کتابخانه تفاسیر
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 129
و بعثا، لأنه بكلمة كن فيكون إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع كل مسموع بَصِيرٌ (28) يبصر كل مبصر لا يشغله شيء عن شيء
أَ لَمْ تَرَ تعلم يا مخاطبا أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ يدخل اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ يدخله فِي اللَّيْلِ فيزيد كل منهما بما نقص من الآخر وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌ منهما يَجْرِي في فلكه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
ذلِكَ المذكور بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ الثابت وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ بالياء و التاء يعبدون مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ الزائل الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] و قال مجاهد: لأنه يقول للقليل و الكثير كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117] و نزلت الآية في أبي بن خلف و جماعة قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم: إن اللّه خلقنا أطوارا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما، ثم تقول: إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة، فأنزل اللّه عز و جل ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ لأن اللّه تعالى لا يصعب عليه ما يصعب على العباد و خلقه للعالم كخلقه لنفس واحدة اه.
قوله: (بما نقص) أي: بالجزء الذي نقص من الآخر.
قوله: وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ عطف على يولج، و الاختلاف بينهما في الصيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد في كل حين، و أما تسخير النيرين فأمر لا تعدد فيه و لا تجدد، و إنما التعدد و التجدد في آثاره اه أبو السعود.
قوله: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قاله هنا بلفظ إلى و في فاطر و الزمر بلفظ اللام، لأن ما هنا وقع بين آيتين دالتين على غاية ما ينتهي إليه الخلق و هما قوله: ما خَلْقُكُمْ الآية و قوله: اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً [لقمان: 33] الآية فناسب ذكر إلى الدالة على الانتهاء. و ما في فاطر و الزمر خال عن ذلك، إذ ما في فاطر لم يذكر مع ابتداء خلق و لا انتهائه و ما في الزمر ذكر مع ابتدائه فناسب ذكر اللام، و المعنى يجري كل كما ذكر لبلوغ أجل اه كرخي.
قوله: وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عطف على أن اللّه يولج الخ داخل معه في حيز الرؤية اه أبو السعود.
قوله: ذلِكَ (المذكور) أشار إلى ما تلي من الآيات الكريمة، و هو مبتدأ خبره قوله بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ أي بسبب أنه تعالى هو الحق الثابت ألوهيته، و قوله: وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ أي: و لأجل بطلان ألوهية ما يدعون من دونه اه أبو السعود.
و في البيضاوي: ذلك إشارة إلى الذي ذكر من سعة العلم و شمول القدرة و عجائب الصنع و اختصاص الباري بها اه.
و قوله: (بسبب أنه الثابت) الخ أشار إلى أن الحق الثابت المحقق، و معنى ثباته وجوده، و معنى كونه في ذاته أن ذلك ليس باستناده إلى شيء آخر فيكون واجب الوجود لذاته، فلذا فسره بقوله الواجب من جميع جهاته فهو عطف بيان له، و المراد بالجهات الوجوه أي: في ذاته و صفاته و غيرهما مما يليق بجنابه اه شهاب.
قوله: (بالياء و التاء) سبعيتان.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 130
وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُ على خلقه بالقهر الْكَبِيرُ (30) العظيم
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ السفن تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ يا مخاطبين بذلك مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ عبرا لِكُلِّ صَبَّارٍ عن معاصي اللّه شَكُورٍ (31) لنعمته
وَ إِذا غَشِيَهُمْ أي علا الكفار مَوْجٌ كَالظُّلَلِ كالجبال التي تظل من تحتها دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الدعاء بأن ينجيهم، أي لا يدعون معه غيره فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ متوسط بين الكفر و الإيمان، و منهم باق على كفره وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا و منها الإنجاء من الموج إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ غدار كَفُورٍ (32) لنعم اللّه تعالى
يا أَيُّهَا النَّاسُ أي قوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ الخ استشهاد آخر على باهر قدرته و غاية حكمته و شمول إنعامه اه أبو السعود.
و الباء للصلة أو للحال اه بيضاوي.
و قوله: (للصلة) أي: للتعدية أو للسببية، و قوله: (أو للحال) أي: للملابسة و المصاحبة واقعة مع متعلقها حالا أي: مصحوبة أي: بنعمته اه شهاب.
قوله: بِنِعْمَتِ اللَّهِ أي: بإحسانه في تهيئة أسباب الجري. قوله: (عبرا) لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ فبعث نفسه في التفكر في عدم غرقه، و في سيره إلى البلاد الشاسعة و الأقطار البعيدة، و في كون سيره ذهابا و إيابا تارة بريحين و تارة بريح واحدة، و في إنجاء أبيه نوح عليه السّلام، و من أراد اللّه تعالى من خلقه و إغراق غيرهم من جميع أهل الأرض و في غير ذلك من شؤونه و أموره اه خطيب.
قوله: (أي على الكفار) أي: أحاط بهم اه.
قوله: (أي لا يدعون معه غيره) أي: لزوال ما ينازع الفطرة الإيمانية من الهوى و لتقليد بما دهاهم من الشدائد اه أبو السعود.
قوله: (غيره) كالأصنام. قوله: (متوسط بين الكفر و الإيمان) أي: لانزجاره بعض الانزجار، و منهم باق على كفره لأن بعضهم كان أشد قولا و أعلى في الافتراء من بعض. قال الأصفهاني: فمنهم مقتصد أي: عدل موف في البر بما عاهد اللّه عليه في البحر من التوحيد له، يعني: ثبت على إيمانه اه.
قال الرازي: المقتصد المتوسط بين السابق بالخيرات، و الظالم لنفسه و هو الذي تساوت سيئاته و حسناته اه.
و ما قاله الشيخ المصنف تبع فيه الكشاف و عبارته: فمنهم مقتصد متوسط في الظلم و الكفر لأنه انزجر بعض الانزجار اه كرخي.
و في الخازن: قيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل، و ذلك أنه هرب عام الفتح إلى البحر فجاءتهم ريح عاصف فقال عكرمة: لئن أنجانا اللّه من هذا لأرجعن إلى محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و لأضعن يدي في يده فسكنت الريح، فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم و حسن إسلامه، و منهم من لم يوف بما عاهد و هو المراد بقوله:
وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا الخ اه.
قوله: (غدار) أي: لأنه نقض العهد الفطري و رفض ما كان عليه في البحر و هذا في مقابلة صبار
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 131
أهل مكة اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي يغني والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ فيه شيئا وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ فيه شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ بالبعث فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا عن الإسلام وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ في حلمه و إمهاله الْغَرُورُ (33) الشيطان
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ متى تقوم وَ يُنَزِّلُ بالتخفيف و التشديد الْغَيْثَ بوقت يعلمه وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أذكر أم أنثى، و لا كما أن كفور في مقابلة شكور اه شيخنا.
و في القاموس: الختر الغدر و الخديعة أو أقبح الغدر كالختور، و الفعل كضرب و نصر و هو خاتر و ختار و ختير و ختور اه.
قوله: لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ الخ كل من الجملتين نعت ليوما، و العائد في كل منهما مقدر قدره الشارح بقوله (فيه) اه شيخنا.
و في الخازن: و معنى الآية أن اللّه ذكر شخصين في غاية الشفقة و المحبة و هما أي: الوالد و الولد، فنبه بالأعلى على الأدنى و بالأدنى على الأعلى، فالوالد يجزي عن ولده في الدنيا لكمال شفقته عليه، و الولد يجزي عن والده لما له عليه من حق التربية و غيرها، فإذا كان يوم القيامة فكل إنسان يقول نفسي و لا يهتم بقريب و لا بعيد، و قال ابن عباس: كل امرىء تهمه نفسه اه.
قوله: وَ لا مَوْلُودٌ مبتدأ و هو مبتدأ ثان و جاز خبره، و الجملة خبر مولود و جاز الابتداء به و هو نكرة لأنه في سياق النفي اه كرخي.
و في السمين: قوله: وَ لا مَوْلُودٌ جوزوا فيه وجهين، أحدهما: أنه مبتدأ و ما بعده الخبر.
و الثاني: أنه معطوف على والد، و تكون الجملة صفة اه.
قوله: شَيْئاً تنازع فيه العاملان أن يجزي و جاز فأعمل الثاني و حذف من الأول، فلذلك قدره الشارح في الأول اه شيخنا.
قوله: وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ بأن يرجئكم التوبة و المغفرة فيجسركم على المعاصي اه بيضاوي.
و قوله: بِاللَّهِ أي: بسبب اللّه و في الكلام حذف المضاف أي: بسبب حلم اللّه كما أشار له بقوله (في حلمه و إمهاله) اه شيخنا.
قوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ نزلت لما قال الحارث بن عمرو للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم: متى الساعة؟ و أنا قد ألقيت الحب في الأرض فمتى السماء تمطر؟ و امرأتي حامل فهل حملها ذكر أم أنثى؟ و أي شيء أعمله غدا؟ و لقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت؟ اه خازن بتصرف.
قوله: عِلْمُ السَّاعَةِ أي: علم وقت قيامها كما أشار له بقوله: (متى تقوم) اه شيخنا.
قوله: وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ معطوف على عنده علم الساعة الواقع خبر إن، أي: و إن اللّه ينزل الغيث و يعلم ما في الأرحام و قوله: (بوقت) أي: في وقت يعلمه أي: و في مكان يعلمه اه شيخنا.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 132
يعلم واحدا من الثلاثة غير اللّه تعالى وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر، و يعلمه اللّه تعالى وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ و يعلمه اللّه تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكل شيء خَبِيرٌ (34) بباطنه كظاهره، روى البخاري عن ابن عمر حديث مفاتح الغيب خمسة
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلى آخر السورة.
و هذا من حيث ظاهر التركيب و أما من حيث المعنى فهو معطوف على الساعة فيكون العلم مسلطا أي: و عنده علم ينزل الغيث أي: علم وقت نزوله يشير لهذا التقدير قول الشارح بوقت أي: في وقت يعلمه و يشير إلى العطف المذكور، قوله: (و لا يعلم واحدا) من الثلاثة غير اللّه فهذا يقتضي أن كلّا من الثلاثة في حيز العلم، و أن العلم مسلط على ينزل تأمل. قوله: (بالتخفيف و التشديد) سبعيتان.
قوله: ما ذا تَكْسِبُ غَداً يجوز أن تكون ما استفهامية فتعلق الدراية و أن تكون موصولة فتنصب بها اه سمين.
و قوله: (يجوز أن تكون) ما استفهامية و على هذا الاحتمال فتكون مبتدأ، و ذا اسم موصول خبره، قوله: و أن تكون موصولة هذا الاحتمال لا يستقيم لأن ذا بعدما تمنع من ذلك إذ هي الأحق بأن تكون موصولة، فالأولى إبدال هذا الاحتمال باحتمال أن تكون ما مع ذا ركبا و جعلا اسم استفهام، و يكون مفعولا للفعل بعده أي ما تدري نفس تكسب غدا أي شيء، و جملة تكسب سادة مسد مفعول تدري و هي بمعنى العرفان فتنصب مفعولا واحدا تأمل. قوله: بِأَيِّ أَرْضٍ متعلق بتموت و هو معلق للدراية، فالجملة في محل نصب، و الباء ظرفية بمعنى أي في أي أرض نحو: زيد بمكة أي: فيها، فإن قيل: لم قال ذلك و لم يقل بأي وقت تموت مع أن كلّا منهما غير معلوم لغيره، بل نفي العلم بالزمان أولى لأن من الناس من يدعي علمه بخلاف المكان؟ فالجواب: أنه إنما خص المكان بنفي علمه، لأن الكون في مكان دون مكان في وسع الإنسان و اختياره، فاعتقاده علم مكان موته أقرب بخلاف الزمان، و لأن للمكان دون الزمان تأثيرا في جلب المصلحة و السقم و تأثيرهما فيه أكثر.
تنبيه
أضاف في الآية العلم إلى نفسه في الثلاثة من الخمسة المذكورة و نفي العلم عن العباد في الأخيرتين منها. مع أن الخمسة سواء في اختصاص اللّه تعالى بعلمها و انتفاء علم العباد بها، كما أشار إليه الشيخ المصنف في التقرير بقوله: (و يعلمه اللّه)، لأن الثلاثة الأولى أمرها أعظم و أفخم فخصت بالإضافة إليه تعالى، و الأخيرتان من صفات العباد فخصتا بالإضافة إليهم مع أنه إذا انتفى عنهم علمهما كان انتفاء علم ما عداهما من الخمسة أولى اه كرخي.
قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ (بكل شيء الخ) يشير إلى أن اللّه تعالى لما خصص أولا علمه بالأشياء المذكورة بقوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الخ ذكر أن علمه غير مختص بها بل هو عليم مطلقا بكل شيء و ليس علمه بظواهر الأشياء فقط، بل هو خبير بظواهر الأشياء و بواطنها اه كرخي.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 133
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
سورة السجدة مكية و هي ثلاثون آية
الم (1) اللّه أعلم بمراده به
تَنْزِيلُ الْكِتابِ القرآن مبتدأ لا رَيْبَ شك فِيهِ خبر بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قوله: (مكية) أي غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة قاله الكلبي و مقاتل، و قال غيرهما، إلا خمس آيات من قوله: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السجدة: 16] إلى الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20] و في الصحيح عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ السجدة، و هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الإنسان: 1] الحديث. و خرّج الدارمي أبو محمد في مسنده، عن جابر بن عبد اللّه قال: كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لا ينام حتى يقرأ الم تَنْزِيلُ السجدة، تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1]. قال الدارمي: و أخبرنا أبو المغيرة قال: حدثنا عبدة عن خالد بن معدان قال: اقرؤوا المنجية و هي الم تَنْزِيلُ، فإنه بلغني أن رجلا كان يقرؤها ما يقرأ شيئا غيرها، و كان كثير الخطايا فنشرت جناحها عليه و قالت: رب اغفر له فإنه كان يكثر قراءتي، فشفعه الرب فيه و قال: اكتبوا له بكل خطيئة حسنة و ارفعوا له درجة اه قرطبي.
قوله: (ثلاثون آية) و قيل: تسع و عشرون بناء على الاختلاف في أن آخر الآية لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أو هو كافرون، فعلى الأولى تكون ثلاثين و على الثاني تكون تسعا و عشرين اه شيخنا.
قوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ فيه أوجه خمسة، أحدها: أنه خبر عن الم لأن ألم يراد به السورة و بعض القرآن، و تنزيل بمعنى منزل و الجملة من قوله: لا رَيْبَ فِيهِ حال من الكتاب، و العامل فيها تنزيل لأنه مصدر، و من رب العالمين متعلق به أيضا، و يجوز أن يكون حالا من الضمير فيه لوقوعه خبرا و العامل فيه الظرف أو الاستقرار. و الثاني: أن يكون تنزيل مبتدأ، و لا ريب فيه خبره، و من رب العالمين حال من الضمير في فيه، و لا يجوز حينئذ أن يتعلق بتنزيل لأن المصدر أخبر عنه فلا يعمل و من يتسع في الجار لا يبالي بذلك. الثالث: أن يكون تنزيل مبتدأ أيضا، و من رب خبره، و لا ريب حال أو معترض. الرابع: أن يكون لا ريب و من رب العالمين خبرين لتنزيل. الخامس: أن يكون تنزيل خبر مبتدأ مضمر، و كذلك لا ريب، و كذلك من رب فيكون كل جملة مستقلة برأسها و يجوز أن يكونا حالين من تنزيل، و أن يكون من رب و هو الحال و لا ريب معترض، و تقدم في أول البقرة ما يرشد لهذا، و إنما أعدته تطرئة اه سمين.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 134
أول مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) خبر ثان
أَمْ بل يَقُولُونَ افْتَراهُ محمد؟ لا بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ به قَوْماً ما نافية أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) بإنذارك
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أولها الأحد، و آخرها الجمعة ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ و هو قوله: أَمْ يَقُولُونَ أم مقطعة و هي عند البصريين تقدر ببل الإضرابية و همزة الاستفهام الإنكاري، و الشارح هنا قدرها ببل فقط، و قال بعده: لا إشارة إلى أن الاستفهام إنكاري مع أنه لم يذكر الهمزة و لعلها سقطت من قلم النساخ، و قوله: (لا) أي لا ينبغي و لا يليق منهم هذا القول اه شيخنا.
قوله: بَلْ هُوَ الْحَقُ إضراب ثان، و لو قيل: بأنه إضراب إبطال لنفس افتراه وحده لكان صوابا و على هذا يقال كل ما في القرآن إضراب فهو انتقال إلا هذا فإنه يجوز أن يكون إبطالا لأنه إبطال لقولهم أي: ليس هو كما قالوا مفترى بل هو الحق اه سمين.
قوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً ينصب مفعولين، و الثاني محذوف قدره بقوله. و في السمين: الظاهر أن المفعول الثاني للإنذار محذوف و قوما هو الأول إذ التقدير لتنذر قوما العقاب، و ما أتاهم جملة منفية في محل نصب صفة لقوما. يريد الذين في الفترة بين عيسى و محمد عليهما الصلاة و السّلام. و جعله الزمخشري كقوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس: 6] فعلى هذا يكون من نذير هو فاعل أتاهم، و من مزيدة فيه و من قبلك صفة لنذير، و يجوز أن يتعلق من قبلك بأتاهم، و جوز الشيخ أن تكون ما موصولة في الموضعين، و التقدير لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك، و من نذير متعلق بأتاهم أي: أتاهم على لسان نذير من قبلك و بواسطته، و كذلك لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أي:
العقاب الذي أنذره آباؤهم، فما مفعولة في الموضعين، و أنذر متعد إلى اثنين. قوله تعالى: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: 13] و هذا القول جار على ظواهر القرآن. قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] أن تقولوا ما جاءنا من بشير و لا نذير فقد جاءكم بشير و نذير. قلت: و هذا الذي قاله ظاهر اه.
و في الخازن: المراد بالقوم العرب لأنهم كانوا أمة لم يأتهم نذير قبل محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و قال ابن عباس: يعني أهل الفترة الذين كانوا بين عيسى و محمد عليهما الصلاة و السّلام اه.
قوله: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ متعلق بقوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً، و الترجي معتبر من جهته عليهم السّلام، أي لتنذرهم راجيا لاهتدائهم أو لرجاء اهتدائهم اه أبو السعود.
قوله: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي: على التوزيع كما يأتي في سورة فصلت فخلق الأرض أولا في الأحد و الاثنين، و خلق ما فيها ثانيا في الثلاثاء و الأربعاء، و خلق السموات ثالثا في الخميس و الجمعة اه شيخنا.
و في القرطبي: قال الحسن: في ستة أيام أي: من أيام الدنيا، و قال ابن عباس: إن اليوم من الأيام الستة التي خلق اللّه فيها مقداره ألف سنة من سني الدنيا، و قال الضحاك: في ستة آلاف سنة أي:
في مدة ستة أيام من أيام الآخرة، و ليست ثم للترتيب و إنما هي بمعنى الواو اه.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 135
في اللغة سرير الملك، استواء يليق به ما لَكُمْ يا كفار مكة مِنْ دُونِهِ أي غيره مِنْ وَلِيٍ اسم ما بزيادة من أي ناصر وَ لا شَفِيعٍ يدفع عذابه عنكم أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) هذا فتؤمنون
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ مدّة الدنيا ثُمَّ يَعْرُجُ يرجع الأمر و التدبير إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ قوله: (و هو في اللغة سرير الملك) و المراد به هنا الجسم النوراني المحيط بالعالم كله اه شيخنا.
قوله: (استواء يليق به) اختلف العلماء في هذه الآية و نظائرها على قولين، أحدهما: ترك التعرض إلى بيان المراد. و الثاني: التعرض إليه، و الأول أسلم كما جرى عليه الشيخ المصنف، لأن صفة الاستواء مما لا يجب العلم بها، فمن لم يتعرض إليه لم يترك واجبا و من تعرض إليه فقد يخطىء فيعتقد خلاف ما هو عليه، فالأول غاية ما يلزمه أنه لا يعلم، و الثاني يكاد يقع في أن يكون جاهلا، و عدم العلم و الجهل المركب كالسكوت و الكذب، و لا شك أن السكوت خير من الكذب اه كرخي.
قوله: (اسم ما) فيه أن الترتيب مفقود هنا إلا أن يقال إنه جرى على رأي ضعيف لا يشترطه في عملها اه شيخنا.
قوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي: أمر الدنيا أي: شأنها و حالها و الأمور التي تقع فيها، و المراد بتدبير أمرها القضاء السابق الذي هو الإرادة الأزلية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، و جعل القضاء مبتدأ من جانب السماء لكون القضاء منوطا بأسباب سماوية منتهيا إلى الأرض لانتهاء آثار تلك الأسباب إلى الأرض، و عروج أمر الدنيا إليه تعالى مجاز عن ثبوته في علمه اه زاده.
فإلى متعلقة بيدبر لتضمنه معنى ينزل، و من ابتدائية و إلى انتهائية اه.
و في القرطبي: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض قال ابن عباس: ينزل القضاء و القدر، و قيل:
ينزل الوحي مع جبريل. و روى عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن سابط قال: يدبر أمر الدنيا أربعة:
جبريل، و ميكائيل، و ملك الموت، و إسرافيل صلوات اللّه عليهم أجمعين، فأما جبريل عليه السّلام فموكل بالرياح و الجنود، و أما ميكائيل فموكل بالقطر و الماء، و أما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح، و أما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم، و قد قيل: إن العرش موضع التدبير كما أن ما دون العرش موضع التفصيل. قال اللّه تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يدبر الأمر: يفصل الآيات و ما دون السموات موضع التصريف. قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا [الفرقان: 50] اه.
قوله: (مدة الدنيا) و هي سبعة آلاف سنة كما ورد من عدة طرق، و النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بعث في الألف السادس، و دلت الآثار على أن مدة أمته صلّى اللّه عليه و سلّم تزيد على ألف سنة و لا تبلغ الزيادة عليها خمسمائة سنة اه من كتاب للسيوطي سماه الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف.