کتابخانه تفاسیر
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 270
قالت اليهود: ليست النصارى على شيء، و قالت النصارى: ليست اليهود على شيء فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ محمد صلّى اللّه عليه و سلّم ما زادَهُمْ مجيئه إِلَّا نُفُوراً (42) تباعدا عن الهدى
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ عن الإيمان مفعول له وَ مَكْرَ العمل السَّيِّئِ من الشرك و غيره وَ لا يَحِيقُ يحيط الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ و هو الماكر، و وصف المكر بالسيىء أصل، و إضافته إليه قبل استعمال آخر قدر فيه مضاف حذرا من الإضافة إلى الصفة فَهَلْ يَنْظُرُونَ ينتظرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ سنة اللّه فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم رسلهم فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أي لا يبدل و في البيضاوي: و ذلك أن قريشا لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن اللّه اليهود و النصارى لو أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم أي: واحدة من أمم اليهود و النصارى و غيرهم أو من الأمة التي يقال فيها إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها في الهدى و الاستقامة اه.
قوله: ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً جواب لما فيه دليل على أنها حرف لا ظرف، إذ لا يعمل ما بعد ما النافية فيما قبلها و تقدمت له نظائر، و إسناد الزيادة للنذير مجاز لأنه سبب في ذلك قوله: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125] اه سمين.
قوله: اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ يجوز أن يكون مفعولا له أي: لأجل الاستكبار، و أن يكون بدلا من نفور أو أن يكون حالا أي: حال كونهم مستكبرين قاله الأخفش اه سمين.
قوله: (و وصف المكر) أي: في التركيب الثاني و هو قوله: وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ و قوله: (أصل) أي: جاء على الأصل من استعمال الصفة تابعة، و قوله: (قبل). هذا التركيب أي: في التركيب الذي قبله و هو قوله: وَ مَكْرَ السَّيِّئِ و قوله: (آخر) أي: جاء على خلاف الأصل حيث أضيفت فيه الصفة للموصوف. و قوله: (قدر فيه مضاف) أي: مضاف إليه، و قوله: (حذرا من الإضافة) أي: إضافة المكر الذي هو الموصوف إلى السيىء الذي هو صفته، فيتخلص من هذا بجعل المكر مضافا لمحذوف هو مضاف إليه و موصوف بالسيىء اه.
و في السمين قوله: وَ مَكْرَ السَّيِّئِ فيه و جهان، أظهرهما: أنه عطف على استكبارا. و الثاني:
أنه عطف على نفورا، و هذا من إضافة الموصوف إلى صفته في الأصل، إذ الأصل و المكر السيىء، و البصريون يؤولونه على حذف موصوف أي العمل السيىء اه.
قوله: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ المعنى: فهل ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مضى من الكفار اه خطيب.
قوله: إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ مصدر مضاف لمفعوله تارة كما هنا و لفاعله أخرى، كقوله: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا الخ. و في السمين: إلّا سنّة الأولين مصدر مضاف لمفعوله، و سنّة اللّه مضاف لفاعله، لأنه تعالى سنّها بهم فصحت إضافتها إلى الفاعل و المفعول اه.
قوله: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا الخ الفاء لتعليل ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب، و نفي
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 271
بالعذاب غيره، و لا يحول إلى غير مستحقه
أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً فأهلكهم اللّه بتكذيبهم رسلهم وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ يسبقه و يفوته فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً أي بالأشياء كلها قَدِيراً (44) عليها
وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا من المعاصي ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها أي الأرض مِنْ دَابَّةٍ نسمة تدب عليها وجدان التبديل و التحويل عبارة عن نفي وجودهما بالطريق البرهاني و تخصيص كل منهما بنفي مستقل لتأكيد انتفائهما اه أبو السعود.
قوله: (أي لا يبدل بالعذاب غيره الخ) هذا جواب عن سؤال تقديره التبديل تغيير الشيء عما كان عليه مع بقاء مادته، و التحويل نقله من مكان إلى آخر، فكيف قال ذلك مع أن سنّة اللّه لا تبدل و لا تحول، و إيضاحه أنه أراد بالأول أن العذاب لا يبدل بغيره، و بالثاني أنه لا يحول عن مستحقه إلى غيره كما تقدم و جمع بينهما هنا تعميما لتهديد المسيء لقبح مكره في قوله تعالى: وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ اه كرخي.
قوله: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ الخ استشهاد على ما قبله من جريان سنته تعالى تكذيب المكذبين بما يشاهدونه في سيرهم إلى الشام و اليمن و العراق من آثار ديارهم الماضية و الهمزة للإنكار و النفي و الواو للعطف على مقدر يليق بالمقام أي: أقعدوا في مساكنهم و لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم اه أبو السعود.
قوله: فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: على أي حالة كان أخذهم ليعلموا أنهم ما أخذوا إلا بتكذيب الرسل فيخافوا أن يفعلوا مثل أفعالهم فيكون حالهم كحالهم، فإنهم كانوا يمرون على ديارهم و يرون آثارهم و أملهم فوق أملهم و عملهم فوق عملهم، و كانوا أطول منهم أعمارا و أشد اقتدارا و مع هذا لم يكذبوا مثل محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و أنتم يا أهل مكة كفرتم بمحمد و بمن قبله اه خطيب.
قوله: وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً أي: و أطول أعمارا فما نفعهم طول المدى و ما أغنى عنهم شدة القوة و محل الجملة النصب على الحالية اه أبو السعود.
أو معطوفة على الصلة أو مستأنفة اه سمين.
قوله: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ الخ تقرير لما يفهم قبله من استئصال الأمم السابقة، و قوله: إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً تعليل لذلك التقدير اه أبو السعود.
قوله: مِنْ شَيْءٍ (يسبقه و يفوته) هذا يفيد أن يكون المراد بيان أن الأولين مع شدة قوتهم ما أعجزوا اللّه و ما فاتوه، فهؤلاء أولى بأن لا يعجزوه اه كرخي.
قوله: ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ أي: لأجل شؤم معاصيهم اه بيضاوي.
و أشار بهذا إلى وجه الملاءمة بين الشرط و الجزاء و إيضاحه أنه تعالى إذا كان يؤاخذ الناس بما كسبوا كان يقطع عنهم النعم التي من جملتها المطر، فإذا لم يستحقوه بسبب المعاصي و انقطع عنهم انقطع النبات فيموت جميع الحيوانات جوعا بطريق التبعية لهم، فهذا كناية أريد بها الملزوم، فالمعنى
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 272
وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي يوم القيامة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) فيجازيهم على أعمالهم بإثابة المؤمنين و عقاب الكافرين.
لو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا انقطع عنهم ما هو سبب معاشهم فيموتون اه زاده.
و في السمين: قوله: ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها تقدم نظيرها في النحل إلّا أنه هناك لم يجر للأرض ذكر، بل عاد الضمير على ما فهم من السياق، و هنا قد صرح بها في قوله: فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ، و هنا على ظهرها استعارة من ظهر الدابة دلالة على التمكن و التقلب عليها، و المقام هنا يناسب ذلك لأنه حث على السير للنظر و الاعتبار، و اللّه سبحانه و تعالى أعلم بالصواب اه.
و في زاده: قوله: عَلى ظَهْرِها فيه استعارة مكنية شبه الأرض بالدابة التي يركب الإنسان عليها من جهة تمكنه عليها، ثم أثبت لها ما هو من لوازم المشبه به و هو الظهر.
فإن قيل: كيف يقال لما عليه الخلق من الأرض وجه الأرض و ظهر الأرض مع أن الظهر مقابل الوجه فهو من قبيل إطلاق الضدين على شيء واحد؟ قلت: صح ذلك باعتبارين فإنه يقال لظاهرها ظهر الأرض من حيث إن الأرض كالدابة الحاملة للأثقال، و يقال له وجه الأرض لكون الظاهر منها كالوجه للحيوان، و إن غيره كالبطن و هو الباطن منها اه.
و في القرطبي: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا يعني من الذنوب ما ترك على ظهرها من دابة.
قال ابن مسعود: يريد جميع الحيوان مما دب و درج. قال قتادة: و قد فعل ذلك في زمن نوح، و قال الكلبي: من دابة يريد الجن و الإنس دون غيرهما لأنهما مكلفان بالعقل، و قال ابن جريج، و الأخفش، و الحسن بن الفضل: أراد بالدابة هنا الناس وحدهم دون غيرهم قلت: و الأول أظهر لأنه عن صحابي كبير. قال ابن مسعود: كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم، و قال يحيى بن أبي كثير: أمر رجل بالمعروف و نهى عن المنكر، فقاله له رجل: عليك بنفسك، فإن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال أبو هريرة: كذبت و اللّه الذي لا إله إلا هو، ثم قال: و الذي نفسي بيده إن الحبار لتموت هزلا في و كرها بظلم الظالم، و قال اليماني و يحيى بن سلام في هذه الآية: يحبس اللّه المطر فيهلك كل شيء، و قد مضى في البقرة نحو هذا من عكرمة و مجاهد في تفسير: وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ هم الحشرات و البهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنوهم، و ذكرنا هناك حديث البراء بن عازب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في قوله: وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة: 159] قال: «دواب الأرض و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى» قال مقاتل: الأجل المسمى هو ما وعدهم في اللوح المحفوظ، و قال يحيى: هو يوم القيامة اه.
قوله: (نسمة) بفتحتين أي: ذي روح من التنسم و هو التنفس اه شهاب.
قوله: (فيجازيهم) هذا في الحقيقة هو جزاء الشرط و هو العامل في إذا على القاعدة فيها من أنها تخفض شرطها بالإضافة و تنصب بجوابها اه.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 273
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
سورة يس مكية أو إلا قوله وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا الآية أو مدنية و هي اثنتان و ثمانون آية
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
عن معقل بن يسار قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «اقرأوا يس على موتاكم». و ذكر الآجري من حديث أم الدرداء عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «ما من ميت يقرأ عليه يس إلّا هوّن اللّه عليه». و في مسند الدارمي، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه اللّه غفر اللّه له في تلك الليلة» خرجه أبو نعيم الحافظ. و روى الترمذي عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن لكل شيء قلبا و قلب القرآن يس، و من قرأ يس كتب اللّه له بها قراءة القرآن عشر مرات». و عن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إن في القرآن لسورة تشفع لقارئها و تغفر لمستمعها ألا و هي سورة يس تدعى في التوارة المعمة. قيل: يا رسول اللّه ما المعمة» قال: «تعم صاحبها بخير الدنيا و تدفع عنه أهوال الآخرة و تدعى أيضا الدافعة و القاضية». قيل: يا رسول اللّه و كيف ذلك؟ قال: «تدفع عن صاحبها كل سوء و تقضي له كل حاجة». و في حديث الدارمي، عن شهر بن حوشب قال: قال ابن عباس: «من قرأ يس حين أصبح يعطى يسر يومه حتى يمسي، و من قرأها في صدر ليلة أعطي يسر ليلته حتى يصبح». و روى الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن أهل الجنة يرفع عنهم القرآن فلا يقرؤون شيئا سوى طه و يس». و عن أبي جعفر قال: من وجد في قلبه قسوة فليكتب يس في جام أي: إناء بزعفران ثم يشربه».
و ذكر الثعلبي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «من قرأ سورة يس ليلة الجمعة أصبح مغفورا له».
و عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «من دخل المقبرة فقرأ سورة يس خفف العذاب عن أهلها ذلك اليوم و كان له بعدد من فيها حسنات». و قال يحيى بن أبي كثير: بلغني أن من قرأ سورة يس ليلا لم يزل في فرح حتى يصبح و من قرأها حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي، و قد حدثني بهذا من جربها، ذكره الثعلبي و ابن عطية، و قال ابن عطية: و يصدق ذلك التجربة اه قرطبي.
و في البيضاوي: و عن ابن عباس أنه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إن لكل شيء قلبا و قلب القرآن يس. من قرأها يريد بها وجه اللّه غفر له و أعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن عشر مرات و أيما مسلم قرىء عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا يصلون عليه، و يستغفرون له، و يشهدون غسله، و يتبعون جنازته، و يصلون عليه، و يشهدون دفنه. و أيما مسلم قرأ
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 274
يس (1) اللّه أعلم بمراده به
وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) المحكم بعجيب النظم و بديع المعاني سورة يس و هو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان بشربة من الجنة فيشربها و هو على فراشه فيقبض روحه و هو ريان، و يمكث في قبره و هو ريان و لا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة و هو ريان» اه.
قوله: (أو مدنية) لم نر من ذكر هذا الخلاف غيره من المفسرين، و قوله: (اثنتان و ثمانون آية) الذي ذكره غيره من المفسرين ثلاث و ثمانون آية.
قوله: يس قرأ العامة بسكون السين و أدغم النون في الواو بعدها ابن كثير، و أبو عمرو، و حمزة، و قالون، و حفص و ورش بخلاف عنه، و كذلك النون من ن و القلم و أظهرهما الباقون. فمن أدغم فللخفة و لأنه لما وصل و التقى متقاربان من كلمتين، أولهما ساكن وجب الإدغام و من أظهرهما فللمبالغة في تفكيك هذه الحروف بعضها من بعض لأنه بنية الوقف. و قرأ عيسى و ابن أبي إسحاق بفتح النون، إما على البناء على الفتح تخفيفا كأين و كيف، و إما على أنه مفعول باتل مقدرا، و إما على أنه مجرور بحرف القسم و هو على الوجهين غير منصرف للعلمية و التأنيث. و قرأ الكلبي بضم النون فقيل:
إنه خبر مبتدأ مضمر أي هذه يس و منع من الصرف لما تقدم، و قيل: بل هي حركة بناء كحيث، و قرأ ابن أبي إسحاق أيضا و أبو السماك يس بكسر النون، و ذلك على أصل التقاء الساكنين، و لا يجوز أن تكون حركة إعراب اه سمين.
قوله: (اللّه أعلم بمراده به) جرى رضي اللّه عنه على أن هذا اللفظ من الحروف المقطعة كحم و طس. و في البيضاوي: يس كآلم في المعنى و الإعراب، و قيل: معناه يا إنسان بلغة طيىء على أن أصله يا أنيسين فاقتصر على شطره لكثرة النداء به، و قرىء بالكسر كجير، و بالفتح على البناء كأين أو الإعراب على تقدير: اتل، أو اقرأ يس، أو بإضمار حرف القسم و الفتحة لمنع الصرف للعلمية و التأنيث، فإنه علم على السورة و بالضم بناء كحيث أو إعرابا على تقدير مبتدأ أي: هذه يس اه.
و قوله: (فاقتصر على شطره) أي: شطر الاسم و هو سين، و ضم لذلك الشطر حروف النداء و هو الياء، مقتضى هذا أن يبنى على الضم لا غير، و عليه فيكون تسكينه في القراءة للتخفيف تأمل. و قيل:
معناه يا سيد البشر، و قيل: هو اسم القرآن اه خازن.
قوله: وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ قسم و جوابه إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فهو مستأنف لا محل له من الإعراب اه شيخنا.
قوله: (المحكم) فعيل بمعنى مفعل، كقولهم: عقدت العسل فهو عقيد بمعنى معقد و ليس بمعنى مفعول كشيطان رجيم بمعنى مرجوم، و ليس هو في الآية بمعنى ذلك لأنه إنما يقال محكوم به و نحو ذلك، و لا بمعنى فاعل أي: حاكم لأن الحاكم الحقيقي هو اللّه تعالى، فظهر بذلك أن القرآن الحكيم منظوم لا ناظم محكوم فيه لا حاكم، و أن الحاكم المطلق هو اللّه تعالى أو على معنى النسب أي: ذي الحكم أو لأنه دليل ناطق بالحكمة بطريق الاستعارة و المتصف بها على الإسناد المجازي اه كرخي.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 275
إِنَّكَ يا محمد لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)
عَلى متعلق بما قبله صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) أي طريق الأنبياء قبلك، التوحيد و الهدى و التأكيد بالقسم و غيره، رد لقول الكفار له: لست مرسلا
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ في ملكه الرَّحِيمِ (5) بخلقه خبر مبتدأ مقدر، أي القرآن
لِتُنْذِرَ به قَوْماً متعلق بتنزيل ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أي لم ينذروا في زمن الفترة فَهُمْ أي القوم غافِلُونَ (6) عن الإيمان و الرشد
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ وجب عَلى أَكْثَرِهِمْ بالعذاب فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) أي الأكثر
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ قوله: (متعلق بما قبله) أي: بالمرسلين أي: بالمرسلين الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة أو خبر ثان لإن و هو الأحسن في العربية، و المعنى إنك لمن المرسلين إنك على صراط مستقيم، و قال القاضي: يجوز أن يكون حالا من المستكن في الجار و المجرور، و فائدته وصف الشرع بالاستقامة صريحا، و إن دل عليه أي: وصف الشرع بالاستقامة لمن المرسلين التزاما اه كرخي.
قوله: (و غيره) أي: إن و اللام و إسمية الجملة اه كرخي.
قوله: (خبر مبتدأ الخ) أي: هذا تنزيل العزيز الرحيم، و هذا على قراءة الرفع. و قرأ حمزة، و الكسائي، و ابن عامر، و حفص بالنصب مفعولا مطلقا لمقدر أي: نزل القرآن تنزيلا، و أضيف لفاعله أو بأمدح و باق برفع كما مرت الإشارة إليه اه كرخي.
قوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً أي: العرب و غيرهم، و قوله: آباؤُهُمْ أي: الأقربون، و إلّا فآباؤهم لا يعدون قد أنذروا فآباء العرب الأقدمون أنذروا بإسماعيل و آباء غيرهم الأقدمون أنذروا بعيسى و من قبله، و قوله: (في زمن الفترة) هو بالنسبة للعرب ما بين إسماعيل و محمد و بالنسبة لغيرهم ما بين عيسى و محمد اه شيخنا.
قوله: (أي لم ينذروا) أشار به إلى أن ما نافية، لأن قريش لم يبعث إليهم نبي قبل نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم فالجملة صفة لقوما أي: قوما لم ينذروا، و يصح كونها موصولة أو نكرة موصوفة، و العائد على هذين الوجهين مقدر أي: ما أنذره آباؤهم فتكون ما وصلتها أو وصفتها منصوبة المحل على المفعول الثاني لتنذر، و التقدير لتنذر قوما الذي أنذره آباؤهم من العذاب، أو لتنذر قوما عذابا أنذره آباؤهم اه كرخي.
قوله: فَهُمْ غافِلُونَ مرتب على نفي الإنذار، و قوله: (أي: القوم). قال أبو السعود: الضمير للفريق أي: لم تنذر آبائهم فهم جميعا غافلون اه.
قوله: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ يعني قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:
119] اه بيضاوي.
و قول الشارح: بالعذاب يقتضي أن المراد بالقول الحكم و القضاء الأزلي، و هذا جواب قسم مقدر أي: و اللّه لقد ثبت و تحقق عليهم القول لكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من قبلهم ما يقتضيه، بل بسبب إصرارهم الاختياري على الكفر و الإنكار اه أبو السعود.
قيل: نزلت هذه الآية في أبي جهل بن هشام و صاحبيه المخزوميين، و ذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه بحجر، فلما رآه ذهب فرفع حجرا ليرميه، فلما أومأ إليه رجفت يداه
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 276
أَغْلالًا بأن تضم إليها الأيدي، لأن الغل يجمع اليد إلى العنق فَهِيَ أي الأيدي مجموعة إِلَى الْأَذْقانِ جمع ذقن و هي مجتمع اللحيين فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) رافعون رؤسهم لا يستطيعون خفضها، و هذا تمثيل، و المراد أنهم لا يذعنون للإيمان و لا يخفضون رؤوسهم له إلى عنقه و التصق الحجر بيده. فقال ابن عباس، و عكرمة و غيرهما: فهو هنا تمثيل أي: هو بمنزلة من غلت يده إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى فقال الرجل الثاني: و هو الوليد بن المغيرة أنا أرضخ رأسه. فأتاه و هو يصلي على حالته ليرميه بالحجر فأعمى اللّه بصره فجعل يسمع صوته و لا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه، فقال: و اللّه ما رأيته و لقد سمعت صوته، فقال الثالث:
و اللّه لأشدخن أنا رأسه، ثم أخذ الحجر و انطلق فرجع القهقهرى ينكص على عقبيه حتى خرّ على قفاه مغشيا عليه، فقيل له: ما شأنك؟ قال: شأني عظيم رأيت الرجل، فلما دنوت منه فإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت قط فحلا أعظم منه حال بيني و بينه فو اللات و العزى لو دنوت منه لأكلني، فأنزل اللّه تعالى:
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ اه قرطبي.
قوله: (بأن تضم إليها الأيدي) وطأ بهذا لأجل إرجاع الضمير في قوله: فَهِيَ (إلى الأيدي).
و حاصل ما قصده أن الأيدي و إن لم يجر لها في العبادة ذكر، لكن الغل يدل عليها لأنه يجمعها مع الأعناق. و قوله: إِلَى الْأَذْقانِ جعله متعلقا بمحذوف قدره مجموعة، و لو قدره مرفوعة لكان أظهر لأن اليد ترفع تحت الذقن و يلبس الغل ضاما لها و للعنق، فظهر قوله: (رافعون رؤوسهم) أي: تكون الأيدي تحت الأذقان و محبوسة بالغل فلا يستطيعون خفضها اه شيخنا.
و عبارة البيضاوي: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا تقرير لتصميمهم على الكفر و الطبع على قلوبهم بحيث لا تغني عنهم الآيات و النذر بتمثيلهم بالذين غلت أعناقهم فهي إلى الأذقان فالأغلال واصلة إلى أذقانهم فلا تخليهم يطأطئون فهم مقمحون رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم في أنهم لا يلتفتون إلى الحق و لا يعطفون أعناقهم نحوه، و لا يطأطئون رؤوسهم إليه اه.
و قوله: (واصلة إلى أذقانهم) إما لكونه غليظا عريضا يملأ ما بين الصدر و الذقن، فعلى هذا تنوين أغلالا للتعظيم، و الفاء في قوله: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ، و في قوله: فَهُمْ مُقْمَحُونَ فاء النتيجة، و لأنه حينئذ يرفع الرأس إلى فوق، و إما لكون طرف الغل الذي يجمع اليدين إلى العنق يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة يدخل فيها رأس العمود خارجا من الحلقة إلى الذقن فلا يخليه يطأطىء رأسه فلا يزال مقمحا، و المقمح الذي يرفع رأسه و يغض بصره يقال: قمح البعير فهو قامح إذا رفع رأسه بعد الشرب لارتوائه أو لبرودة الماء أو لكراهة طعمه اه زاده و كشاف.
و في المختار: الأقماح رفع الرأس و غض البصر يقال: أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من ضيقه اه.
و في القاموس: و أقمح الغل الأسير ترك رأسه مرفوعا لضيقه اه.