَوْلَيانِ» فيها من أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، و خبره «آخران»، تقديره: فالأوليان بأمر الميت آخران، و قد تقدّم شرح هذا.
الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: هما الأوليان، كأنّ سائلا سأل فقال: «من الآخران»؟ فقيل: هما الأوليان.
الثالث: أنه بدل من «آخران» و هو بدل في معنى البيان للمبدل منه، نحو: «جاء زيد أخوك» و هذا عندهم ضعيف لأنّ الإبدال بالمشتقات يقلّ.
الرابع: أنه عطف بيان ل «آخران» بيّن الآخرين بالأوليين. فإن قلت: شرط عطف البيان أن يكون التابع و التبوع متفقين في التعريف و التنكير، على أنّ الجمهور على عدم جريانه في النكرة خلافا لأبي علي، و «آخران» نكرة و «الْأَوْلَيانِ» معرفة. قلت: هذا سؤال صحيح، و لكن يلزم الأخفش و يلزم الزمخشريّ جوازه: أمّا الأخفش فإنه يجيز أن يكون «الْأَوْلَيانِ» صفة ل «آخران» بما سأقرره عنه عند تعرّضي لهذا الوجه، و النعت و المنعوت يشترط فيهما التوافق، فإذا جاز في النعت فليجز فيما هو شبيه به، إذ لا فرق بينهما إلا اشتراط الاشتقاق في النعت. و أمّا الزمخشري فإنه لا يشترط ذلك- أعني التوافق- و قد نصّ هو في سورة آل عمران على أن قوله تعالى: مَقامُ إِبْراهِيمَ «1» عطف بيان لقوله فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ و آياتٌ بَيِّناتٌ نكرة لكنها لمّا تخصّصت بالوصف قربت من المعرفة، كما قدّمته عنه في موضعه، و كذا «آخران» قد وصف بصفتين فقرب من المعرفة أشدّ من «آياتٌ بَيِّناتٌ» ، من حيث وصفت بصفة واحدة.
الخامس: أنه بدل من فاعل «يَقُومانِ» .
السادس: أنه صفة ل «آخران»، أجاز ذلك الأخفش. قال أبو عليّ: «و أجاز أبو الحسن فيها شيئا آخر، و هو أن يكون «الْأَوْلَيانِ» صفة ل «آخران» لأنه لمّا وصف تخصّص، فمن أجل وصفه و تخصيصه وصف بوصف المعارف». قال الشيخ «2» : «و هذا ضعيف لاستلزامه هدم ما كادوا أن يجمعوا عليه من أنّ النكرة لا توصف بالمعرفة، و لا العكس». قلت: لا شكّ أنّ تخالفهما في التعريف و التنكير ضعيف، و قد ارتكبوا ذلك في مواضع، فمنها ما حكاه الخليل: «مررت بالرجل خير منك» في أحد الأوجه في هذه المسألة. و منها غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ «3» على القول بأنّ «غَيْرِ» صفة «الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» ، و قوله:
1839- و لقد أمرّ على اللّئيم يسبّني
فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني «4»
و قوله تعالى: وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «5» ، على أنّ «يسبّني» و «نسلخ» صفتان لما قبلهما فإنّ
(1) انظر تفسير الآية (97).
(2) انظر البحر المحيط (4/ 45).
(3) سورة الفاتحة، الآية (7).
(4) تقدم.
(5) سورة يس، الآية (37).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 636
الجمل نكرات، و هذه المثل التي أوردتها عكس ما نحن فيه، فإنها تؤوّل فيها المعرفة بالنكرة، و ما نحن فيه جعلنا النكرة فيه كالمعرفة، إلّا أنّ الجامع بينهما التخالف، و يجوز أن يكون ما نحن فيه من هذه المثل باعتبار أنّ «الأوليين» لمّا لم يقصد بهما شخصان معينان قربا من النكرة فوقعا صفة لها مع تخصّصها هي، فصار في ذلك مسوّغان: قرب النكرة من المعرفة بالتخصيص، و قرب المعرفة من النكرة بالإبهام، و يدلّ لما قلته ما قال أبو البقاء: «و الخامس أن يكون صفة ل «آخران» لأنه و إن كان نكرة فقد وصف، و الأوليان لم يقصد بهما قصد اثنين بأعيانهما».
السابع: أنه مرفوع على ما لم يسمّ فاعله ب «اسْتَحَقَّ» ، إلّا أنّ كلّ من أعربه كذا قدّر قبله مضافا محذوفا.
و اختلفت تقديرات المعربين، فقال مكي: «تقديره: استحقّ عليهم إثم الأولين» و كذا أبو البقاء و قد سبقهما إلى هذا التقدير ابن جرير الطبري، و قدّره الزمخشري فقال: «من الذين استحقّ عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لاطّلاعهم على حقيقة الحال»، و ممّن ذهب إلى إرتفاع «الْأَوْلَيانِ» ب «اسْتَحَقَّ» أبو علي الفارسي، ثم منعه، قال:
«لأنّ المستحقّ إنما يكون الوصية أو شيئا منها، و أمّا الأوليان بالميت فلا يجوز أن يستحقّا فيسند استحقّ إليهما» قلت:
إنما منع أبو عليّ ذلك على ظاهر اللفظ فإنّ الأوليين لم يستحقّهما أحد كما ذكر، و لكن يجوز أن يسند «اسْتَحَقَّ» إليهما بتأويل حذف المضاف المتقدم. و هذا الذي منعه الفارسي ظاهرا هو الذي حمل الناس على إضمار ذلك المضاف، و تقدير الزمخشري ب «انتداب الأوليين» أحسن من تقدير غيره، فإنّ المعنى يساعده، و أمّا إضمار «الإثم» فلا يظهر أصلا إلا بتأويل بعيد.
و أجاز ابن عطية أن يرتفع «الْأَوْلَيانِ» ب اسْتَحَقَّ» أيضا، و لكن ظاهر عبارته أنه لم يقدّر مضافا فإنه استشعر باستشكال الفارسي المتقدم فاحتال في الجواب عنه و هذا نصّه، قال ما ملخصه: إنه «حمل «اسْتَحَقَّ» هنا على الاستعارة فإنه ليس استحقاقا حقيقة لقوله: «اسْتَحَقَّا إِثْماً» ، و إنما معناه أنّهم غلبوا على المال بحكم انفراد هذا الميت و عدمه لقرابته أو أهل دينه فجعل تسوّرهم عليه استحقاقا مجازا، و المعنى: من الجماعة التي غابت و كان من حقّها أن تسوّرهم عليه استحقاقا مجازا، و المعنى: من الجماعة التي غابت و كان من حقّها أن تحضر وليّها، فلمّا غابت و انفرد هذا الموصي استحقّت هذه الحال، و هذان الشاهدان من غير أهل الدين و الولاية و أمر الأوليين على هذه الجماعة، فبني الفعل للمفعول على هذا المعنى إيجازا، و يقوّي هذا الفرض تعدّي الفعل ب «على» لمّا كان باقتدار و حمل هيّأته الحال، و لا يقال: استحقّ منه أو فيه إلا في الاستحقاق المستعار» انتهى، فقد أسند «اسْتَحَقَّ» إلى «الْأَوْلَيانِ» من غير تقدير مضاف متأوّلا له بما ذكر، و احتملت طول عبارته لتتّضح.
و اعلم أن مرفوع «اسْتَحَقَّ» في الأوجه المتقدّمة- أعني غير هذا الوجه و هو إسناده إلى «الْأَوْلَيانِ» - ضمير يعود على ما تقدّم لفظا أو سياقا، و اختلفت عباراتهم فيه، فقال الفارسي و الحوفي و أبو البقاء و الزمخشري: إنه ضمير الإثم، و الإثم قد تقدّم في قوله: «اسْتَحَقَّا إِثْماً» . و قال الفارسي و الحوفي أيضا: «استحق هو الإيصاء أو الوصية» قلت: إضمار الوصية مشكل؛ لأنه إذا أسند الفعل إلى ضمير المؤنث مطلقا وجبت التاء إلا في ضرورة، و يونس لا يخصّه بها، و لا جائز أن يقال أضمرا لفظ الوصية لأنّ ذلك حذف، و الفاعل عندهما لا يحذف. و قال النحاس مستحسنا لإضمار الإيصاء: «و هذا أحسن ما قيل فيه؛ لأنه لم يجعل حرف بدلا من حرف» يعني أنه لا يقول إنّ «على» بمعنى «في»، و لا بمعنى «من» كما قيل بهما، و سيأتي ذلك إن شاء اللّه تعالى.
و قد جمع الزمخشري غالب ما قلته و حكيته من الإعراب و المعنى بأوجز عبارة فقال: «ف «آخران» أي:
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 637
فشاهدان آخران يقومان مقامهما من الذين استحقّ عليهم أي: من الذين استحقّ عليهم الإثم، و معناه: من الذين جني عليهم و هم أهل الميت و عشيرته و الأوليان الأحقّان بالشهادة لقرابتهما و معرفتهما، و ارتفاعهما على: «هما الأوليان» كأنه قيل: و من هما؟ فقيل: الأوليان، و قيل: هما بدل من الضمير في «يَقُومانِ» أو من «آخران»، و يجوز أن يرتفعا ب «اسْتَحَقَّ» أي: من الذين استحقّ عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لاطّلاعهم على حقيقة الحال».
و قوله عَلَيْهِمُ: في «عَلى» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها على بابها، قال أبو البقاء: «كقولك: «وجب عليه الإثم». و قد تقدّم عن النحاس أنه لمّا أضمر الإيصاء بقّاها على بابها، و استحسن ذلك.
و الثاني: أنها بمعنى «في» أي استحقّ فيهم الإثم فوقعت «عَلى» موقع «في» كما تقع «في» موقعها كقوله تعالى: وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «1» أي: على جذوع، و كقوله:
1840- بطل كأنّ ثيابه في سرحة
يحذى نعال السّبت ليس بتوءم «2»
أي: على سرحة. و قدّره أبو البقاء فقال: «أي استحقّ فيهم الوصية» و الثالث: أنها بمعنى «من» أي:
استحقّ منهم الإثم، و مثله قوله تعالى: إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ «3» أي: من الناس. و قدّره أبو البقاء فقال: «أي استحقّ منهم الأوليان، فحين جعلها بمعنى «في» قدّر «اسْتَحَقَّ» مسندا للوصية، و حين جعلها بمعنى «من» قدّره مسندا ل «الْأَوْلَيانِ» . و كان لمّا ذكر القائم مقام الفاعل لم يذكر إلا ضمير الإثم و الأوليان. و أجاز بعضهم أن يسند «اسْتَحَقَّ» إلى ضمير المال أي: استحقّ عليهم المال الموروث، و هو قريب.
فقد تقرّر أنّ في مرفوع «اسْتَحَقَّ» خمسة أوجه:
أحدها: «الْأَوْلَيانِ» .
الثاني: ضمير الإيصاء.
الثالث: ضمير الوصية، و هو في المعنى كالذي قبله و تقدّم إشكاله.
الرابع: أنه ضمير الإثم.
الخامس: أنه ضمير المال، و لم أرهم أجازوا أن يكون «عَلَيْهِمُ» هو القائم مقام الفاعل نحو: «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» «4» كأنهم لم يروا فيه فائدة.
و أمّا قراءة حفص ف «الْأَوْلَيانِ» مرفوع ب «اسْتَحَقَّ» و مفعوله محذوف، قدّره بعضهم «وصيتهما»، و قدّره
(1) سورة طه، الآية (71).
(2) البيت لعنترة العبسي انظر ديوانه (27)، المنصف (3/ 17)، شرح أسفار الهذليين (1/ 192)، الأزهية (277)، الخصائص (2/ 312)، شرح القصائد العشر للتبريزي (364)، المغني (1/ 169)، الأشموني (2/ 219)، اللسان (سبت).
(3) سورة المطففين، الآية (2).
(4) سورة الفاتحة، الآية (7).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج2، ص: 638
الزمخشري ب «أن يجرّدوهما للقيام بالشهادة» فإنه قال: «معناه من الورثة الذين استحقّ عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجرّدوهما للقيام بالشهادة، و يظهروا بها كذب الكاذبين» و قال ابن عطية: «الأوليان» رفع ب «اسْتَحَقَّ» و ذلك أن يكون المعنى: من الذين استحقّ عليهم مالهم و تركتهم شاهدا الزور فسميّا أوليين أي: صيّرهما عدم الناس أوليين بالميت و تركته فخانا و جارا فيها، أو يكون المعنى؛ من الذين حقّ عليهم أن يكون الأوليان منهم، فاستحقّ بمعنى حقّ كاستعجب و عجب، أو يكون استحقّ بمعنى سعى و استوجب فالمعنى: من القوم الذين حضر أوليان منهم فاستحقّا عليهم أي: استحقا لهم و سعيا فيه و استوجباه بأيمانهما و قربانهما.
قال الشيخ- بعد أن حكى عن الزمخشري و أبي محمد ما قدّمته عنهما-: «و قال بعضهم: المفعول محذوف تقديره: الذين استحقّ عليهم الأوليان وصيتهما» قلت: و كذا هو محذوف أيضا في قولي أبي القاسم و أبي محمد و قد بيّنتهما ما هما فهو عند الزمخشري قوله: «أن يجرّدوهما للقيام بالشهادة»، و عند ابن عطية هو قوله: «ما لهم و تركتهم»، فقوله: «و قال بعضهم: المفعول محذوف» يوهم أنه لم يدر أنّه محذوف فيما تقدّم أيضا. و ممن ذهب إلى أن «اسْتَحَقَّ» بمعنى «حقّ» المجرد الواحدي فإنه قال: «و استحقّ هنا بمعنى حقّ، أي وجب، و المعنى:
فآخران من الذين وجب عليهم الإيصاء بتوصيته بينهم و هم ورثته» و هذا التفسير الذي ذكره الواحدي أوضح من المعنى الذي ذكره أبو محمد على هذا الوجه و هو ظاهر.
و أمّا قراءة حمزة و أبي بكر فمرفوع «اسْتَحَقَّ» ضمير الإيصاء أو الوصية أو المال أو الإثم حسبما تقدّم، و أمّا «الأوّلين» فجمع «أوّل» المقابل ل «آخر»، و فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه مجرور صفة ل «الَّذِينَ» .
الثاني: أنه بدل منه و هو قليل لكونه مشتقا.
الثالث: أنه بدل من الضمير في «عَلَيْهِمُ» ، و حسّنه هنا و إن كان مشتقا عدم صلاحية ما قبله للوصف، نقل هذين الوجهين الأخيرين مكي.
الرابع: أنه منصوب على المدح، ذكره الزمخشري، قال: «و معنى الأوّليّة التقدّم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحقّ بها»، و إنما فسّر الأوّليّة بالتقدّم على الأجانب جريا على ما مرّ في تفسيره: أو آخران من غيركم أنّهما من الأجانب لا من الكفار. و قال الواحدي: «و تقديره من الأوّلين الذين استحقّ عليهم الإيصاء أو الإثم، و إنما قيل لهم «الأوّلين»» من حيث كانوا أوّلين في الذّكر، ألا ترى أنه قد تقدّم: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ» و كذلك «اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ» ذكرا في اللفظ قبل قوله: «أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» ، و كان ابن عباس يختار هذه القراءة و يقول:
«أ رأيت إن كان الأوليان صغيرين كيف يقومان مقامهما»؟ أراد أنهما إذا كانا صغيرين لم يقوما في اليمين مقام الحانثين. و نحا ابن عطية هذا المنحى قال: «معناه من القوم الذين استحقّ عليهم أمرهم أي: غلبوا عليه، ثم وصفهم بأنهم أوّلون أي: في الذكر في هذه الآية».