کتابخانه تفاسیر
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 202
الحجر به حتى وقف بين ملإ من بني إسرائيل، فأدركه موسى فأخذ ثوبه فاستتر به، فرأوه لا أدرة به و هي نفخة في الخصية وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) ذا جاه. و مما أوذي به نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قسم قسما، فقال رجل: هذه قسمة ما أريد بها وجه اللّه تعالى، فغضب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من ذلك و قال:
يرحم اللّه موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر، رواه البخاري.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) صوابا
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ يتقبلها وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) نال غاية مطلوبه
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ الصلوات و غيرها مما في فعلها من الثواب قوله: وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (ذا جاه) يقال: وجه الرجل يوجه وجاهة، فهو وجيه إذا كان ذا جاه و قدر، و العامة على قراءة عند الظرفية المحازية، و ابن مسعود، و الأعمش، و أبو حيوة عبدا من العبودية للّه جار و مجرور و هي حسنة اه كرخي.
قوله: (يتقبلها) أو يوفقكم للأعمال الصالحة اه بيضاوي.
قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ قال ابن عباس: أراد بالأمانة الطاعة و الفرائض التي فرضها اللّه تعالى على عباده عرضها على السموات و الأرض و الجبال على أنهم إن أدوها أثابهم و إن ضيعوها عذبهم. و قال ابن مسعود: الأمانة أداء الصلوات و إيتاء الزكاة و صوم رمضان و حج البيت و صدق الحديث و قضاء الدين و العدل في المكيال، و أشد من هذا كله الودائع. و قيل: هي جميع ما أمروا به و نهوا عنه، و قيل: هي الصوم و غسل الجنابة و ما يخفى من الشرائع. و قال عبد اللّه بن عمرو بن العاص: أول ما خلق اللّه من الإنسان الفرج، و قال: هذه الأمانة استودعكها، فالفرج أمانة و الأذنان أمانة و العين أمانة و اليد أمانة و الرجل أمانة، و لا إيمان لمن لا أمانة له. و في رواية عن ابن عباس: هي أمانات الناس و الوفاء بالعهود، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنا و لا معاهدا في شيء لا في قليل و لا في كثير، فعرض اللّه هذه الأمانة على أعيان السموات و الأرض و الجبال، و هذا قول جماعة من التابعين و أكثر السلف فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: و ما فيها؟ قال: إن أحسنتن جوزيتن و إن عصيتن عوقبتن. قلن: لا يا رب نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابا و لا عقابا، و قلن ذلك خوفا و خشية و تعظيما لدين اللّه تعالى، لئلا يقوموا بها لا معصية و لا مخالفة لأمره، و كان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما و لو ألزمهن لم يمتنعن من حملها، و الجمادات كلها خاضعة للّه تعالى مطيعة لأمره ساجدة له. قال بعض أهل العلم: ركب اللّه تعالى فيهن العقل و الفهم حين عرض عليهن الأمانة حتى عقلن الخطاب و أجبن بما أجبن. و قيل: المراد من العرض على السموات و الأرض و الجبال هو العرض على أهلها من الملائكة دون أعيانها، و القول الأول أصح و هو قول العلماء: فأبين أن يحملنها و أشفقن منها أي: خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب، و حملها الإنسان يعني آدم. قال اللّه عز و جل لآدم: إني عرضت الأمانة على السموات و الأرض و الجبال فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال يا رب و ما فيها؟ قال: إن أحسنت جوزيت و إن أسأت عوقبت، فحملها آدم فقال:
بين أذني و عاتقي، قال اللّه تعالى: أما إذا تحملت فسأعينك و أجعل لبصرك حجابا، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل فارخ عليه حجابه و أجعل للسانك لحيين و غلاما، فإذا خشيت فاغلق عليه و أجعل
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 203
و تركها من العقاب عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ بأن خلق فيها فهما و نطقا فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ خفن مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ آدم بعد عرضها عليه إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً لنفسه بما حمله لفرجك لباسا فلا تكشفه على ما حرمت عليك. قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها و بين أن أخرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر إلى العصر. إنه كان ظلوما جهولا. قال ابن عباس: ظلوما لنفسه جهولا بأمر ربه و ما تحمل من الأمانة. و قيل: ظلوما حين عصى ربه جهولا أي لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة. و قيل: ظلوما جهولا حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها و ضمنها و لم يف بضمانها: و قيل في تفسير الآية قول آخر، و هو أن اللّه تعالى ائتمن السموات و الأرض على شيء و ائتمن آدم و أولاده على شيء، و الأمانة في حق الاجرام العظام هي الخضوع و الطاعة لما خلقن له. و قوله: (فأبين أن يحملنها) أي: أدين الأمانة و لم يخن فيها، و أما الأمانة في حق بني آدم فهو ما ذكر من الطاعة و القيام بالفرائض، و قوله: وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ أي: خان فيها، و على هذا القول حكي عن الحسن أنه قال: الإنسان هو الكافر و المنافق حملا الأمانة و خانا فيها، و القول الأول قول السلف و هو الأول في تفسير الآية اه خازن.
قوله: (مما في فعلها) من بمعنى مع أي مع ما في فعلها أي: الأمانة التي هي التكاليف، و قوله:
(من الثواب) بيان لما أي: عرضناها مع الثواب و العقاب على السموات اه شيخنا.
قوله: (بأن خلق فيها فهما) أي: حتى عقلت الخطاب. و قوله: (و نطقا) أي: حتى أجابت بما تقدم اه خازن.
قوله: فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها أتى بضمير هذه كضمير الإناث لأن جمع التكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك و إن كان مذكرا، و إنما ذكرنا ذلك لئلا يتوهم أنه قد غلب المؤنث و هو السموات على المذكر و هو الجبال، و اعلم أنه لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 31] لأن السجود هناك كان فرضا، و ههنا الأمانة كانت عرضا و الإباء هناك كان استكبارا و ههنا كان استصغارا لقوله تعالى: وَ أَشْفَقْنَ مِنْها أي: خفن من الأمانة أن لا يؤدينها كما أشار إليه الشيخ المصنف في التقرير اه كرخي.
قوله: وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ معطوف على مقدر أي: فعرضناها على الإنسان فحملها كما أشار له بقوله: (بعد عرضها عليه)، و هذا المقدر هو المشار إليه بقوله: (متعلقة بعرضنا المترتب عليه حمل آدم) أي: متعلقة بعرضنا المقدر اه شيخنا.
و لا حاجة إلى هذا كله بل كان يكفي أن يقول متعلقة بحملها اه.
و في القرطبي: و اللام متعلقة بحملها أي: حملها ليعذب العاصي و يثيب المطيع، و قيل: متعلقة بعرضنا أي: عرضنا الأمانة على الجميع ثم قلدناها الإنسان ليظهر شرك المشرك و نفاق المنافق ليعذبهم اللّه، و إيمان المؤمن ليثيبه اللّه اه.
قوله: ظَلُوماً (لنفسه) المراد بظلمه لها إتعابه إياها كما أشار له بقوله: (بما حمله) و هذا الظلم
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 204
جَهُولًا (72) به
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ اللام متعلقة بعرضنا المترتب عليه حمل آدم الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ المضيعين الأمانة وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ المؤدين الأمانة وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً للمؤمنين رَحِيماً (73) بهم.
ممدوح من الأنبياء و من توقف فيه، فهم أن المراد بالظلم حقيقته و هي مجاوزة حد الشرع اه شيخنا.
قوله: جَهُولًا (به) أي: بعاقبته و أن النفس لا تطيق الدوام عليه اه شيخنا.
قوله: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ الخ أي: حملها الإنسان ليعذب اللّه بعض أفراده الذين لم يراعوها على أن اللام للعاقبة، فإن التعذيب و إن لم يكن غرضا حاملا على تحملها، لكن لما ترتب الأغراض على الأفعال المعلل بها أبرز في معرض الغرض أي: كان عاقبة حمل الإنسان أن يعذب اللّه من أفراده من لم يقم بهذه الأمانة، و أن يثيب من قام بها و الالتفات إلى الاسم الجليل أولا لتهويل الخطب و تربية المهابة و الإظهار في موضع الإضمار ثانيا في قوله: وَ يَتُوبَ اللَّهُ لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد و الوعد حقه، و اللّه أعلم اه أبو السعود.
قوله: غَفُوراً (للمؤمنين) أي: حيث عفا عن فرطاتهم رحيما بهن حيث أثابهم بالعفو على طاعتهم، مكرما لهم بأنواع الكرم و اللّه أعلم اه خطيب.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 205
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
سورة سبإ مكية إلا وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الآية. و هي أربع أو خمس و خمسون آية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حمد تعالى نفسه بذلك، و المراد به الثناء بمضمونه من ثبوت الحمد، و هو الوصف بالجميل للّه تعالى الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ملكا و خلقا وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ كالدنيا يحمده أولياؤه إذا دخلوا الجنة وَ هُوَ الْحَكِيمُ في فعله الْخَبِيرُ (1) بخلقه
يَعْلَمُ ما يَلِجُ يدخل فِي الْأَرْضِ كماء و غيره وَ ما يَخْرُجُ مِنْها كنبات و غيره وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
بالصرف و تركه كما سيأتي في الشرح. قوله: (حمد تعالى نفسه) من باب فهم كما في المختار، و قوله: (بذلك) أي: بذلك القول و هو الجملة المذكورة، و قوله: (المراد به) نعت لذلك، و قوله: (من ثبوت الحمد الخ) بيان للمضمون، و قوله: (للّه) متعلق بثبوت اه شيخنا.
قوله: (ملكا و خلقا) تمييزان عن نسبة ما في السموات اه كرخي.
قوله: (كالدنيا يحمده أولياؤه إذا دخلوا الجنة) يقولون: الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن، الحمد للّه الذي صدقنا وعده فله الحمد في الدارين فحذف الدنيا لدلالة الآخرة عليها، لأن النعم فيهما كله منه. فإن قلت: الحمد مدح النفس و مدحها مستقبح فيما بين الخلق فما وجه ذلك؟ فالجواب: إنه دليل على أن حاله تعالى بخلاف حال الخلق، و أنه يحسن منه ما يقبح من الخلق، و ذلك يدل على أنه تعالى أن تقاس أفعاله على أفعال العباد و هذا يهدم أصول المعتزلة بالكلية قاله الفخر الرازي اه كرخي.
قوله: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ الخ تفصيل لبعض ما يحيط به علمه تعالى من الأمور التي نيطت بها مصالحهم الدينية و الدنيوية اه أبو السعود.
قوله: ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أي: من المطر و الكنوز و الأموات و ما يخرج منها أي: من النبات و الأشجار و العيون و المعادن و الأموات إذا بعثوا وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ أي: من الثلج و البرد و المطر و أنواع البركات و الملائكة، وَ ما يَعْرُجُ فِيها: أي: في السماء من الملائكة و أعمال العباد، وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ أي: للمفرطين في أداء ما وجب عليهم من شكر نعمه اه خازن.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 206
رزق و غيره وَ ما يَعْرُجُ يصعد فِيها من عمل و غيره وَ هُوَ الرَّحِيمُ بأوليائه الْغَفُورُ (2) لهم
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ القيامة قُلْ لهم بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ بالجر صفة، و الرفع خبر مبتدإ، و علام بالجر لا يَعْزُبُ يغيب عَنْهُ مِثْقالُ وزن ذَرَّةٍ أصغر نملة فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) بيّن هو اللوح المحفوظ
لِيَجْزِيَ فيها الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4) قوله: (كماء و غيره) أي: كالكنوز و الدفائن و الأموات، و عورض هذا بأنها مما يوضع فيها لا مما يلج فيها. فالجواب: بأن الوضع هو الإيلاج و الولوج مطاوعة اه كرخي.
قوله: وَ ما يَعْرُجُ فِيها ضمن العروج معنى الاستقرار فعداه بفي دون إلى و السماء جهة العلو مطلقا اه شهاب.
قوله: لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ أرادوا بضمير التكلم جنس البشر قاطبة لا أنفسهم أو معاصريهم فقط، كما أرادوا بنفي إتيانها نفي وجودها بالكلية لا عدم حضورها مع تحققها في نفس الأمر، و إنما عبروا بذلك لأنهم كانوا يوعدون بإتيانها اه أبو السعود.
قوله: قُلْ (لهم) بَلى رد لكلامهم و إثبات لما نفوه على معنى ليس الأمر إلا إتيانها.
و قوله: وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ تأكيد له على أتم الوجوه و أكملها، و قوله: عالِمِ الْغَيْبِ الخ تقوية للتأكيد لأن تعقيب القسم بجلائل نعوت المقسم به يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه و قوة إثباته و صحته لما أن ذلك في حكم الاستشهاد على الأمر اه أبو السعود.
قوله: (بالجر صفة الخ) و القراءات الثلاث سبعيات اه شيخنا.
قوله: لا يَعْزُبُ عَنْهُ بضم الزاي في قراءة الجمهور، و قرأ الكسائي بكسرها اه بيضاوي.
و في المصباح: و عزب الشيء من باب قتل و ضرب غاب و خفي اه.
قوله: وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ جملة من مبتدأ و خبر مؤكدة لنفي العزوب اه أبو السعود.
و في السمين: قوله: وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ العامة على رفع أصغر و أكبر و فيه وجهان، أحدهما:
الابتداء و الخبر إلا في كتاب. و الثاني: النسق على مثقال و على هذا فيكون قوله: إِلَّا فِي كِتابٍ تأكيدا للنفي في لا يعزب كأنه قال: لكنه في كتاب مبين و يكون في محل الحال. و قرأ قتادة، و الأعمش، و رويم، عن أبي عمرو، و نافع أيضا: بفتح الراءين و فيه و جهان، أحدهما: أن لا هي لا التبرئة بني اسمها معها، و الخبر قوله: إِلَّا فِي كِتابٍ. و الثاني: النسق على ذرة اه.
قوله: وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ إشارة إلى أن مثقال لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب أيضا فإن قيل: فأي حاجة إلى ذكر الأكبر، فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد و إن يعلم الأكبر؟ فالجواب:
لما كان اللّه تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب، فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغائر لكونها محل النسيان، و أما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال: الإثبات في الكتاب ليس كذلك، فإن الأكبر مكتوب فيه أيضا اه كرخي.
قوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا علة لقوله لتأتينكم و بيان لما يقتضيه إتيانها اه أبو السعود.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 207
حسن في الجنة
وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي إبطال آياتِنا القرآن مُعاجِزِينَ و في قراءة و فيما يأتي معاجزين، أي مقدرين عجزنا أو مسابقين لنا فيفوتونا لظنهم أن لا بعث و لا عقاب أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ سيىء العذاب أَلِيمٌ (5) مؤلم بالجر و الرفع، صفة لرجز و عذاب
وَ يَرَى و قد أشار له للشارح بقوله: (فيها) أي: الساعة اه شيخنا.
قوله: (حسن في الجنة) أي: محمود العاقبة.
قوله: وَ الَّذِينَ سَعَوْا يجوز فيه و جهان، أظهرهما: أنه مبتدأ، و أولئك و ما بعده خبره.
و الثاني: أنه عطف على الذين قبله أي: و يجزي الذين سعوا و يكون أولئك بعده مستأنفا، و أولئك الذين قبله و ما في حيزه معترضا بين المتعاطفين اه أبو السعود.
قوله: فِي (إبطال) آياتِنا (القرآن) أي: بالطعن فيها و نسبتها إلى السحر و الشعر و غير ذلك لأن المكذب آت بإخفاء آيات بينات، فيحتاج إلى السعي العظيم و الجد البليغ ليروج كذبه لعله يعجز المتمسك به اه كرخي.
قوله: (و في قراءة) أي: سبعية. و قوله: (و فيما يأتي) أي: آخر السورة. قوله: (أي مقدرين الخ) لف و نشر مرتب، فالأول توجيه للقراءة الأولى، و الثاني للثانية. و قد تقدم نظير ذلك مع زيادة في سورة الحج اه كرخي.
و في البيضاوي: معجزين أي: مثبطين عن الإيمان من أراده اه.
و معنى التقدير في كلام الشارح الاعتقاد و قوله: (مسابقين) أطلق المعاجزة على المسابقة لكون كل واحد من المتسابقين يطلب إعجاز الآخر عن اللحوق به و المسابقة مع اللّه و إن كانت مما لا يتصور إلا أن المكذبين بآيات اللّه لما قدروا في أنفسهم و طمعوا أن كيدهم في الإسلام يتم لهم شبهوا بمن يسابق اللّه بحسب زعمهم اه زاده.
و في الشهاب: عند الآية الآتية ما نصه قال الراغب: أصل معنى العجز التأخر لكون المتأخر خلف عجز السابق أو عنده، ثم تعورف فيما هو معروف ظاهرا، فالمراد هنا بالمعاجزة التأخر المسبوق بتقديم السابق، و معنى المفاعلة غير مقصود هنا إذ المقصود السبق و عدم قدرة غيرهم عليهم لغلبتهم، فلذا لم يقل في تفسيره مسابقين فغلبتهم إما للأنبياء و هي متصورة أو للّه و هي غير متصورة، فلذا جعلها بناء على زعمهم الفاسد و ظنهم الباطل لا أنه موضوع له اه.
قوله: (فيفوتونا) في نسخة فيفوتوننا، و في البيضاوي: كي فوتونا و عليها فحذف النون ظاهر اه.
و قوله: (لظنهم أن لا بعث الخ) علة لقوله سعوا.
قوله: وَ يَرَى الَّذِينَ معطوف على يجزي فهو منصوب أو مستأنف فهو مرفوع، فقول الشارح يعلم يصح قراءته بالوجهين، و الذين: فاعل، و الذي أنزل: مفعول أول، و قوله: هُوَ (فصل) أي:
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 208
يعلم الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مؤمنو أهل الكتاب، كعبد اللّه بن سلام و أصحابه الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي القرآن هُوَ فصل الْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ طريق الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) أي اللّه ذي العزة المحمود
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي قال بعضهم على جهة التعجيب لبعض هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ هو محمد يُنَبِّئُكُمْ يخبركم أنكم إِذا مُزِّقْتُمْ قطعتم كُلَّ مُمَزَّقٍ بمعنى تمزيق إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ ضمير فصل متوسط بين المفعولين، و الحق مفعول ثان، و يهدي معطوف على المفعول الثاني أي:
يرونه حقا و هاديا اه شيخنا.
و في أبي السعود: و يهدي عطف على الحق عطف الفعل على الاسم لأن الفعل في تأويل الاسم كأنه قيل: وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ و هاديا اه.
و في الشهاب: قوله: وَ يَهْدِي فيه أوجه، أحدها: أنه مستأنف و فاعله إما ضمير الذين أنزل أو اللّه، فقوله: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ التفات. الثاني: أنه معطوف على الحق بتقدير، و أنه يهدي. الثالث:
أنه معطوف عليه عطف الفعل على الاسم. الرابع: أنه حال بتقدير و هو يهدي اه.
قوله: (مؤمنو أهل الكتاب الخ) عبارة القرطبي: وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قال مقاتل: الذين أوتوا العلم هم مؤمنو أهل الكتاب، و قال ابن عباس: هم أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و قيل: أهل الكتاب، و قيل: جميع المسلمين و هو أصح لعمومه، و الرؤية بمعنى العلم و هي في موضع نصب عطفا على ليجزي أي: ليجزي و ليرى قاله الزجاج و الفراء اه.
و يرد على العطف المذكور أن المراد من الآية ثبوت العلم لهم في الدنيا، و العطف يقتضي ثبوته لهم في الآخرة و ليس مرادا فالحق هو الاستئناف اه.
قوله: (هو محمد) و نكروه سخرية به و استهزاء قاتلهم اللّه اه أبو السعود.
و في الشهاب: و التعبير عنه برجل المنكر من باب التجاهل كأنهم لم يعرفوا منه إلا أنه رجل و هو عندهم أشهر من الشمس اه.
و في القرطبي: فإن قلت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مشهورا علما في قريش و كان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم فما معنى قولهم هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ فنكروه لهم و عرضوا عليهم الدلالة عليه كما يدل على مجهول في أمر مجهول؟ قلت: كانوا يقصدون بذلك السخرية و الهزء به فأخرجوه مخرج التحاكي ببعض الحكايات التي يتحاكى بها للضحك و التلهي متجاهلين به اه.