کتابخانه تفاسیر
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 240
تَرى يا محمد إِذْ فَزِعُوا عند البعث لرأيت أمرا عظيما فَلا فَوْتَ لهم منا، أي لا يفوتونا وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) أي القبور
وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ بمحمد أو القرآن وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ موصولة أي: بسبب الذي يوحيه فعائدها محذوف اه سمين.
قوله: إِنَّهُ سَمِيعٌ (للدعاء) عبارة البيضاوي: يسمع قول كل من المهتدي و الضال و فعله و إن بالغ في إخفائهما و هي أنسب بالسياق، انتهت.
قوله: وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ذكر أحوال أهل الكفر في وقت يضطرون فيه إلى معرفة الحق، و المعنى: لو ترى إذ فزعوا في الدنيا عند نزول الموت أو غيره من بأس اللّه تعالى بهم. روي معناه عن ابن عباس، و عن الحسن: هو فزعهم في القبور من الصيحة، و عنه أن ذلك الفزع إنما هو إذا خرجوا من قبورهم و قاله قتادة. و قال ابن معقل: إذا عاينوا عقاب اللّه جل جلاله يوم القيامة. و قال السدي: هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة فلم يستطيعوا فرارا إلى التوبة. و قال سعيد بن جبير: هو الجيش الذي يخسف به في البيداء فيبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعون، فهذاهو فزعهم فلا فوت فلا نجاة قاله ابن عباس. و قال مجاهد: فلا مهرب و أخذوا من مكان قريب أي: من القبور، قيل: من حيث كانوا فهم من اللّه قريبون لا يبعدون عنه و لا يفوتونه. و قال ابن عباس: نزلت في ثمانين ألفا يغزون في آخر الزمان الكعبة ليخربوها، فلما يدخلون البيداء يخسف بهم فهو الأخذ من مكان قريب اه قرطبي.
قوله: (لرأيت أمرا عظيما) أشار به إلى أن جواب لو محذوف، و يجوز أن تكون إذ مفعول ترى أي و لو ترى وقت فزعهم على المجاز العقلي، و يجوز أن يكون ظرفا له اه كرخي.
و الأولى من هذا أن مفعول ترى محذوف أي: و لو ترى حالهم وقت أن فزعوا الخ.
قوله: (أي لا يفوتوننا) أي: لا بهرب و لا بحصن اه كرخي.
قوله: وَ أُخِذُوا و قوله: وَ قالُوا و قوله: وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ الثلاثة معطوفة على فزعوا و الأربعة بمعنى الاستقبال و عبّر فيها بالماضي لتحقق الوقوع اه شيخنا.
قوله: (أي القبور) و هي قريبة من مساكنهم في الدنيا كما قاله أبو حيان، أو قريبة من اللّه أي: لا يبعد عليه أخذهم منها كما قاله غيره اه شيخنا.
و قيل: أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي: قبضت أرواحهم في أماكنهم، فلم يمكنهم الفرار من الموت. و هذا على قول من يقول: هذا الفزع عند النزع، و يجوز أن يكون هذا الفزع الذي هو بمعنى الإجابة يقال: فزع الرجل إذا أجاب الصارخ الذي يستغيث به إذا نزل به خوف. قال: أراد الخسف أو القتل في الدنيا كيوم بدر قال: أخذوا في الدنيا قبل أن يأخذوا في الآخرة، و من قال هو فزع يوم القيامة قال: أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها: و قيل: أخذوا من مكان قريب أي: من جهنم فألقوا فيها اه قرطبي.
قوله: وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ أي: قالوا ذلك وقت النزع و هو وقت نزول العذاب بهم عند الموت
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 241
بالواو و بالهمزة بدلها أي تناول الإيمان مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) عن محله إذ هم في الآخرة و محله الدنيا
وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ في الدنيا وَ يَقْذِفُونَ يرمون بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) أي بما غاب علمه عنهم غيبة بعيدة حيث قالوا في النبي ساحر شاعر كاهن، و في القرآن سحر شعر كقوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [غافر: 84] أو عند البعث فإن الكفار كلهم يؤمنون حينئذ، و نفى اللّه عنهم نفع الإيمان عنهم بقوله: وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ اه زاده.
قوله: وَ أَنَّى لَهُمُ أي: من أين لهم، أي: كيف يقدرون على الظفر بالمطلوب، و ذلك لا يكون إلا في الدنيا و هم في الآخرة، و الدنيا من الآخرة بعيدة، فأنى هنا للاستبعاد، فإن قيل: كيف قال في كثير من المواضع إن الآخرة من الدنيا قريبة و سمى الساعة قريبة، فقال: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: 1] اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء: 1] لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى: 17]؟ فالجواب أن الماضي كالأمس الدابر و هو أبعد ما يكون إذ لا وصول إليه، و المستقبل و إن كان بينه و بين الحاضر سنين فإنه آت، فيوم القيامة الدنيا بعيدة منه لمضيها و يوم القيامة في الدنيا قريب لإتيانه اه كرخي.
قوله: التَّناوُشُ مبتدأ، و أنّى خبره، أي: كيف لهم التناوش و لهم حال، و يجوز أن يكون لهم رافعا للتناوش لاعتماده على الاستفهام، أي: كيف استقر لهم التناوش و فيه بعد اه سمين.
و في المصباح: ناشه نوشا من باب قال تناوله، و التناوش التناول يهمز و لا يهمز، و تناوشوا بالرماح تطاعنوا بها اه.
و في القرطبي: قال ابن عباس، و الضحاك: التناوش الرجعة أي: يطلبون الرجعة إلى الدنيا ليؤمنوا و هيهات من ذلك. و قال السدي: هو التوبة أي: طلبوها و قد بعدت لأنه إنما تقبل التوبة في الدنيا. و قيل: التناوش التناول. قال ابن السكيت: يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه و لحيته ناشه ينوشه نوشا، و منه المناوشة في القتال و ذلك إذا تدانى الفريقان اه.
قوله: مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ و هو الآخرة بدليل قوله: (عن محله الخ) اه شيخنا.
قوله: وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ الخ أي: و يرجمون بالظن و يتكلمون بما لم يظهر لهم في الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم من المطاعن، أو في العذاب من البت على نفيه من مكان بعيد من جانب بعيد من أمره و هو الشبه التي تمحلوها في أمر الرسول و حال الآخرة كما حكاه من قبل، و لعله تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه اه بيضاوي.
و هذا استعارة تمثيلية تقريرها أنه شبه حالهم في ذلك أي: في قولهم آمنا به حيث لا ينفعهم الإيمان بحال من رمى شيئا من مكان بعيد و هو لا يراه، فإنه لا يتوهم إصابته و لا لحوقه لخفائه عنه و غاية بعده، فالباء في بالغيب بمعنى في أي في محل غائب عن نظرهم أو للملابسة اه شهاب.
قوله: مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ المكان البعيد و هو و همهم الفاسد و ظنهم الخاطىء، و هو بعيد عن رتبة العلم و رتبة الصدق و التحقيق اه شيخنا.
قوله: (أي بما غاب) و هو قولهم ساحر الخ. و قوله: (بعيدة) أي: عن الصدق و التحقق اه شيخنا.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 242
كهانة
وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من الإيمان أي قبوله كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ أشباههم في الكفر مِنْ قَبْلُ أي قبلهم إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) موقع في الريبة لهم فيما آمنوا به الآن و لم يعتدوا بدلائله في الدنيا.
قوله: وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ أي: في الآخرة، و قوله: (أي: قبوله) أي نفعه بحيث يخلصهم من الخلود في النار اه شيخنا.
و حيل: فعل مبني للمفعول و إذا بني للفاعل يقال فيه حال و هو فعل لا يتعدى، و نائب الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل كأنه قيل: و حيل هو أي الحول. و جعل بعضهم نائب الفاعل الظرف و هو بينهم، و اعترض بأنه كان ينبغي أن يرفع. و أجيب بأنه إنما بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن، ورد بأن المضاف إلى غير متمكن لا يبنى مطلقا، فلا يجوز قام غلامك و لا مررت بغلامك بالفتح، و تقدم في قوله: لقد تقطع بينكم ما يغنينا عن إعادته اه من البحر و السمين.
قوله: (أشباههم في الكفر) في المختار: و شيعة الرجل أتباعه و أنصاره و كل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع و قوله تعالى: كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أي: بأمثالهم اه.
قوله: مِنْ قَبْلُ متعلق بفعل أو بأشياعهم أي الذين شايعوهم قبل ذلك الحين اه سمين.
و عبارة البحر: من قبل يصح أن يكون متعلقا بأشياعهم أي من أتصف بصفاتهم من قبل أي: في الزمان الأول، و يؤيده أن ما يفعل بجميعهم إنما هو في وقت واحد و يصح أن يكون متعلقا بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا، انتهت.
قوله: (أي قبلهم) أي: الذين كانوا قبلهم في الدنيا أي: كانوا فيها سابقين عليهم في الزمان، فالظرف و هو قوله: مِنْ قَبْلُ نعت لأشياعهم تأمل.
قوله: إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ أي: من أمر الرسل و البعث و الجنة و النار، و قيل: في الدين و التوحيد و المعنى واحد، يقال: أراب الرجل أي: صار ذا ريبة فهو مريب، و من قال هو من الريب الذي هو الشك و التهمة قال: يقال شك مريب كما يقال عجب عجيب و شعر شاعر في التأكيد اه قرطبي.
قوله: (موقع الريبة لهم) أي: فهو من أرابه أوقعه في ريبة و تهمة فالهمزة للتعدية اه شهاب.
و إسناد الإرابة إلى الشك مجاز قصد به المبالغة في الشك، و قال ابن عطية: الشك المريب أقوى ما يكون من الشك و أشده اه سمين.
و في الكرخي: قوله: (مع الريبة لهم) أو ذي ريبة منقول من المشكك أو الشاك نعت به الشك للمبالغة قاله القاضي. و إيضاحه، قول الكشاف: مريب إما من أرابه إذا أوقعه في الريبة و التهمة، أو من أراب الرجل إذا صار ذا ريبة، و دخل فيها و كلاهما أي: المعنيين مجاز إلا أن بينهما فرقا و هو أن الريب من الأول أي: المتعدي منقول ممن يصبح أن يكون مريبا من الأعيان إلى المعنى، و المريب من الثاني أي: اللازم منقول من صاحب الشك إلى الشك كما تقول شعر شاعر اه.
قوله: (و لم يعتدوا بدلائله) حال من الواو في آمنوا به في الآخرة و الحال أنهم لم يعتدوا في الدنيا بدلائله الواضحة و في نسخة و لم يهتدوا لدلائله اه شيخنا.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 243
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
سورة فاطر مكية و هي خمس أو ست و أربعون آية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حمد اللّه تعالى نفسه بذلك، كما بين في أول سبأ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خالقهما على غير مثال سبق جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا إلى الأنبياء أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ يَزِيدُ فِي بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
و تسمى أيضا سورة الملائكة كما في البيضاوي و غيره و هذه السورة ختام السور المفتتحة بالحمد التي فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة، و هي الإيجاد الأول ثم الإبقاء الأول، ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ، ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها و أحكمها، و هو الختام المشار إليه بهذه السورة المفتحة بالابتداء خطيب.
قوله: (حمد تعالى نفسه) أي: تعظيما لها و تعليما لعباده كيفية الثناء عليه تعالى و باعتبار الثاني جعل الشارح هذه الجملة في سورة الحمد معمولة لقول محذوف حيث قدره هناك بقوله: قولوا الْحَمْدُ لِلَّهِ و قوله: (بذلك) أي: بذلك التركيب فهو صادر من جهته تعالى، و حينئذ فالظاهر أن أل فيه جنسية أو استغراقية أي: جنس الحمد أو جميع أفراده مملوك أو مملوكة لي و مختصة بي، و لا يضر أن تكون عهدية إلا في الحمد الصادر من الخلق، لأنهم في تقرير العهدية يجعلون المعهود و المعلوم هو الصادر منه تعالى كالمذكور هنا، فلو جعلت هنا عهدية لم يكن هناك شيء معهود معلوم غير الحاصل بهذه الجملة فليتأمل اه شيخنا.
قوله: (بذلك) أي: بهذا اللفظ المذكور، و قوله: (كما بين في أول سبأ) عبارته هناك حمد تعالى نفسه بذلك المراد به الثناء بمضمونه من ثبوت الحمد و هو الوصف بالجميل للّه اه.
قوله: (خالقهما) أصل الفطر الشق مطلقا. و قيل: الشق طولا فكأنه شق العدم بإخراجهما منه اه أبو السعود.
و بابه نصر كما في المختار، و قول الشارح: على غير مثال سبق أي: و على غير مادة، و الظاهر أن هذا ليس من معنى الفطر لغة، و إنما أخذه من المعنى و سياق الكلام تأمل.
قوله: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ أي: بعضهم، إذ ليس كلهم رسلا كما هو معلوم، و قوله: أُولِي أَجْنِحَةٍ نعت لرسلا و هو جيد لفظا لتوافقهما تنكيرا أو للملائكة و هو جيد معنى: إذ كل الملائكة لها
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 244
الْخَلْقِ في الملائكة و غيرها ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ كرزق أجنحة فهي صفة كاشفة، و المسوغ للتخالف في التعريف جعل أل جنسية، و قوله: مَثْنى الخ القصد به التكثير و اختلافهم في عدد الأجنحة لا الحصر، و إلّا فبعضهم له ستمائة و غير ذلك، و مثنى مجرور بفتحة مقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر نيابة عن الكسرة لأنه غير منصرف للوصف، و العدل عن المكرر أي: اثنين اثنين و هو بدل من أجنحة، فإن قلت: لا يخلو إما أن يكون جاعل بمعنى الماضي أو غيره. فإن كان الأول لزم أن لا يعمل مع أنه عامل رسلا، و إن كان الثاني لزم أن تكون إضافته غير محضة، فلا يصح أن يكون صفة للمعرفة. قلنا: صرح الطيبي بأن جاعل هنا للاستمرار فباعتبار أنه يدل على المضي يصلح كونه للمعرفة، و باعتبار أنه يدل على الحال و الاستقبال يصلح للعمل اه كازروني.
قوله: رُسُلًا (إلى الأنبياء) عبارة البيضاوي: جاعل الملائكة رسلا و سائط بين اللّه تعالى و بين أنبيائه و الصالحين من عباده يبلغون إليهم رسالاته بالوحي و الإلهام و الرؤيا الصالحة، أو بينه و بين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه اه.
قوله: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مستأنف و ما يشاء هو المفعول الثاني للزيادة و الأول لم يقصد فهو محذوف اقتصارا، لأن ذكر قوله: فِي الْخَلْقِ يغني عنه اه سمين.
قوله: (في الملائكة و غيرها) أي: يزيد صورة و معنى كملاحة الوجه و حسن الصوت وجودة العقل و متانته، فقد رأى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم جبريل ليلة المعراج بستمائة جناح بين كل جناحين كما بين المشرق و المغرب أخرجه الشيخان اه كرخي.
و في الخطيب: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أي: يزيد في خلق الأجنحة و في غيره ما تقتضيه مشيئته و حكمته، و الأصل الجناحان لأنهما بمنزلة اليدين ثم الثالث و الرابع زيادة على الأصل، و ذلك أقوى للطيران و أعون عليه. فإن قيل: قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كل شق نصفه فما صورة الثلاثة؟ أجيب: بأن الثالث لعله يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدهما بقوة أو لعله لغير الطيران.
قال الزمخشري: فقد مرّ بي في بعض الكتب أن صنفا من الملائكة لهم ستة أجنحة، فجناحان يلفون بهما اجسادهم، و جناحان للطيران يطيرون بهما في الأمر من أمور اللّه تعالى، و جناحان على وجوههم حياء من اللّه تعالى.
و روى ابن ماجه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «رأيت جبريل عند سدرة المنتهى و له ستمائة جناح ينتثر من رأسه الدر و الياقوت». و روي أنه سأل جبريل أن يتراءى له في صورته فقال: إنك لن تطيق ذلك فقال: «إني أحب أن تفعل»، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في ليلة مقمرة فأتاه جبريل في صورته فغشي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، ثم أفاق و جبريل عليه السّلام مسنده و إحدى يديه على صدره و الأخرى بين كتفيه فقال:
«سبحان اللّه ما كنت أرى شيئا من الخلق هكذا». فقال جبريل: فكيف لو رأيت إسرافيل له اثنا عشر ألف جناح جناح منها بالمشرق و جناح بالمغرب و إن العرش على كاهله، و أنه ليتضاءل الأحايين لعظمة اللّه حتى يعود مثل الوصع و هو العصفور الصغير. و روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في قوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ «هو الوجه الحسن و الصوت الحسن و الشعر الحسن»، و قيل: هو الخط الحسن. عن قتادة: الملاحة في العينين. و الآية كما قال الزمخشري مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 245
و مطر فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ من ذلك فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ أي بعد إمساكه وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على أمره الْحَكِيمُ (2) في فعله
يا أَيُّهَا النَّاسُ أي أهل مكة اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
و اعتدال صورة و تمام في الأعضاء و قوة في البطش و متانة في العقل و جزالة في الرأي و جرأة في القلب و سماحة في النفس و ذلالة في اللسان و لباقة في التكلم و حسن تأن في مزاولة الأمور، و ما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف اه.
و الوصع: بفتح الصاد المهملة و سكونها و بالعين المهملة كما في القاموس.
قوله: ما يَفْتَحِ اللَّهُ ما: اسم شرط جازم منصوبة المحل بفعل الشرط، و من رحمة بيان لها و روعي معناها في قوله: فَلا مُمْسِكَ لَها. و روعي لفظ الأخرى في قوله: فَلا مُرْسِلَ لَهُ اه شيخنا.
و في السمين: وَ ما يُمْسِكْ يجوز أن يكون على عمومه أي: أي شيء أمسكه من رحمة أو غيرها. فعلى هذا التذكير في قوله له ظاهر لأنه عائد على ما يمسك، و يجوز أن يكون قد حذف المبين من الثاني لدلالة الأولى عليه تقديره: و ما يمسك من رحمة، فعلى هذا التذكير في قوله له على لفظ ما في قوله أولا: فَلا مُمْسِكَ لَها التأنيث فيه حمل على معنى ما لأن المراد به الرحمة، فحمل أولا على المعنى و في الثاني على اللفظ و الفتح و الإمساك استعارة حسنة اه.
و في أبي السعود: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ عبّر عن إرسالها بالفتح إيذانا بأنها أنفس الخزائن التي يتنافس فيها المتنافسون، و أعزها منالا و تنكيرها للإشاعة و الإبهام أي: أي شيء يفتح اللّه من خزائن رحمة كانت من نعمة و صحة و أمن و علم و حكمة إلى غير ذلك مما لا يحاط به اه.
قوله: مِنْ رَحْمَةٍ تبيين أو حال من اسم الشرط، و لا يكون صفة لما لأن اسم الشرط لا يوصف. قال الزمخشري: و تنكير الرحمة للأشاعة و الإبهام كأنه قيل: أي رحمة كانت سماوية أو أرضية. قال الشيخ: و العموم مفهوم من اسم الشرط، و من رحمة بيان لذلك العام من أي صنف هو، و هو مما اجتزىء فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعروف المطابق في العموم لاسم الشرط، و تقديره:
من الرحمات و من في موضع الحال انتهى اه سمين.
قوله: (من ذلك) أي: من رحمة. ففي الكلام حذف من الثاني لدلالة الأول هذا ما سلكه الشارح، و بعضهم جعل ما عامة في الرحمة و غيرها كالغضب، و يؤيده عدم تبيينها و تبيين الأولى اه شيخنا.
و عبارة الخطيب: و اختلاف الضميرين لأن الموصول الأول مفسر بالرحمة، و الثاني مطلق يتناولها و يتناول الغضب، و في ذلك أشعار بأن رحمته سبقت غضبه، انتهت.
قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ أي: لا تنسوها. و في كلام الكشاف إشارة إلى ذلك حيث قال: ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط، و لكن المراد ذكرها به و بالقلب اه كرخي.
و في القرطبي: و معنى هذا الذكر الشكر اه.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 246
بإسكانكم الحرم و منع الغارات عنكم هَلْ مِنْ خالِقٍ من زائدة و خالق مبتدأ غَيْرُ اللَّهِ بالرفع و الجر، نعت لخالق لفظا و محلا و خبر المبتدأ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ المطر وَ من الْأَرْضِ النبات و الاستفهام للتقرير، أي لا خالق رازق غيره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) من أين قوله: نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ النعمة: هنا بمعنى الإنعام بدليل تقدير المتعلق الذي ذكره هذا ما درج عليه الجلال اه شيخنا.
و في البيضاوي: إنها بمعنى المنعم به حيث قال: احفظوها بمعرفة حقها و الاعتراف بها و طاعة موليها اه.
قوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ قرأ الأخوان غير بالجر نعتا لخالق على اللفظ و من خالق مبتدأ زيدت فيه من و في خبره قولان، أحدهما: هو الجملة من قوله: يَرْزُقُكُمْ. و الثاني: أنه محذوف تقديره لكم و نحوه. و في يرزقكم على هذا و جهان، أحدهما: أنه صفة أيضا لخالق فيجوز أن يحكم على موضعه بالجر اعتبارا باللفظ، و بالرفع اعتبارا بالموضع. الثاني: أنه مستأنف. و قرأ الباقون بالرفع و فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه خبر المبتدأ. و الثاني: أنه صفة لخالق على الموضع، و الخبر إما محذوف و إما يرزقكم. الثالث: أنه مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية، لأن اسم الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام، إلا أن الشيخ توقف في مثل هذا من حيث إن اسم الفاعل و إن اعتمد إلا أنه لم يحفظ فيه زيادة من قال، فيحاج مثله إلى سماع و لا يظهر التوقف، فإن شروط الزيادة و العمل موجودة، و على هذا الوجه فيرزقكم إما صفة أو مستأنف. و جعل الشيخ استئنافه أولى قال: لانتفاء صدق خالق على غير اللّه بخلاف كونه صفة، فإن الصفة تقيد فيكون ثم خالق غير اللّه لكنه ليس برازق. و قرأ الفضل بن إبراهيم النحوي غير بالنصب على الاستثناء، و الخبر يرزقكم أو محذوف، و يرزقكم مستأنف أو صفة اه سمين.
قوله: (بالرفع و الجر) سبعيتان، و قوله: (لفظا و محلا) لف و نشر مشوش اه.
قوله: (و الاستفهام للتقرير) أي: و التوبيخ، و في البيضاوي: أنه للإنكار اه.
قوله: (أي لا خالق رازق غيره) هذا حل معنى، و إلّا فلو جرى على أسلوب الإعراب الذي ذكره لقال: أي: لا خالق غيره رازق اه شيخنا.
و في نسخة أي: لا خالق و لا رازق غيره. قوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ استئناف مسوق لتقرير النفي المستفاد مما قبله اه أبو السعود.
قوله: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ من الأفك بالفتح و هو الصرف يقال: ما أفكك عن كذا، أي: ما صرفك عنه، و قيل: هو من الإفك بالكسر و هو الكذب، و يرجع هذا أيضا إلى ما تقدم لأنه قول مصروف عن الصدق و الصواب أي: من أين يقع لكم التكذيب بتوحيد اللّه اه قرطبي.