کتابخانه تفاسیر
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 364
كَلِمَتُنا بالنصر لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) و هي لأغلبن أنا و رسلي؛ أو هي قوله
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)
وَ إِنَّ جُنْدَنا أي المؤمنين لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) الكفار بالحجة و النصرة عليهم في الدنيا، و إن لم ينتصر بعض منهم في الدنيا ففي الآخرة
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عن كفار مكة حَتَّى حِينٍ (174) تؤمر فيه بقتالهم
وَ أَبْصِرْهُمْ إذا نزل بهم العذاب فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) عاقبة كفرهم فقالوا استهزاء: يَعْلَمُونَ (عاقبة كفرهم) أردافه بما يقوي قلب الرسول فقال: و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين اه من الرازي.
قال أبو السعود: و لقد سبقت كلمتنا هذا استئناف مقرر للوعيد و تصديره فالقسم لغاية الاعتناء بتحقيق مضمونه. أي: و باللّه لقد سبق وعدنا لهم بالنصر و الغلبة اه.
قوله: كَلِمَتُنا (بالنصر) أي: وعدنا به المفهوم من محل آخر، كما قال لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي [المجادلة: 21] و قوله: (أو هي) قوله إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ أي: فيكون بدلا من كلمتنا أو تفسيرا لها، و على الأول يكون مستأنفا و إنما سمي الوعد بالنصر كلمة و هو كلمات لانتظامها في معنى واحد، فهو مجاز من إطلاق الجزء على الكل اه شهاب.
و قوله: (لانتظامها الخ) قال القسطلاني: و المراد بها القضاء المتقدم منه قبل أن يخلق خلقه في أم الكتاب الذي جرى به القلم بعلو المرسلين على عدوهم في مقام الحجاج و ملاحم الحرب، و عن الحسن: ما غلب نبي في حرب. و الحاصل: أن قاعدة أمرهم و أساسه الظفر و النصرة اه بحروفه.
و عبارة أبي السعود: و لا يقدح في هذا الوعد انهزامهم في بعض المشاهد، فإن قاعدة أمرهم و أساسه الظفر و النصرة، و إن وقع في تضاعيف ذلك شوب من ابتلاء و المحنة فالحكم للغالب، انتهت
قوله: وَ إِنَّ جُنْدَنا في المصباح: الجند الأنصار و الأعوان، و الجمع أجناد و جنود الواحد جندي، فالياء للوحدة مثل روم و رومي، و جند بفتحتين بلد باليمين اه.
قوله: (و إن لم ينتصر بعض منهم) الخ أشار بهذا إلى جواب سؤال مقدر و هو أنه قد شوهد غلبة حزب الشيطان في بعض المشاهد كأحد، فقوله: (غالبون) أي: باعتبار الغالب فقد يعطى الأكثر حكم الكل و يلحق القليل بالعدم، أو يقال في الجواب معنى غالبون أي: باعتبار عاقبة الحال و ملاحظة المآل و هو ما جرى عليه الشيخ المصنف. و اقتصر البيضاوي على الجواب الأول لما في الوعدين من الدلالة على الثبات و الاستهزاء اه كرخي.
قوله: حَتَّى حِينٍ أي: إلى زمن يسير نؤمر فيه بقتالهم فقوله: (بقتالهم) أي: بجهادهم، فكان صلّى اللّه عليه و سلّم أول الأمر مأمورا بالتبليغ و الإنذار و الصبر على أذى الكفار تأليفا لهم، ثم أمر بالجهاد في السنة الثانية من الهجرة اه زيادي على المنهج.
قال ابن حجر: و غزواته صلّى اللّه عليه و سلّم سبع و عشرون غزوة قاتل في ثمان منها بنفسه بدر، و أحد، و المصطلق، و الخندق، و قريظة، و خيبر، و حنين و الطائف اه.
قوله: وَ أَبْصِرْهُمْ (إذا نزل بهم العذاب) أي: من القتل و الأسر، و المراد بالأمر الدلالة على أن
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 365
متى نزول هذا العذاب؟ قال تعالى تهديدا لهم:
أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176)
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ بفنائهم، قال الفراء: العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم فَساءَ بئس صباحا صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) فيه إقامة الظاهر مقام المضمر
وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178)
وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) ذلك كائن قريب كأنه أمامه لأن أمره بمشاهدة ذلك و هو لم يقع يدل على أنه لشدة قربه كأنه حاضر قدامه مشاهد له خصوصا إذا قيل إن الأمر للفور اه شهاب.
قوله: فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ سوف هنا للوعيد لا للتبعيد، إذ ليس المقام مقامه كما تقول سوف أنتقم منك و أنت متهيىء اه كرخي.
قوله: بِساحَتِهِمْ الساحة: الفناء الخالي من الأبنية و جمعها سوح، فألفها منقلبة عن واو فتصغر على سويحة، و بهذا يتبين ضعف قول الراغب إنها من ذوات الياء حيث عدّها في مادة سيح، ثم قال الساحة المكان الواسع، و منه ساحة الدار، و السائح الماء الجاري في الساحة، و ساح فلان في الأرض مرّ مرور السائح و رجل سائح و سياح اه.
و يحتمل أن يكون لها مادتان لكن كان ينبغي أن يذكر ما هي الأشهر أو يذكرهما معا اه سمين.
قوله: (بفنائهم) في المصباح: الفناء مثل كتاب الوصيد و هو سعة أما البيت، و قيل: ما امتد من جوانبه اه.
قوله: (تكتفي بذكر الساحة الخ) أي: تستغني على سبيل الكناية، فالمعنى فإذا نزل بهم أي:
فالساحة كناية عن القوم. أي: فإذا نزل بهم العذاب فشبه العذاب بجيش هجم عليهم فأناخ بفنائهم بغتة و هم في ديارهم، ففي الضمير المستتر في نزل استعارة بالكناية و النزول تخييل اه بيضاوي و شهاب.
قوله: (بئس صباحا الخ) أشار بهذا إلى أن ضمير بئس يعود على المخصوص، و أن التمييز محذوف، و أن المذكور مخصوص لا فاعل اه شيخنا.
و في السمين: و المخصوص بالذم محذوف أي صباحهم اه.
و الصباح مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب، و لما كثرت فيهم الهجوم و الغارات في الصباح سموا الغارة صباحا و إن وقعت في وقت آخر اه بيضاوي.
و قوله: (فيه إقامة الظاهر الخ). أي: في التعبير بالمنذرين فأل عهدية، فكان مقتضى الظاهر أن يقال صباحهم اه شيخنا.
و في الكرخي: المخصوص بالذم محذوف تقديره فساء صباح المنذرين. صباحهم استعير من صباح الجيش المبيت في وزن اسم الفاعل لوقت نزول العذاب، و سموا الغارة صباحا لكثرة وقوعها فيه، و اللام في: المنذرين للجنس، فإن أفعال الذم و المدح تقتضي الشيوع للابهام و التفصيل، فلا يجوز أن تقول بئس الرجل هذا، و نعم الرجل هذا إذا اردت رجلا بعينه، فلا يجوز أن تكون اللام للعهد اه.
قوله: وَ أَبْصِرْ حذف مفعوله إما اختصارا لدلالة الأول عليه و إما اقتصارا اه سمين.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 366
كرر تأكيدا لتهديدهم و تسلية له صلّى اللّه عليه و سلّم
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ الغلبة عَمَّا يَصِفُونَ (180) بأن له ولدا
وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) المبلغين عن اللّه التوحيد و الشرائع
وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) على نصرهم و هلاك الكافرين.
قوله: (و تسلية له) الأولى أن يقول و تسليته ليكون معطوفا على تهديدهم. أي: تأكيدا لتهديدهم و لتسليته صلّى اللّه عليه و سلّم، فإنها قد علمت مما تقدم، أفاده القاري اه شيخنا.
قوله: سُبْحانَ رَبِّكَ الخ الغرض من هذا تعليم المؤمنين أن يقولوه و لا يخلوا به و لا يغفلوا عنه لما روي عن علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه قال: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ اه خازن.
و في القرطبي: و عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم غير مرة و لا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ اه.
قوله: رَبِّ الْعِزَّةِ أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل: ذي العزة، كما تقول صاحب صدق لاختصاصه به، و قيل: المراد العزة المخلوقة الكائنة بين خلقه، و يترتب على القولين مسألة اليمين، فعلى الأولى ينعقد بها اليمين لأنها صفة من صفاته بخلاف الثاني لا ينعقد بها اليمين اه سمين.
قوله: وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ تعميم للرسل بالتسليم بعد تخصيص بعضهم اه بيضاوي.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 367
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
سورة ص مكية و هي ست أو ثمان و ثمانون آية
ص اللّه أعلم بمراده به وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) أي البيان أو الشرف، و جواب هذا بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
و يقال لها سورة داود اه خازن.
و يجوز في ص هذه السكون على الحكاية و الفتح لمنع الصرف للعلمية و التأنيث باعتبار أن هذا الاسم علم على السورة، و الجر مع التنوين نظرا إلى كون السورة قرآنا اه شيخنا.
قوله: ص فيها قراءات خمسة الجمهور على السكون، و قرىء بالضم من غير تنوين كما قرىء به في ق و ن، قرىء بالفتح من غير تنوين كما قرىء به في ق و ن، و قرىء بالكسر مع التنوين و بدونه. و قد بسط السمين الكلام على توجيه الكل، و عبارته: قرأ العامة بسكون الدال من صاد كسائر حروف التهجي في أوائل السور و قد مر ما فيه. و قرأ أبي الحسن، و ابن أبي إسحاق و ابن أبي عبلة، و أبو السماك بكسر الدال من غير تنوين و فيها و جهان، أحدهما: أنه كسر لالتقاء الساكنين و هذا أقرب.
و الثاني: أنه أمر من المصاداة و هي المعارضة، و منه صوت الصدى لمعارضته لصوتك، و ذلك في الأماكن الخالية، و المعنى عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره و انته عن نواهيه قاله الحسن، و عنه أيضا: أنه من صاديت أي حادثت، و المعنى حادث الناس بالقرآن. و قرأ ابن أبي إسحاق كذلك إلا أنه نونه و ذلك على أنه مجرور بحرف قسم مقدر حذف و بقي عمله كقولهم: اللّه لأفعلن بالجر إلا أن الجر يقل في غير الجلالة و إنما صرفه ذهابا إلى معنى الكتاب و التنزيل. و عن الحسن أيضا، و ابن السميقع، و هارون الأعور: صاد بالضم من غير تنوين على أنه اسم للسورة و هو خبر مبتدأ مضمر، أي: هذه صاد و منع من الصرف للعلمية و التأنيث، و كذا قرأ ابن السميقع و هارون ق و ن بالضم على ما تقدم. و قرأ عيسى، و أبو عمرو في رواية محبوب صاد بالفتح من غير تنوين و هي تحتمل ثلاثة أوجه: البناء على الفتح تخفيفا كأين و كيف، و الجر بحرف القسم المقدر، و إنما منع من الصرف للعلمية و التأنيث كما تقدم و النصب بإضمار فعل، أو على حذف حرف القسم نحو قوله:
فذاك أمانة اللّه الثريد
و امتنعت من الصرف لما تقدم، و كذلك قرأ ق و ن بالفتح و هما كما تقدم و لم أحفظ التنوين مع الفتح و الضم، انتهت.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 368
القسم محذوف، أي ما الأمر، كما قال كفار مكة من تعدد الآلهة
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة فِي عِزَّةٍ حمية و تكبر عن الإيمان وَ شِقاقٍ (2) خلاف و عداوة للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم
كَمْ أي كثيرا أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي أمة من الأمم الماضية فَنادَوْا حين نزول العذاب بهم وَ لاتَ حِينَ قوله: وَ الْقُرْآنِ تقدم مثله في يس و القرآن، و جواب القسم فيه أقوال كثيرة، أحدهما: أنه قوله إن ذلك لحق قاله الزجاج و الكوفيون غير الفراء. قال الفراء: لا نجده مستقيما لتأخيره، جدا عن قوله:
وَ الْقُرْآنِ. الثاني: أنه قوله: كَمْ أَهْلَكْنا، و الأصل لكم أهلكنا فحذفت اللام كما حذفت في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: 9] بعد قوله: و الشمس لما طال الكلام قاله ثعلب و الفراء.
الثالث: أنه قوله إن كل إلا كذب الرسل قاله الأخفش. الرابع: أنه قوله ص لأن المعنى و القرآن لقد صدق محمد قاله الفراء و ثعلب أيضا. و هذا بناء منهما على جواز تقدم جواب القسم، و أن هذا الحرف مقتطع من جملة هو دال عليهم و كلاهما ضعيف. الخامس: أنه محذوف. و اختلفوا في تقديره، فقال الحوفي: تقديره لقد جاءكم الحق و نحوه، و قدره ابن عطية ما الأمر كما تزعمون، و الزمخشري: إنه لمعجز، و الشيخ إنك لمن المرسلين قال: لأنه نظير يس وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس:
1] اه سمين.
قوله: (أي البيان أو الشرف) عبارة البيضاوي: و المراد العظمة أو الشرف أو الشهوة أو ذكر ما يحتاج إليه في الدين من العقائد و الشرائع و المواعيد، انتهت.
و في القرطبي: قال ابن عباس، و مقاتل: معنى ذي الذكر ذي البيان، و قال الضحاك: ذي الشرف أي: أن من آمن به كان شرفا له في الدارين كما قال تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء: 10] أي: شرفكم و أيضا القرآن شريف في نفسه لإعجازه و اشتماله على ما لم يشتمل عليه غيره، و قيل: ذي الذكر ما يحتاج إليه من أمر الدين، و قيل: ذي الذكر أي أسماء اللّه تعالى و تمجيده، و قيل: ذي الذكر أي ذي الموعظة اه.
قوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا الخ اضراب و انتقال من قصة إلى أخرى بيّن به سبب قولهم (بتعدد الآلهة) أي: ليس الحامل لهم عليه الدليل، بل مجرد الحمية و الخصام و الشقاق اه شيخنا.
قوله: كَمْ أَهْلَكْنا الخ هذا و عيد لهم على كفرهم و استكبارهم ببيان ما أصاب من قبلهم من المستكبرين، و كم مفعول أهلكنا و من قرن تمييز لها اه شيخنا.
و من قبلهم لابتداء الغاية اه سمين.
قوله: فَنادَوْا أي: القرن. قوله: وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ هذه التاء كما ترسم مفصولة من حين اتباعا لبعض المصاحف العثمانية، كذلك يجوز رسمها موصولة بالحاء اتباعا لبعضها الآخر، فهي مما اختلف فيه المصاحف، فيجوز فيها الوجهان. و يتبعهما الوقف فبعضهم يقف على التاء، و بعضهم على لا كما هو مقرر في محله. و في السمين: و في الوقف عليها مذهبان، المشهور عند العرب و جماهير السبعة بالتاء المجرورة اتباعا لمرسوم الخط الشريف، و الكسائي وحده من السبعة بالهاء، الأول: مذهب الخليل و سيبويه و الزجاج و الفراء و ابن كيسان. و الثاني: مذهب المبرد، و أغرب أبو
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 369
مَناصٍ (3) أي ليس الحين حين قرار، و التاء زائدة، و الجملة حال من فاعل نادوا، أي استغاثوا، و الحال أن لا مهرب و لا منجى و ما اعتبر بهم كفار مكة
وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ رسول من أنفسهم ينذرهم و يخوّفهم النار بعد البعث، و هو النبي صلّى اللّه عليه و سلّم وَ قالَ الْكافِرُونَ فيه وضع الظاهر عبيد فقال: الوقف على لا و التاء متصلة بحين، فيقولون: قمت تحين قمت و تحين كان كذا فعلت كذا، و قال: رأيتها في الإمام كذا و لا تحين متصلة و المصاحف إنما هي لات حين، و حمل العامة ما رآه على أنه مما شذ عن قياس الخط كنظائر له مرت اه.
قوله: مَناصٍ أي: فوت و نجاة من ناصة، أي: فاته لا من ناص بمعنى تأخر اه أبو السعود.
و في المختار: النوص التأخر يقال: ناص عن قرنه أي: فر وراغ، و بابه قال و مناصا أيضا. و منه قوله تعالى: وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ أي: ليس وقت تأخر و فرار، و المناص أيضا المنجى و المفر اه.
و قال النحاس: و يقال ناص ينوص إذا تقدم، فعلى هذا يكون من الأضداد اه قرطبي.
قوله: (أي ليس الحين حين فرار الخ) أشار إلى مذهب سيبويه و الخليل في لات، و هي أنها تعمل عمل ليس، و أن اسمها محذوف و تقديره: ما ذكره و أن أصلها لا النافية و التاء زائدة كزيادتها في رب، و ثم كقولهم رب و ثمت، و مذهب الأخفش فيها أنها تعمل عمل إن و أصلها لا النافية زيدت عليها التاء، و حين اسمها و خبرها محذوف أي لا حين مناص لهم و نحوه، و هذه الجملة في محل نصب على الحال من فاعل نادوا كما أشار إليه الشيخ الصنف في التقرير اه كرخي.
قوله: (و التاء زائدة) أي لتأكيد النفي.
قوله: (و لا منجى) بالقصر كمرمى من النجاة اه شيخنا.
قوله: (و ما اعتبر) معطوف على كم أهلكنا الخ.
قوله: عَجِبُوا الخ حكاية لأباطيلهم المتفرعة على ما حكي من استكبارهم و شقاقهم أي:
عجبوا من أن جاءهم رسول من جنسهم بل أدون منهم في الرئاسة الدنيوية على معنى أنهم عدوا ذلك أمرا خارجا عن احتمال الوقوع، و أنكروا أشد الانكار لا أنهم اعتقدوا وقوعه و تعجبوا منه اه أبو السعود.
و في زاده: و لما حكى اللّه عن الكفار كونهم في عزة و شقاق أتبعه برمي كلماتهم الفاسدة، فإنهم قالوا إن محمدا مساو لنا في الخلقة الظاهرة و الأخلاق الباطنة و النسب و الشكل و الصورة، فكيف يعقل أنه يختص من بيننا بهذا المنصب العالي، فنسبوه إلى السحر و الكذب اه.
قوله: (من أنفسهم) أي: من جنسهم في البشرية اه بيضاوي.
قوله: (فيه وضع الظاهر) أي: غضبا عليهم و إيذانا بأنه لا يتجاسر على مثل ما يقولون إلا المتوغلون في الكفر و الفسوق اه أبو السعود.
و في الكرخي: قوله: (فيه وضع الظاهر موضع المضمر)، أي قالوا: و إنما وضع موضع المضمر
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج6، ص: 370
موضع المضمر هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4)
أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً حيث قال لهم: قولوا: لا إله إلا اللّه، أي كيف يسع الخلق كلهم إله واحد؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) أي عجيب
وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب، و سماعهم فيه من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قولوا: لا إله إلا اللّه أَنِ شهادة عليهم بهذا الوصف القبيح، و إشعارا بأن كفرهم جسرهم على هذا القول لما تقرر من أن نسبة أمر إلى المشتق يفيد عليه المأخذ اه.
قوله: (ساحر) أي: فيما يظهره من الخوارق كذاب، أي: فيما يسنده إلى اللّه من الارسال و الإنزال اه أبو السعود.
قوله: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ الخ بأن نفى الألوهية عنها و قصرها على واحد منها اه أبو السعود.
و الاستفهام تعجبي أي تعجبوا من هذا القصر و الحصر، كما أشار له بقوله: (أي كيف يسع الخلق الخ) أي: بعلمه و قدرته. أي: كيف يعلم الجميع و يقدر على التصرف فيهم إله واحد، و سبب تعجبهم هذا قياسهم الغائب على الشاهد اه شيخنا.
و عبارة الكرخي: قوله: (أي كيف يسع الخلق كلهم إله واحد) منشؤه أن القوم ما كانوا أصحاب نظر و استدلال، بل كانت أوهامهم تابعة للمحسوسات، فلما وجدوا في الشاهد أن الفاعل الواحد لا تفي قدرته و علمه بحفظ الخلائق قاسوا الغائب على الشاهد و أن أسلافهم لكثرتهم و قوة عقولهم كانوا مطبقين على الشرك توهموا أن كونهم على هذه الحال أن يكونوا مبطلين فيه، و يكون الإنسان الواحد محقا فلعمري لو كان التقليد حقا كانت هذه الشبهة لازمة، انتهت.
قوله: (عجيب) أي بليغ في العجب، فإنه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا و ما نشاهده من أن الواحد لا يفي علمه و قدرته بالأشياء الكثيرة اه بيضاوي.
و في الكرخي: قوله: (عجيب) أشار إلى أن عجاب مبالغة في عجيب، كقولهم: رجل طوال و أمر سراع عنما أبلغ من طويل و سريع اه.
قوله: (عند أبي طالب) روي أنه لما أسلم عمر شق ذلك على قريش، فاجتمع خمسة و عشرون من صناديدهم فأتوا أبا طالب فقالوا: أنت شيخنا و كبيرنا، و قد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء و جئناك لتقضي بيننا و بين ابن أخيك، فأحضره و قال له: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء و الانصاف فلا تمل كل الميل على قومك، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «ماذا تسألونني؟» فقالوا: ارفضنا و ارفض ذكر الهتنا و ندعك و إلهك، فقال: «أرأيتم أن أعطيتكم ما سألتم أمعطي أنتم كلمة واحدة تملكون بها رقاب العرب و تدين لكم العجم» قالوا: نعم، و عشر أمثالهم. فقال: «قولوا لا إله إلا اللّه» فقاموا و انطلق الملأ منهم الخ اه أبو السعود.