کتابخانه تفاسیر
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج3، ص: 38
و الثاني: أن قوله تعالى: وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ليس متعلّقا بالتمني بل هو محض إخبار من اللّه تعالى بأن ديدنهم الكذب، و هجّيراهم «1» ذلك، فلم يدخل الكذب في التمني. و هذان الجوابان واضحان، و ثانيهما أوضح.
و الثالث: أنا لا نسلم أن التمني لا يدخله الصدق و لا الكذب بل يدخلانه، و عزى ذلك إلى عيسى بن عمر، و احتج على ذلك بقول الشاعر:
1902- منّى إن تكن حقّا تكن أحسن المنى
و إلّا فقد عشنا بها زمنا رغدا «2»
قال: و إذا جاز أن توصف المنى بكونها حقا جازت أن توصف بكونها باطلا و كذا». و هذا الجواب ساقط جدا، فإنّ الذي وصف بالحق إنما هو المنى، و المنى: جمع منية، و المنية توصف بالصدق و الكذب مجازا، لأنها كأنها تعد النفس بوقوعها، فيقال لما وقع منها صادق، و لما لم يقع منها كاذب، فالصدق و الكذب إنما دخلا في المنية لا في التمني.
و الثالث: من الأوجه المتقدمة أن قوله: «وَ لا نُكَذِّبَ وَ نَكُونَ» خبر لمبتدأ محذوف، و الجملة استئنافية لا تعلق لها بما قبلها، و إنما عطفت هاتان الجملتان الفعليتان على الجملة المشتملة على أداة التمني و ما في حيّزها، فليست داخلة في التمني أصلا، و إنما أخبر اللّه تعالى عنهم أنهم أخبروا عن أنفسهم بأنهم لا يكذبون بآيات ربهم، و أنهم يكونون من المؤمنين. فتكون هذه الجملة و ما عطف عليها في محل نصب للقول، كأن التقدير: فقالوا: يا ليتنا نردّ، و قالوا: نحن لا نكذّب، و نكون من المؤمنين، و اختار سيبويه هذا الوجه، و شبهه بقولهم: دعني و لا أعود، أي:
و أنا لا أعود تركتني أو لم تتركني، أي: لا أعود على كلّ حال، كذلك معنى الآية أخبروا أنهم لا يكذّبون بآيات ربّهم، و أنهم يكونون من المؤمنين على كل حال، ردوا أو لم يردوا. و هذا الوجه و إن كان الناس قد ذكروه و رجّحوه، و اختاره سيبويه كما مرّ، فإنّ بعضهم استشكل عليه إشكالا، و هو أن الكذب لا يقع في الآخرة، فكيف وصفوا بأنهم كاذبون في الآخرة في قولهم: «وَ لا نُكَذِّبَ وَ نَكُونَ» . و قد أجيب عنه بوجهين:
أحدهما: أن قوله: «وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» استئناف لذمهم بالكذب، و أن ذلك شأنهم كما تقدم ذلك آنفا.
و الثاني: أنهم صمموا في تلك الحال على أنهم لو ردوا لما عادوا إلى الكفر، لما شاهدوا من الأهوال و العقوبات، فأخبر اللّه تعالى أن قولهم في تلك الحال: «وَ لا نُكَذِّبَ» و إن كان عن اعتقاد و تصميم يتغير على تقدير الردّ، و وقوع العود، فيصير قولهم: «وَ لا نُكَذِّبَ» كذبا، كما يقول اللّص عند ألم العقوبة: لا أعود، و يعتقد ذلك، و يصمم عليه، فإذا خلص، و عاد كان كاذبا. و قد أجاب مكي أيضا بجوابين:
أحدهما: قريب مما تقدم.
و الثاني: لغيره، فقال: أي لكاذبون في الدنيا في تكذيبهم الرسل، و إنكارهم البعث للحال التي كانوا عليها في الدنيا. و قد أجاز أبو عمرو و غيره وقوع التكذيب في الآخرة، لأنهم ادعوا أنهم لو ردوا لم يكذّبوا بآيات اللّه، فعلم
(1) قال في اللسان: و ما زال ذلك هجّيراه و إجريّاه. و إهجيراه و إهجيراءه- بالمد و القصر- و هجّيره و أهجورته و دأبه و ديدنه، أي: دأبه و شأنه و عادته. و قال الأزهري: هجّيرى الرجل:
كلامه و أدبه و شأنه.
اللسان: هجر 4619.
(2) البيت لرجل من بني الحارث انظر شرح الحماسة (3/ 1413)، روح المعاني (7/ 130) الرغد: السعة في العيش.
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج3، ص: 39
اللّه ما لا يكون لو كان كيف كان يكون، و أنهم لو ردوا لم يؤمنوا و لكذّبوا بآيات اللّه، فأكذبهم اللّه في دعواهم. و أما نصبهما فبإضمار «أن» بعد الواو التي بمعنى «مع» كقولك: ليت لي مالا و أنفق منه فالفعل منصوب بإضمار «أن»، و «أن» مصدرية ينسبك منها و من الفعل بعدها مصدر، و الواو حرف عطف فتستدعي معطوفا عليه و ليس قبلها في الآية إلا فعل، فكيف يعطف اسم على فعل؟ فلا جرم أنا نقدر مصدرا متوهما يعطف هذا المصدر المنسبك من «أن» و ما بعدها عليه، و التقدير: يا ليتنا لنا ردّ، و انتفاء تكذيب بآيات ربّنا، و كون من المؤمنين، أي: ليتنا لنا ردّ، مع هذين الشيئين، فيكون عدم التكذيب و الكون من المؤمنين متمنين أيضا، فهذه الثلاثة الأشياء، أعني: الردّ، و عدم التكذيب، و الكون من المؤمنين متمناه بقيد الاجتماع، لا أن كلّ واحد متمنى وحده، لأنه كما قدمت لك: هذه الواو شرط إضمار «أن» بعدها أن تصلح مع في مكانها، فالنصب يعين أحد محتملاتها في قولك: لا تأكل السّمك و تشرب اللبن و شبهه. و الإشكال المتقدم، و هو إدخال التكذيب على التمني وارد هنا، و قد تقدم جواب ذلك، إلّا أن بعضه يتعذر ههنا، و هو كون «لا نُكَذِّبَ وَ نَكُونَ» مستأنفين سيقا لمجرد الإخبار، فبقي إمّا لكون التمني دخله معنى الوعد، و إمّا أن قوله تعالى: وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «1» ليس راجعا إلى تمنيهم، و إمّا لأن التمني يدخله التكذيب، و قد تقدم فساده. و قال ابن الأنباري: «أكذبهم في معنى التمني، لأن تمنيهم راجع إلى معنى: نحن لا نكذّب إذا رددنا، فغلب عزّ و جلّ تأويل الكلام فأكذبهم، و لم يستعمل لفظ التمني». و هذا الذي قاله ابن الأنباري تقدم معناه بأوضح من هذا. قال الشيخ «2» : «و كثيرا ما يوجد في كتب النحو: أن هذه الواو المنصوب بعدها هو على جواب التمني، كما قال الزمخشري: «3» و قرىء «و لا نكذّب و نكون» بالنصب، بإضمار «أن» على جواب التمني، و معناه: إن رددنا لم نكذّب و نكن من المؤمنين». قال: و ليس «4» كما ذكره فإنّ نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب، لأن الواو لا تقع جواب الشرط، فلا ينعقد مما قبلها و لا مما بعدها شرط و جواب، و إنما هي واو مع تعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها، و هي واو العطف، يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاثة، و هي المعية و يميزها من الفاء تقدير «مع» موضعها، كما أن فاء الجواب إذا كان بعدها فعل منصوب ميّزها تقدير شرط قبلها، أو حال مكانها. و شبهة من قال:
إنّها جواب، أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء، فيوهم أنها جواب. و قال سيبويه «5» و الواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء، و الواو و الفاء معناهما مختلفان، ألا ترى:
1903- لا تنه عن خلق و تأتي مثله
... «6»
لو دخلت الفاء هنا لأفسدت المعنى، أراد: لا تجمع بين النهي و الإتيان. و تقول: لا تأكل السمك، و تشرب اللبن لو أدخلت الفاء فسد المعنى». قال الشيخ «7» : و يوضح لك أنها ليست بجواب انفراد الفاء دونها، بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما تضمنه من معنى الشرط، إلّا في النفي، فإنّ ذلك لا يجوز. «قلت: قد سبق الزمخشريّ إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزجاج شيخ الجماعة، قال أبو إسحاق: نصب على الجواب بالواو في التمني، كما تقول: «ليتك تصير إلينا و نكرمك»، المعنى: ليت مصيرك يقع، و إكرامنا، و يكون المعنى: ليت ردّنا وقع و ألّا نكذب». و أما كون الواو ليست بمعنى الفاء فصحيح، على ذلك جمهور النحاة، إلّا أني رأيت أبا بكر بن
(1) الآية (28) من السورة نفسها.
(2) انظر البحر (4/ 101).
(3) تقدمت.
(4) انظر البحر (4/ 101- 102).
(5) الكتاب (3/ 41- 42).
(6) تقدم.
(7) انظر البحر (4/ 102).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج3، ص: 40
الأنباري خرج النصب على وجهين:
أحدهما: أن الواو بمعنى الفاء. قال أبو بكر: في نصب «نُكَذِّبَ» وجهان:
أحدهما: أن الواو مبدلة من الفاء، و التقدير: يا ليتنا نردّ فلا نكذّب و نكون، فتكون الواو هنا بمنزلة الفاء في قوله: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ «1» توكيد هذا قراءة ابن مسعود و ابن أبي إسحاق: «يا ليتنا نردّ فلا نكذّب». بالفاء منصوبا.
و الوجه الآخر: النصب على الظرف، و معناه الحال، أي: يا ليتنا نردّ غير مكذبين». و أما قراءة ابن عامر برفع الأول، و نصب الثاني فظاهرة مما تقدم، لأن الأول يرتفع على حد ما تقدم من التأويلات، و كذلك نصب الثاني يتخرج على ما تقدم و يكون قد أدخل عدم التكذيب في التمني أو استأنفه، إلّا أن المنصوب يحتمل أن يكون من تمام قوله:
«نُرَدُّ» ، أي: تمنوا الرّدّ مع كونهم من المؤمنين. و هذا ظاهر إذا جعلنا «وَ لا نُكَذِّبَ» معطوفا على «نُرَدُّ» أو حالا منه. و أما إذا جعلنا «وَ لا نُكَذِّبَ» مستأنفا فيجوز ذلك أيضا، و لكن على سبيل الاعتراض، و يحتمل أن يكون من تمام «وَ لا نُكَذِّبَ» أي: لا يكون منا تكذيب مع كوننا من المؤمنين، و يكون قوله: «و لا نكذّب حينئذ على حاله، أعني من احتماله العطف على «نُرَدُّ» ، أو الحالية، أو الاستئناف، و لا يخفى حينئذ دخول كونهم من المؤمنين في التمني، و خروجه منه بما قررته لك. و قرىء «2» شاذا عكس قراءة ابن عامر، أي: بنصب «نكذّب»، و رفع «نكون»، و تخريجها على ما تقدم، إلا أنها يضعف فيها جعل «وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» حالا، لكونه مضارعا مثبتا إلّا بتأويل بعيد، كقوله:
1904- ...
نجوت و أرهنهم مالكا «3»
أي: و أنا أرهنهم، و قولهم: قمت و أصك عينه «4» ، و يدل على حذف هذا المبتدأ قراءة أبيّ: «و نحن نكون من المؤمنين».
[سورة الأنعام (6): الآيات 28 الى 29]
قوله:
بل هنا لانتقال من قصة إلى أخرى، و ليست للإبطال، و عبارة بعضهم توهم أن فيها إبطالا لكلام الكفرة، فإنّه قال: «بَلْ» رد لما تمنوه، أي: ليس الأمر على ما قالوه، لأنهم لم يقولوا ذلك رغبة في الإيمان، بل قالوه «إشفاقا من العذاب، و طمعا في الرحمة». قال الشيخ: «و لا أدري ما هذا الكلام». قلت: و لا أدري ما وجه عدم الدراية منه، و هو كلام صحيح في نفسه، فإنهم لما قالوا: يا ليتنا، كأنهم قالوا تمنينا، و لكن هذا التمني ليس بصحيح، لأنهم إنما
(1) سورة الزمر، آية (58).
(2) انظر البحر (4/ 102).
(3) تقدم.
(4) الصّكّ: الضرب الشديد بالشيء العريض، و قيل: هو الضرب عامة بأي شيء كان. اللسان: صكك 2474.
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج3، ص: 41
قالوه تقيّة، فقد يتمنى الإنسان شيئا بلسانه و قلبه فارغ منه. و قال الزجاج: «بَلْ» هنا استدراك، و إيجاب نفي، كقولهم: ما قام زيد بل عمرو.
قال الشيخ «1» : و لا أدري ما النفي الذي سبق حتّى توجبه «بَلْ» . «قلت: الظاهر أن النفي الذي أراده الزجاج هو الذي في قوله: «وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا» إذا جعلناه مستأنفا على تقدير: «و نحن لا نكذّب»، و المعنى: بل أنتم مكذبون. و فاعل «بَدا» قوله: «ما كانُوا» ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة إسمية، و هو الظاهر، أي: ظهر لهم الذي كانوا يخفونه، و العائد محذوف، و يجوز أن تكون مصدرية، أي: ظهر لهم إخفاؤهم، أي: عاقبته، أو أطلق المصدر على اسم المفعول، و هو بعيد. و الظاهر أن الضميرين أعني المجرور و المرفوع في قوله: «بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ» عائذان على شيء واحد، و هم الكفار، أو اليهود و النصارى خاصة. و قيل: المجرور للأتباع، و المرفوع للرؤساء، أي: بل بدا للأتباع ما كان الوجهاء المتبوعون يخفونه.
قوله: وَ لَوْ رُدُّوا «قرأ الجمهور بضم الراء خالصا، و قرأ الأعمش و يحيى بن وثاب، و إبراهيم «رُدُّوا» بكسرها خالصا، و قد عرفت أن الفعل الثلاثي المضاعف العين و اللام يجوز في فائه إذا بني للمفعول ثلاثة الأوجه المذكورة في فاء الثلاثي المعتل العين، إذا بني للمفعول، نحو: قيل و بيع، و قد تقدم ذلك. و قال:
1905- و ما حلّ من جهل حبى حلمائنا
و لا قائل المعروف فينا يعنّف
بكسر الحاء. و قوله: وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «2» تقدم الكلام على هذه الجملة، هل هي مستأنفة أو راجعة إلى قوله: «يا لَيْتَنا» .
قوله:
هل هذه الجملة معطوفة على جواب «لَوْ» و التقدير: و لو ردّوا لعادوا و لقالوا، أو هي مستأنفة ليست داخلة في حيّز «لَوْ» ، أو هي معطوفة على قوله: «وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» ثلاثة أوجه، ذكر الزمخشري الوجهين الأول و الأخير، فإنّه قال. «وَ قالُوا» عطف على «لَعادُوا» أي: لو ردّوا لكفروا، و لقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا، كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة، و يجوز أن يعطف على قوله: «وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» على معنى: و إنّهم لقوم كاذبون في كل شيء.
«و الوجه الأول منقول عن ابن زيد، إلّا أن ابن عطية رده، فقال: و توقيف اللّه لهم في الآية بعدها على البعث، و الإشارة إليه في قوله: أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِ «3» يرد على هذا التأويل». و قد يجاب «4» عن هذا باختلاف الحالين، فإنّ إقرارهم بالبعث حقيقة إنما هو في الآخرة، و إنكارهم ذلك إنما هو في الدنيا بتقدير عودهم إلى الدنيا، فاعترافهم به في الدار الآخرة غير مناف لإنكارهم إياه في الدنيا. قوله: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا «إِنْ» نافية، و «هِيَ» مبتدأ، و «حَياتُنَا» خبرها، و لم يكتفوا بمجرد الإخبار بذلك حتى أبرزوها محصورة في نفي و إثبات، و «هِيَ» ضمير مبهم يفسره خبره، أي: لا يعلم ما يراد به إلّا بذكر خبره، و هو من الضمائر التي يفسرها ما بعدها لفظا و رتبة، و قد قدمت ذلك عند قوله: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ «5» ، و كون هذا مما يفسره ما بعده لفظا و رتبة فيه نظر، إذ لقائل أن يقول:
(1) انظر البحر (4/ 103).
(2) تقدم.
(3) سورة الأنعام، آية (30).
(4) انظر البحر (4/ 104).
(5) سورة البقرة، آية (29).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج3، ص: 42
«هِيَ» تعود على شيء دل عليه سياق الكلام، كأنهم قالوا: إن العادة المستمرة أو إن حالتنا و ما عهدناه إلّا حياتنا الدنيا. و استند هذا القائل إلى قول الزمخشري «1» : هذا ضمير لا يعلم ما يراد به إلّا بذكر ما بعده، و مثل الزمخشري بقول العرب:
1906- هي النّفس تحمل ما حمّلت
و هي العرب تقول ما شاءت. و ليس فيما قاله الزمخشري دليل له، لأنه يعني أنه لا يعلم ما يعود عليه الضمير إلّا بذكر ما بعده، و ليس في هذا ما يدل على أن الخبر مفسر للضمير، و يجوز أن يكون المعنى: إن الحياة إلّا حياتنا الدنيا، فقوله: إلّا حياتنا الدنيا، دال على ما يفسر الضمير، و هو الحياة مطلقا، فصدق عليه أنه لا يعلم ما يراد به، إلّا بذكر ما بعده من هذه الحيثية، لا من حيثية التفسير، و يدل على ما قلته قول أبي البقاء: «هِيَ» : «كناية عن الحياة، و يجوز أن يكون ضمير القصة». قلت: أمّا أول كلامه فصحيح، و أمّا آخره، و هو قوله: إنّ «هِيَ» ضمير القصة، فليس بشيء، لأن ضمير القصة لا يفسّر إلا بجملة مصرح بجزأيها. فإن قلت: الكوفي يجوز تفسيره بالمفرد فيكون نحا نحوهم. فالجواب أن الكوفي إنما يجوزه بمفرد عامل عمل الفعل نحو: «إنه قائم زيد» و «ظننته قائما زيد»، لأنه في صورة الجملة، إذ في الكلام مسند و مسند إليه، أما نحو: هو زيد فلا يجيزه أحد، على أن يكون هو ضمير شأن و لا قصة. و «الدُّنْيا» صفة: الحياة، و ليست صفة مزيلة اشتراكا عارضا، يعني: أن ثمّ حياة غير دنيا يقرون بها، لأنهم لا يعرفون إلا هذه، فهي صفة لمجرد التوكيد، كذا قيل. و يعنون بذلك أنها لا مفهوم لها، و إلّا فحقيقة التوكيد غير ظاهرة، بخلاف نَفْخَةٌ واحِدَةٌ «2» . و الباء في قوله: «بِمَبْعُوثِينَ» زائدة لتأكيد الخبر المنفي، و يحتمل مجرورها أن يكون منصوب المحل على أن «ما» حجازية «3» ، أو مرفوعة، على أنها تميمية.
[سورة الأنعام (6): الآيات 30 الى 31]
قوله:
فيه وجهان:
أحدهما: أنه من باب الحذف، تقديره: على سؤال ربهم، أو ملك ربهم، أو جزاء ربهم.
و الثاني: أنه من باب المجاز، لأنه كناية عن الحبس للتوبيخ، كما يوقف العبد بين يدي سيده ليعاتبه، ذكر ذلك الزمخشري، و رجح المجاز على الحذف، لأنه بدأ بالمجاز، ثم قال: و قيل: على جزاء ربهم». و للناس خلاف في ترجيح أحدهما على الآخر، و جملة القول فيه أن فيه ثلاثة مذاهب:
(1) انظر الهمع (1/ 66).
(2) سورة الحاقة، آية (13).
(3) ما الحجازية هي العاملة عمل ليس لكن بشروط:
الأول: ألا يقترن اسمها بأن الزائدة.
الثاني: ألا ينتقص خبرها بإلا.
الثالث: ألا يتقدم خبرها عليها.
الرابع: ألا يتقدم معمول خبرها على اسمها.
انظر التصريح (1/ 196).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج3، ص: 43
أشهرها: ترجيح المجاز على الإضمار.
و الثاني: عكسه.
و الثالث: هما سواء.
قوله: قالَ أَ لَيْسَ في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها استئنافية، أي جواب سؤال مقدر، قال الزمخشري: «قالَ» مردود على قول قائل، قال: ما ذا قال لهم ربهم، إذا وقفوا عليه، فقيل: قال لهم: «أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ» .
و الثاني: أن تكون الجملة حالية، و صاحب الحال ربهم، كأنه قيل: وقفوا عليه قائلا: أ ليس هذا بالحق، و المشار إليه قيل: هو ما كانوا يكذبون به من البعث. و قيل: هو العذاب، يدل عليه: فَذُوقُوا الْعَذابَ. و قوله:
بِما كُنْتُمْ يجوز أن تكون «ما» موصولة إسمية، و التقدير: تكفرونه، و الأصل: تكفرون به، فاتصل الضمير بالفعل بعد حذف الواسطة، و لا جائز أن يحذف و هو مجرور بحاله- و إن كان مجرورا بحرف، جر بمثله الموصول- لاختلاف المتعلق، و قد تقدم إيضاحه غير مرّة «1» . و الأولى أن تجعل «ما» مصدرية، و يكون متعلق الكفر محذوفا، و التقدير: بما كنتم تكفرون بالبعث، أو بالعذاب، أي: بملاقاته، أي بكفركم بذلك.
قوله:
في نصبها أربعة أوجه:
أحدها: أنها مصدر في موضع الحال من فاعل «جاءَتْهُمُ» أي: مباغتة، و إما من مفعوله، أي: مبغوتين.
الثاني: أنها مصدر على غير الصدر، لأن معنى «جاءَتْهُمُ» : بغتتهم بغتة، فهو كقولهم: أتيته ركضا.
الثالث: أنها منصوبة بفعل محذوف من لفظها، أي: تبغتهم بغتة.
الرابع: بفعل من غير لفظها، أي: أتتهم بغتة، و البغت و البغتة: مفاجأة الشيء بسرعة، من غير اعتداد له، و لا جعل بال منه، حتى لو استشعر الإنسان به، ثم جاءه بسرعة لا يقال فيه: بغتة، و لذلك قال الشاعر:
1907- إذا بعثت أشياء قد كان قبلها
قديما فلا تعتدّها بغتات «2»
و الألف و اللام في «السَّاعَةُ» للغلبة، كالنجم و الثريا، لأنها غلبت على يوم القيامة، و سميت القيامة ساعة لسرعة الحساب فيها على الباري تعالى. و قوله: «قالُوا» هو جواب «إِذا» قوله: «يا حَسْرَتَنا» هذا مجاز، لأن الحسرة لا يتأتى منها الإقبال، و إنما المعنى على المبالغة في شدة التحسر، و كأنهم نادوا الحسرة، و قالوا: إن كان لك وقت فهذا أوان حضورك، و مثله: يا وَيْلَنا «3» ، و المقصود: التنبيه على خطأ المنادي، حيث ترك ما أحوجه تركه إلى نداء هذه الأشياء.
(1) انظر آية (68) من سورة البقرة.
(2) انظر البيت في المفردات (55).
(3) انظر سورة الأنبياء، آية (14).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج3، ص: 44
قوله: عَلى ما فَرَّطْنا متعلق بالحسرة «و ما» مصدرية، أي: على تفريطنا، و الضمير في «فِيها» يجوز أن يعود على «السَّاعَةُ» ، و لا بد من مضاف، أي: في شأنها و الإيمان بها، و أن يعود على الصفة المتضمنة في قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ، قاله الحسن، أو يعود على الحياة الدنيا، و إن لم يجر لها ذكر، لكونها معلومة، قاله الزمخشري، و قيل: يعود على منازلهم في الجنة إذا رأوها، و هو بعيد. و التفريط: التقصير في الشيء مع القدرة على فعله. و قال أبو عبيد: هو التضييع. و قال ابن بحر: هو السبق، و منه الفارط، أي السابق للقوم، فمعنى فرّط- بالتشديد-: خلى السبق لغيره، فالتضعيف فيه للسلب، كجلّدت البعير، و منه: فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ.
قوله «1» : وَ هُمْ يَحْمِلُونَ الواو للحال، و صاحب الحال الواو في «قالُوا» ، أي: قالوا: يا حسرتنا في حالة حملهم أوزارهم، و صدرت هذه الجملة بضمير مبتدأ، ليكون ذكره مرتين فهو أبلغ. و الحمل هنا قيل: مجاز عن مقاساتهم العذاب، الذي سببه الأوزار. و قيل: هو حقيقة. و في الحديث: «أنه يمثل له عمله بصورة قبيحة منتنة الريح، فيحملها. و خص الظهر، لأنه يطيق من الحمل ما لا يطيقه غيره، من الأعضاء، كالرأس و الكاهل، و هذا كما تقدم في:: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ «2» ، لأن اليد أقوى في الإدراك اللمسي من غيرها. و «الأوزار» : جمع وزر، ك «حمل» و أحمال، و عدل و أعدال. و الوزر في الأصل: الثّقل، و منه وزرته، أي حملته شيئا ثقيلا، وزير الملك من هذا، لأنه يتحمل أعباء ما قلده الملك من مؤونة رعيته و حشمه، و منه: أوزار الحرب لسلاحها و آلاتها، قال:
1908- و أعددت للحرب أوزارها
رماحا طوالا و خيلا ذكورا «3»
و قيل: الأصل في ذلك «الوزر»- بفتح الواو و الزاي- و هو الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل، قال تعالى:
كَلَّا لا وَزَرَ «4» : ثم قيل للثقل: وزر، تشبيها بالجبل، ثم استعير الوزر للذنب، تشبيها به في ملاقاة المشقة منه.
و الحاصل أن هذه المادة تدل على الرزانة و العصمة. قوله: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ «ساءَ» هنا تحتمل أوجها ثلاثة-:
أحدها: أنها «ساءَ» المتصرفة المتعدية، و وزنها حينئذ فعل- بفتح العين- و مفعولها حينئذ محذوف، و فاعلها «ما» ، و «ما» تحتمل ثلاثة أوجه: أن تكون موصولة إسمية أو حرفية، أو نكرة موصوفة، و هو بعيد، و على جعلها إسمية أو نكرة موصوفة نقدر لها عائدا، و الحرفية غير محتاجة إليه عند الجمهور، و التقدير: ألا ساءهم الذي يزرونه، أو شيء يزرونه، أو وزرهم. و بدأ ابن عطية بهذا الوجه، قال: كما تقول: ساءني هذا الأمر، و الكلام خبر مجرد كقوله:
1909- رضيت خطّة خف غير طائلة
فساء هذ رضا يا قيس عيلانا «5»
قال الشيخ «6» : «و لا يتعين أن يكون ما في البيت خبرا مرجدا، بل يحتمل الأوجه الثلاثة انتهى». و هو ظاهر.
الثاني: أن تكون للتعجب فتنقل من فعل بفتح العين إلى «فعل» بضمها، فتعطى حكم فعل التعجب من عدم التصرف، و الخروج من الخبر إلى الإنشاء، إن قلنا: إنّ التعجب إنشاء، و هو الصحيح، و المعنى: ما أسوأ أي:
(1) سورة الإسراء، آية (79).
(2) سورة الأنعام، آية (7).
(3) البيت للأعشى انظر ديوانه (149)، التهذيب (13/ 244)، (وزر) اللسان (وزر).
(4) سورة القيامة، آية (11).
(5) انظر البيت في البحر المحيط (4/ 108).