کتابخانه تفاسیر
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 3
المجلد السادس
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
سورة القصص
مكية و تسمى أيضا سورة موسى، و تقدم أن أسماء السورة توفيقية و كذا ترتيبها و ترتيب الآيات اه إلا إِنَّ الَّذِي فَرَضَ الآية نزلت بالجحفة. و إلا الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إلى قوله لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ و هي سبع أو ثمان و ثمانون آية
طسم (1) اللّه أعلم بمراده بذلك
تِلْكَ أي هذه الآيات آياتُ الْكِتابِ الإضافة بمعنى من الْمُبِينِ (2) المظهر الحق من الباطل
نَتْلُوا نقص عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ خبر مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِ الصدق لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) لأجلهم لأنهم المنتفعون به
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا تعظم بسم اللّه الرّحمن الرّحيم قوله: (نزلت بالجحفة) قال مقاتل: خرج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من الغار ليلا مهاجرا في غير الطريق مخافة الطلب، فلما رجع إلى الطريق و نزل بالجحفة عرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها فقال له جبريل إن اللّه يقول إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد أي: إلى مكة ظاهرا عليها. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالجحفة فليست مكية و لا مدنية. و روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس: إلى معاد قال إلى الموت، و عن مجاهد أيضا، و عكرمة، و الزهري، و الحسن: أن المعنى لرادك إلى يوم القيامة و هو اختيار الزجاج يقال: بيني و بينك المعاد أي: يوم القيامة لأن الناس يعودون فيه أحياء و فرض معناه أنزل اه قرطبي.
قوله: (أي هذه الآيات) أي: آيات هذه السورة.
قوله: نَتْلُوا عَلَيْكَ أي: بواسطة جبريل، و قوله: مِنْ نَبَإِ مُوسى من تبعيضية أي: نتلو عليك شيئا هو بعض نبأ و خبر و قصة موسى و فرعون اه شيخنا.
و في السمين: قوله: نَتْلُوا عَلَيْكَ يجوز أن يكون مفعوله محذوفا دلت عليه صفته، و هو قوله:
مِنْ نَبَإِ مُوسى تقديره عليك شيئا من نبأ موسى، و يجوز أن تكون من مزيدة على رأي الأخفش أي:
نتلو عليك نبأ موسى اه.
قوله: (نقص) في المصباح: و قصصت الخبر قصا من باب قتل حدثته على وجهه و الاسم القصص بفتحتين اه.
قوله: بِالْحَقِ حال من فاعل نتلو أي: حال كوننا ملتبسين بالصدق أو من المفعول أي: حال كونه أي: الخبر ملتبسا بالحق اه شيخنا.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 4
فِي الْأَرْضِ أرض مصر وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً فرقا في خدمته يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ هم بنو إسرائيل يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ المولودين وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ يستبقيهن أحياء لقول بعض الكهنة له إن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سبب زوال ملكك إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) بالقتل و غيره
وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً بتحقيق الهمزتين و إبدال الثانية ياء يقتدى بهم في الخير وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) ملك فرعون
وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أرض مصر قوله: (لأجلهم) أشار به إلى أن اللام للتعليل متعلق بنتلو و هو الظاهر اه.
قوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ الخ مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل و ما نبؤهما؟ فقيل: إن فرعون الخ اه شيخنا.
قوله: وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي: فرقا يشيعونه في كل ما يريده من الشر و الفساد أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته أو أصنافا في استخدامه يستعمل كل صنف في عمل و يسخره فيه من بناء و حرث و حفر و غير ذلك من الأعمال الشاقة، و من لم يستعمله ضرب عليه الجزية، أو فرقا مختلفة قد أغرى بينهم العداوة و البغضاء لا تتفق كلمتهم اه أبو السعود.
قوله: يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً حال من فاعل جعل أو صفة لشيعا، و قوله: يُذَبِّحُ بدل اشتمال من قوله: يَسْتَضْعِفُ الخ اه شيخنا.
قال ابن عباس: إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس و عملوا المعاصي و لم يأمروا بالمعروف و لم ينهوا عن المنكر، فسلط اللّه عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم اللّه على يد نبيه موسى عليه السّلام اه خازن.
قوله: مِنْهُمْ أي: أهل مصر. قوله: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ أي: كثيرا فقد قيل: إنه ذبح سبعين ألفا اه.
قوله: (لقول بعض الكهنة الخ) تعليل لقوله: يُذَبِّحُ الخ. قوله: إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي: الراسخين في الإفساد، و لذلك اجترأ على مثل تلك الجريمة العظيمة من قتل المعصومين من أولاد الأنبياء عليهم السّلام اه أبو السعود.
قوله: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَ معطوف على أن فرعون الخ داخل معه في حكم تفسير النبأ و صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو حال من يستضعف اه بيضاوي.
و قوله: أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي: نتفضل عليهم بإنجائهم من بأسه اه شيخنا.
قوله: (يقتدى بهم) أي: بعد أن كانوا أتباعا مسخرين مهانين اه.
قوله: الْوارِثِينَ أي: وراثة معهودة فيما بينهم كما ينبىء عنه تعريف الوارثين اه أبو السعود.
أي: لا الوارثة المعهودة في شرعنا اه شيخنا.
قوله: وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أصل التمكين أن يجعل للشيء مكان يتمكن فيه ثم استعير للتسليط و إطلاق الأمر اه بيضاوي.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 5
و الشام وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما و في قراءة و يرى بفتح التحتانية و الراء و رفع الأسماء الثلاثة مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) يخافون من المولود الذي يذهب ملكهم على يديه
وَ أَوْحَيْنا وحي إلهام أو منام إِلى أُمِّ مُوسى و هو المولود المذكور و لم يشعر بولادته غير أخته أي: نسلطهم على مصر و الشام يتصرفون فيهما كيفما يشاؤون اه أبو السعود.
قوله: وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ أي: رؤية بصرية، و فرعون و ما عطف عليه مفعول أول، و ما كانوا يحذرون مفعول ثان و قوله: (و في قراءة الخ) و عليها فله مفعول واحد فقط و هو ما كانوا يحذرون اه شيخنا.
قوله: وَ جُنُودَهُما الإضافة إليهما إما للتغليب، أو أنه كان لهامان جنود مخصوصة و إن كان وزيرا أو لأن جند السلطان جند لوزيره اه شهاب.
قوله: (و الراء) أي: و فتح الراء، و على هذه القراءة تجب إمالة الألف إمالة محضة، و قوله:
(و رفع الأسماء الثلاثة) أي: على الفاعلية. قوله: مِنْهُمْ أي: من أولئك المستضعفين و هم بنو إسرائيل، و هم متعلق بنري أي: و نري فرعون و هامان و جنودهما من بني إسرائيل ما كانوا يحذرون أي: يخافونه منهم و قد كان اه شيخنا.
قوله: (الذي يذهب ملكهم على يديه) استشكل بأن ذهاب ملكهم و هلاكهم ليس مما رأوه و أجيب: بأن الابصار لا يتوقف على الحياة عند أهل الحق، و لذلك قال صلّى اللّه عليه و سلّم في أهل القلب: «ما أنتم بأسمع منهم» مع أنه يجوز أن المراد يكون رؤية طلائعه و أسبابه و ذلك حين أدركهم الغرق اه كرخي.
قوله: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى الخ معطوف على قوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ الخ دخل معه في حكم تفسير النبأ، و قد اشتملت هذه الآية على أمرين أرضعيه فألقيه، و نهيين لا تخافي و لا تحزني، و خبرين إنا رادوه إليك و جاعلوه من المرسلين، و بشارتين في ضمن الخبرين الرد و الجعل المذكوران اه شيخنا.
قوله: (وحي إلهام أو منام) عبارة القرطبي: اختلف في هذا الوحي إلى أم موسى، فقالت فرقة:
كان قولا في منامها، و قال قتادة: كان إلهاما، و قالت فرقة: كان بملك تمثل لها. قال مقاتل: أتاها جبريل بذلك، فعلى هذا هو وحي إعلام لا إلهام و أجمع الكل على أنها لم تكن نبية، و إنما أرسل الملك إليها على نحو تكليم الملك للأقرع و الأبرص و الأعمى في الحديث المشهور خرجه البخاري و مسلم. و قد ذكرناه في سورة براءة و غير ذلك مما روي من تكليم الملائكة الناس من غير نبوة، و قد سلمت الملائكة على عمران بن حصين و لم يكن بذلك نبيا اه.
قوله: إِلى أُمِّ مُوسى و اسمها يوحانذ بضم الياء و كسر النون و بالذل المعجمة اه شيخنا.
و في القرطبي: قال الثعلبي: كان اسم أم موسى لوخا بنت هاند بن لاوى بن يعقوب اه.
قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: إن أم موسى لما تقاربت ولادتها و كانت قابلة من القوابل التي و كلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى و مصاحبة لها، فلما أضربها الطلق أرسلت إليها
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 6
فقالت: قد نزل بي ما نزل فليسعفني حبك إياي اليوم فعالجتها، فلما أن وقع موسى بالأرض هالها نور بين عيني موسى فارتعش كل مفصل فيها و دخل حب موسى قلبها. قالت القابلة لها: يا هذه ما جئت إليك حين دعوتيني إلا و مرادي قتل مولودك، و لكن وجدت لابنك هذا حبا ما وجدت حب شيء مثل حبه فاحفظي ابنك. فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاؤوا على بابها ليدخلوا على أم موسى فقالت أخته: يا أماه هذا الحرس بالباب فلفت موسى بخرقة و ألقته في التنور و هو مسجور و طاش عقلها فلم تعقل ما تصنع. قال: فدخلوا فإذا التنور مسجور، ورأوا أم موسى و لم يتغير لها لون و لم يظهر لها لبن، فقالوا: ما أدخل عليك القابلة؟ فقالت: هي مصافية لي فدخلت عليّ زائرة فخرجوا من عندها فرجع إليها عقلها، فقالت لأخت موسى: فأين الصبي؟ فقالت: لا أدري فسمعت بكاء الصبي من التنور فانطلقت إليه و قد جعل اللّه عليه النار بردا و سلاما فاحتملته قال: ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها و قذف اللّه في نفسها أن تتخذ له تابوتا ثم تقذف التابوت في النيل، فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون فاشترت منه تابوتا صغيرا، فقال النجار: ما تصنعين بهذا التابوت؟ فقالت: لي ابن أخبئه في التابوت و كرهت الكذب. قال: و لم تقل أخشى عليه كيد فرعون، فلما اشترت التابوت و حملته و انطلقت به انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى، فلما همّ بالكلام أمسك اللّه لسانه فلم يطق الكلام و جعل يشير بيده فلم يدر الأمناء ما يقول فأعياهم أمره. قال كبيرهم: اضربوه فضربوه و أخرجوه، فلما انتهى النجار إلى موضعه ردّ عليه لسانه فتكلم فانطلق أيضا يريد الأمناء فأتاهم ليخبرهم فأخذ لسانه و بصره فلم يطق الكلام و لم يبصر شيئا فضربوه و أخرجوه، فبقي حيران فجعل اللّه عليه أن رد لسانه و بصره أن لا يدل عليه، و أن يكون معه، و يحفظه حيثما كان و عرف اللّه منه الصدق فرد عليه لسانه و بصره فخر للّه ساجدا و قال: يا رب دلني على هذا العبد الصالح فدله اللّه عليه فآمن به و صدقه.