کتابخانه تفاسیر
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج4، ص: 448
قوله:
صيغة تعجب، بمعنى: ما أبصره على سبيل المجاز، و الهاء للّه تعالى، و في مثل هذا ثلاثة مذاهب:
الأصح: أنه بلفظ الأمر، و معناه الخبر، و الباء مزيدة في الفاعل إصلاحا للفظ.
و الثاني: أن الفاعل ضمير المصدر.
و الثالث: أنه ضمير المخاطب، أي: أوقع أيها المخاطب، و قيل: هو أمر حقيقة لا تعجب، و أن الهاء تعود على «الهدى» المفهوم من الكلام. و قرأ عيسى: «أسمع ... و أبصر» فعلا ماضيا، و الفاعل اللّه تعالى، و كذلك الهاء في «بِهِ» ، أي: أبصر عباده و أسمعهم. قوله: مِنْ وَلِيٍ يجوز أن يكون فاعلا، و أن يكون مبتدأ.
قوله: وَ لا يُشْرِكُ قرأ ابن عامر بالتاء و الجزم، أي: و لا تشرك أنت أيها الإنسان، و الباقون بالياء من تحت، و رفع الفعل، أي: و لا تشرك اللّه في حكمه أحدا، فهو نفي محض. و قرأ مجاهد: «و لا يشرك» بالياء من تحت و الجزم. قال يعقوب: لا أعرف وجهه. قلت: وجهه أن الفاعل ضمير الإنسان، أضمر للعلم به، و الضمير في قوله: «ما لَهُمْ» يعود على معاصري رسول اللّه- صلّى اللّه عليه و سلّم- قال ابن عطية: «و تكون الآية اعتراضا بتهديد، كأنه يعني بالاعتراض: أنهم ليسوا ممن سيق الكلام لأجلهم، و لا يريد الاعتراض الصناعي».
[سورة الكهف (18): الآيات 28 الى 29]
قوله:
أي: إحبسها و ثبتها، قال أبو ذويب:
3173-
فصبرت عارفة لذلك حرّة
ترسو إذا نفس الجبان تطلّع «1»
قوله: «بِالْغَداةِ» تقدم الكلام عليها في الأنعام «2» . قوله: «وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ» فيه و جهان:
أحدهما: أن مفعوله محذوف، تقديره: و لا تعد عيناك النظر.
و الثاني: أنه ضمن معنى ما يتعدى ب «عن» . قال الزمخشري: «و إنمّا عدّي ب «عن» لتضمين «عدا» معنى: نبا، و علا، في قولك، نبت عنه عينه، إذا اقتحمته، و لم تعلق به، فإن قلت: أي غرض في هذا التضمين؟ و هلّا قيل، و لا تعدهم عيناك، أو تعل عيناك عنهم؟ قلت: الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين، و ذلك
(1) تقدم.
(2) آية، رقم (52).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج4، ص: 449
أقوى من إعطاء معنى فذ. ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك، و لا تقتحمهم عيناك متجاوزين إلى غيرهم؟ و نحوه:
وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «1» ، أي: و لا تضموها إليها آكلين لها». و ردّه الشيخ «2» بأن مذهب البصريين:
أن التضمين لا ينقاس، و إنما يصار إليه عند الضرورة، فإذا أمكن الخروج عنه، فلا يصار إليه، و قرأ الحسن: «و لا تعد عينيك» من أعدى رباعيا، و قرأ هو و عيسى و الأعمش: «و لا تعدّ» بالتشديد من عدّى يعدّي مضعفا، عدّاه في الأول بالهمزة، و في الثاني بالتثقيل كقول النابغة:
3174-
فعدّ عمّا ترى إذ لا ارتجاع له
و أنم القتود على عيرانة أجد «3»
كذا قال الزمخشري، و أبو الفضل.
و ردّ عليهما الشيخ «4» : بأنه لو كان تعديه في هاتين القراءتين بالهمزة، أو بالتضعيف لتعدى لاثنين، لأنه قبل ذلك متعد لواحد بنفسه». و قد أقر الزمخشري بذلك، حيث قال: «يقال: عدّاه إذا جاوزه، و إنما عدّي ب «عن» لتضمنه معنى: علا، و نبا». فحينئذ يكون «أفعل، و فعّل» مما وافقا المجرد و هو اعتراض حسن. قوله: «تُرِيدُ» جملة حالية، و يجوز أن يكون فاعل «تُرِيدُ» المخاطب، أي: تريد أنت، و يجوز أن يكون ضمير العينين، و إنما وحّد، لأنهما متلازمان يجوز أن يخبر عنهما خبر الواحد، و منه قول امرىء القيس:
3175-
لمن زحلوقة زلّ
بها العينان تنهل «5»
و قول آخر:
3176-
و كان في العينين حبّ قرنفل
أو سنبلا كحلت به فانهلّت «6»
و فيه غير ذلك. و نسبة الإرادة إلى العينين مجاز. و قال الزمخشري: الجملة في موضع الحال.
قال الشيخ «7» : و صاحب الحال أن قدر عيناك، فكأن يكون التركيب تريدان. «قلت: غفل عن القاعدة، التي ذكرتها من أن الشيئين المتلازمين يجوز أن يخبر عنهما إخبار الواحد. ثم قال «8» : «و إن قدّر الكاف فمجيء الحال من المجرور بالإضافة مثل هذا فيه الإشكال، لاختلاف العامل في الحال و ذي الحال، و قد أجاز ذلك بعضهم إذا كان المضاف جزءا أو كالجزء، و حسن ذلك أن المقصود نهيه هو- عليه السّلام-، و إنما جيء بقوله: «عَيْناكَ» ، و المقصود هو، لأنهما بهما يكون المراعاة للشخص و الملفت له. قلت: و قد ظهر لي وجه حسن لم أر غيري ذكره، هو: أن يكون «تَعْدُ» مسندا لضمير المخاطب- صلّى اللّه عليه و سلّم- و «عَيْناكَ» بدل من الضمير بدل بعض من كل، و «تُرِيدُ» على وجهيها من كونها حالا من «عَيْناكَ» ، أو من الضمير في «تَعْدُ» ، إلّا إن جعلها حالا من الضمير في «لا تَعْدُ» ضعفا، من حيث إنّ مراعاة المبدل منه، بعد ذكر البدل قليل جدا، تقول: الجارية حسنها فاتن، و لا يجوز: فاتنة، كقوله:
(1) سورة النساء آية، (2).
(2) انظر البحر المحيط (6/ 119).
(3) البيت في ديوانه، البحر المحيط (6/ 119).
(4) انظر البحر المحيط (6/ 119).
(5) تقدم.
(6) تقدم.
(7) انظر البحر المحيط (6/ 119).
(8) انظر المصدر السابق.
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج4، ص: 450
3177-
و كأنّه لهق السّراة كأنّه
ما حاجبيه معيّن بسواد «1»
فقال: معيّن مراعاة للهاء في «كأنّه» و كان الفصيح أن يقول: معينان مراعاة لحاجبيه الذي هو البدل. قوله:
أَغْفَلْنا قَلْبَهُ العامة على إسناد الفعل ل «نا» و «قَلْبَهُ» مفعول به، و قرأ عمرو بن عبيد، و عمرو بن فائد، و موسى الأسواري بفتح اللام و رفع «قَلْبَهُ» ، اسندوا الإغفال إلى القلب، و فيه أوجه. قال ابن جني: «من ظنّنا غافلين عنه». و قال الزمخشري: «من حسبنا قلبه غافلين، من أغفلته إذا وجدته غافلا». و قال أبو البقاء: فيه و جهان:
أحدهما: وجدنا قلبه معرضين عنه.
و الثاني: أهمل أمرنا عن تذكرنا». قوله: فُرُطاً يحتمل أن يكون وصفا على (فعل) كقولهم: فرس فرط، أي: متقدم على الخيل، و كذلك هذا، أي: متقدما للحق، و أن يكون مصدرا، بمعنى: التفريط أو الإفراط. قال ابن عطية: «الفرط: يحتمل أن يكون بمعنى التّفريط و التضييع، أي: أمره الذي يجب أن يلزم، و يحتمل أن يكون بمعنى الإفراط و الإسراف.
قوله:
يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر لمبتدأ مضمر، أي: هذا، أي: القرآن، أو ما سمعتم الحق.
الثاني: أنه فاعل بفعل مقدّر، دلّ عليه السياق، أي: جاء الحق كما صرّح به في موضع آخر إلّا أن الفعل لا يضمر إلّا في مواضع تقدم التنبيه عليها، منها: أن يجاب به استفهام، أو يرد به نفي، أو يقع بعد فعل مبني للمفعول لا يصلح إسناده لما بعده كقراءة: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ» ، كما سيأتي، إن شاء اللّه تحقيقه في موضعه.
الثالث: أنه مبتدأ و خبره الجار بعده. و قرأ أبو السمال قعنب: «و قل الحقّ» بفتح اللام، حيث وقع كأنه اتباع لحركة القاف، و قرأ أيضا «2» بنصب «الحقّ». قال صاحب اللوامح: هو على صفة المصدر المقدر، لأنّ الفعل يدلّ على مصدره، و إن لم يذكر فينصبه معرفة، كما ينصبه نكرة، و تقديره: و قل القول الحق. و تعلق «مِنْ» بمضمر على ذلك، أي: جاء من ربكم، انتهى. و قرأ الحسن و الثقفي بكسر لامي الجر في قوله: «فَلْيُؤْمِنْ» - و «فَلْيَكْفُرْ» و هو الأصل. قوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ يجوز في «مِنْ» أن تكون شرطية- و هو الظاهر-، و أن تكون موصولة، و الفاء لشبهه بالشرط و فاعل «شاءَ» الظاهر أنه ضمير يعود على «ما» ، و قيل: ضمير يعود على اللّه، و به فسّر ابن عباس، و الجمهور على خلافه. قوله: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها في محل نصب صفة ل «ناراً» . و السّرادق: قيل: ما أحاط بشيء كالمضرب و الخباء، و قيل: للحائط المشتمل على شيء «سرادق» ، قاله المهدوي. و قيل: هو الحجرة تكون حول الفسطاط. و قيل: ما يمدّ على صحن الدّار. و قيل: كلّ بيت كرسف فهو سرادق. قال رؤبة:
3178-
يا حكم بن المنذر بن الجارود
سرادق المجد عليك ممدود «2»
و يقال: بيت مسردق. قال:
(1) تقدم.
(2) تقدم.
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج4، ص: 451
3179-
هو المدخل النّعمان بيتا سماؤه
صدور الفيول بعد بيت مسردق «1»
و كان أبرويز ملك الفرس قد قتل النّعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة، و الفيول: جمع فيل، و قيل:
السّرادق: الدّهليز. قال الفرزدق:
3180-
تمنّتهم حتّى إذا ما لقيتهم
تركت لهم قبل الضّراب السّرادقا «2»
و السّرادق: فارس معرّب، أصله: سرادر، قاله الجواليقي. و قال الراغب: السّرادق: فارسيّ معرّب، و ليس في كلامهم اسم مفرد ثالث حروفه ألف بعدها حرفان». قوله: وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا أي: يطلبوا الغوث، و الياء عن واو، إذ الأصل: يستغوثوا فقلبت الواو ياء لتصريف ذكر في الفاتحة، عند قوله: نَسْتَعِينُ. و هذا الكلام من المشاكلة و التجانس، و إلّا فأيّ إغاثة لهم في ذلك، أو من باب التّهكم كقوله:
3181-
................ ......
.......... فأعتبوا بالصّيلم «3»
3182-
................ ......
تحيّة بينهم ضرب وجيع «4»
و هو كثير. و «كَالْمُهْلِ» صفة ل «ماء» ، و المهل: درديّ الزّيت، و قيل: ما أذيب من الجواهر، كالنّحاس و الرّصاص، و المهل- بفتحتين-: التّؤدة، و الوقار. قال تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ. قوله: «يَشْوِي الْوُجُوهَ» يجوز أن تكون الجملة صفة ثانية، و أن تكون حالا من «ماء» ، لأنه تخصيص بالوصف، و يجوز أن يكون حالا من الجار، و هو الكاف. و الشيء: الإنضاج بالنّار من غير مرقة، يكون مع الشّيء المشويّ. قوله: بِئْسَ الشَّرابُ المخصوص محذوف، تقديره: هو أي ذلك الماء المستغاث به. قوله: وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً» ساءت- هنا- منصرفة على بابها و فاعلها ضمير النار و «مُرْتَفَقاً» تمييز منقول، أي: ساء و قبح مرتفقها، و المرتفق: المتّكأ، و قيل:
المنزل، و قيل «5» : هو مصدر، بمعنى الارتفاق، و قيل: هو من باب المقابلة، أيضا كقوله في وصف الجنة بعد:
وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً، و إلّا فأي ارتفاق في النار. و قال الزمخشري: إلّا أن يكون من قوله:
3183-
إنّي أرقت فبتّ اللّيل مرتفقا
كأنّ عيني فيها الصّاب مذبوح «6»
يعني: أنّه من باب التهكم.
[سورة الكهف (18): آية 30]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30)
(1) البيت لسلامة بن جندل انظر اللسان «سردق» ، تأويل المشكل (358)، و مجاز القرآن (1/ 399)، و الصحاح (4/ 1496)، القرطبي (10/ 393)، الطبري (15/ 157)، التاج «سرادق» .
(2) انظر البيت في ديوانه ()، البحر (6/ 93)، روح المعاني (15/ 268).
(3) تقدم و هو لبشر بن خازم.
(4) تقدم.
(5) انظر البحر المحيط (6/ 121).
(6) البيت لأبي ذؤيب الهذلي انظر ديوان الهذليين (1/ 114)، شرح المفصل لابن يعيش (10/ 124)، شواهد المغني (72)، الطبري (15/ 159)، القرطبي (10/ 395)، روح المعاني (15/ 269).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج4، ص: 452
[سورة الكهف (18): آية 31]
قوله:
يجوز أن يكون الرابط محذوفا، له: منهم، و يجوز أن يكون الرابط العموم، و يجوز أن يكون الخبر قوله:
أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ، و يكون قوله: «إِنَّا لا نُضِيعُ» اعتراضا، قال ابن عطية: و نحوه في الاعتراض قوله:
3184-
إنّ الخليفة إنّ اللّه ألبسه
سربال ملك به تزجى الخواتيم «1»
قال الشيخ «2» : «و لا يتعين أن يكون «إنّ اللّه ألبسه» اعتراضا، لجواز أن يكون خبرا عن «إنّ الخليفة». قلت:
و ابن عطية لم يجعل ذلك متعينا بذلك، هو نحوه: في أحد الجائزين فيه، و يجوز أن تكون الجملتان أعني قوله: «إِنَّا لا نُضِيعُ» و قوله: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ خبرين ل «إِنَّ» عند من يرى جواز ذلك، أعني تعدد الخبر، و إن لم يكونا في معنى خبر واحد. و قرأ الثقفي: لا نُضِيعُ بالتشديد، عدّاه بالتشديد كما عدّاه الجمهور بالهمزة.
قوله: مِنْ أَساوِرَ في «مِنْ» هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها للابتداء.
و الثاني: أنها للتبعيض.
و الثالث: أنها لبيان الجنس، أي شيئا من أساور.
و الرابع: أنها زائدة عند الأخفش، و يدل عليه قوله: وَ حُلُّوا أَساوِرَ «3» ، ذكر هذه الثلاثة الأخيرة أبو البقاء.
و «أَساوِرَ» جمع أسورة، و أسورة جمع سوار ك «حمار، و أحمرة» فهو جمع الجمع، و قيل: جمع سوار و أنشد:
3185-
و اللّه لو لا صبية صغار
كأنّما وجوههم أقمار
أخاف أن يصيبهم إقتار
أو لاطم ليس له أسوار
لمّا رآني ملك جبّار
ببابه ما طلع النّهار «4»
و قال أبو عبيدة: «هو جمع أسرار». على حذف الزيادة، و أصله: أساوير، و قرأ أبّان عن عاصم: «أسورة» جمع سوار، و سيأتي إن شاء اللّه تعالى في الزخرف. هاتان القراءتان في المتواتر، و هناك أذكر الفرق. و السّوار يجمع في القلّة على أسورة، و في الكثرة على سور، بسكون الواو، أصلها ك «عدل، و حمر»، و إنما سكنت لأجل حرف العلّة، و قد يضم في الضرورة، قال:
(1) البيت لجرير انظر ديوانه، تأويل المشكل (251)، أمالي الزجاجي (42)، معاني الفراء (2/ 140).
(2) انظر البحر المحيط (6/ 121).
(3) سورة الانسان آية، (21).
(4) ذكر هذه الابيات أبو حيان في البحر هكذا:
................ ...... (3)
................ ......
تضمهم من العتيل دار
أخاف أن يصيبهم إقتار
أو لا طم ليس له أسوار
لما رآني ملك جبار
ببابه ما وضح النهار
انظر البحر المحيط (6/ 93)، روح المعاني (15/ 270).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج4، ص: 453
3186-
عن مبرقات بالبرين و تبدو
و في الأكفّ اللّامعات سور «1»
و قال أهل اللغة: السّوار ما جعل في الذّراع من ذهب أو فضّة أو نحاس، فإن كان من عاج فهو قلب.
قوله: مِنْ ذَهَبٍ يجوز أن تكون للبيان، و أن تكون للتبعيض، و يجوز أن تتعلق بمحذوف، صفة «أَساوِرَ» فموضعه جرّ، و أن يتعلق بنفس «يُحَلَّوْنَ» فموضعها نصب. قوله: «وَ يَلْبَسُونَ» عطف على «يُحَلَّوْنَ» و بني الفعل في التحلية للمفعول، إيذانا بكرامتهم، و أن غيرهم يفعل لهم ذلك و يزينهم به، كقول امرىء القيس:
3187-
غرائر في كنّ وصون و نعمة
يحلّين ياقوتا و شذرا مفقّرا «2»
بخلاف اللبس، فإنّ الإنسان يتعاطاه بنفسه، و قدّم التحلي على اللباس، لأنه أشهى للنفس. و قرأ أبّان عن عاصم: «يلبسون» بكسر الباء. قوله: مِنْ سُنْدُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ: من: لبيان الجنس، و هي نعت ل «ثياب» و السّندس: مارقّ من الدّيباج، و الإستبرق: ما غلظ منه، و هما جمع سندسة، و استبرقة، و قيل: ليسا جمعين.
و هل إستبرق عربيّ الأصل مشتق من البريق، أو معرّب أصله: استبره؟ خلاف بين اللغوين، و قيل: الإستبرق اسم للحرير، و أنشد المرقّش:
3188-
تراهنّ يلبسن المشاعر مرّة
و إستبرق الديباج طورا لباسها «3»
و هو صالح لما تقدّم. و قال ابن بحر: «الإستبرق : ما نسج من الذهب» «4» . و وزن سندس: فعلل و نونه أصلية، و قرأ ابن محيصن «و استبرق» بوصل الهمزة و فتح القاف غير منونة. فقال ابن جني: هذا سهو أو كالسهو».
قلت: كأنه زعم أنّه منعه الصرف و لا وجه لمنعه، لأنّ شرط منع الاسم الأعجمي أن يكون علما و هذا اسم جنس.
و قد وجّهها غيره على أنه جعله فعلا ماضيا من البريق، و استفعل بمعنى فعل المجرد نحو: قرّ و استقرّ. و قال الأهوازيّ في «الإقناع»: و استبرق بالوصل و فتح القاف حيث كان لا يصرفه» فظاهر هذا أنه اسم، و ليس بفعل و ليس لمنعه وجه، كما تقدّم عن ابن جني، و صاحب «اللوامح» لمّا ذكر وصل الهمزة لم يزد على ذلك، بل نصّ على بقائه منصرفا و لم يذكر فتح القاف أيضا فقال: ابن محيصن في «و استبرق» يوصل الهمزة في جميع القرآن، فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفا على غير قياس، و يجوز أنّه جعله عربيا من برق بريقا، و وزنه استفعل، فلمّا سمّي به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة، و معاملة المتمكنة من الأسماء في الصرف و التنوين، و أكثر التفاسير على أنّه عربية و ليس بمستعرب، دخل في كلامهم فأعربوه».
قوله: مُتَّكِئِينَ حال. و الأرائك: جمع أريكة و هي الأسرّة بشرط أن تكون في الحجال فإن لم تكن لم تسمّ أريكة. و قيل: الأرائك: الفرش في الحجال أيضا. و قال الراغب. «الأريكة: حجلة على سرير، و تسميتها بذلك: إمّا لكونها في الأرض متّخذة من أراك، أو من كونها مكانا للإقامة من قولهم: أرك بالمكان أروكا، و أصل الأروك الإقامة على رعي الأراك، ثم تجوّز به في غيره من الإقامات».
(1) البيت لعدي بن زيد تقدم و انظر ديوانه (127)، و هو من شواهد الكتاب (4/ 359)، المقتضب (1/ 251)، المنصف (1/ 338).
(2) تقدم.
(3) البيت في البحر المحيط (6/ 94)، الطبري (15/ 159)، القرطبي (10/ 397)، روح المعاني (15/ 271).
(4) انظر البحر المحيط (4/ 96).
الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون، ج4، ص: 454
و قرأ ابن محيصن «علّرائك» و ذلك: أنّه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف فالتقى مثلان: لام «عَلَى» - فإنّ ألفها حذفت لالتقاء الساكنين- و لام التعريف، و اعتدّ بحركة النقل فأدغم اللام في اللام، فصار اللفظ كما ترى، و مثله قول الشاعر:
3189-
فما أصبحت علّرض نفس بريئة
و لا غيرها إلا سليمان نالها «1»
يريد «على الأرض». و قد تقدّم قراءة قريبة من هذه أول البقرة: «بما أنزلّيك»، أي: أنزل إليك.
[سورة الكهف (18): الآيات 32 الى 34]
قوله:
قد تقدم أن ضرب مع المثل يجوز أن يتعدى لاثنين في سورة البقرة. و قال أبو البقاء: «التقدير: مثلا مثل، و «جَعَلْنا» : تفسير ل «مَثَلًا» فلا موضع له، و يجوز أن يكون موضعه نصبا نعتا ل «رَجُلَيْنِ» ، كقولك:
امررت برجلين، جعل أحدهما جنّة. قوله: وَ حَفَفْناهُما يقال: حفّ بالشّيء طاف به من جميع جوانبه. قال النّابغة:
3190-
يحفّه جانبا نيق و تتبعه
مثل الزّجاجة لم تكحل من الرّمد «2»
و حفّ به القوم: صاروا طائفين بجوانبه، و حاففته و حففته به: أي: جعلته مطيفا به.
قوله:
قد تقدم في السورة قبلها حكم «كِلْتَا» ، و هي مبتدأ، و «آتَتْ» : خبرها، و جاء هنا على الكثير مراعاة للفظها دون معناها، و قرأ عبد اللّه و كذلك هي في مصحفه «كلا الجنتّين» بالتذكير، لأن التأنيث مجازي، ثم قرأ: «آتَتْ» بالتأنيث اعتبارا بلفظة «الْجَنَّتَيْنِ» ، فهو نظير: «طلع الشّمس و أشرقت» و روى الفراء عنه قراءة أخرى: «كلّ الجنّتين آتى أكله» أعاد الضمير على لفظ كلّ. قوله: وَ فَجَّرْنا العامة على التشديد، و إنما كان كذلك، و هو نهر واحد مبالغة فيه، و قرأ يعقوب و عيسى بن عمر بالتخفيف، و هي قراءة الأعمش في سورة القمر، و التشديد هناك، أظهر لقوله: «عيونا»، و العامة على فتح هاء: «نهر» ، و أبو السّمال، و الفياض، بسكونها.
و قوله:
قد تقدم الكلام عليه في الأنعام مستوفى، و تقدم أنّ الثّمر- بالضم- المال، و قال ابن عباس: جميع المال من ذهب و فضّة و حيوان و غير ذلك، قال النابغة:
(1) انظر البيت في البحر المحيط (6/ 123).