کتابخانه تفاسیر
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 82
الامتناع و التعاصي و التوحش لو لا تسخير اللّه و إذلاله إنما يتأتى في الدواب و أما السفن فهي عن عمل ابن آدم فليس لها امتناع بقوتها كامتناع الدابة اه شيخنا.
و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: «بسم اللّه» فإذا استوى على الدابة قال: «الحمد للّه على كل حال سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا إلى قوله: وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ» اه بيضاوي.
و في القرطبي: علمنا سبحانه و تعالى ما نقول إذا ركبنا الدواب و عرفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه السّلام ما نقول إذا ركبنا السفن و هو قوله تعالى: وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود: 41] فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقيحت أو طاح عن ظهرها فهلك، و كم من راكب سفينة انكسرت به فغرق، فلما كان الركوب مباشرة أمرا مخوفا و اتصالا بأسباب من أسباب التلف أمر أن لا ينسى عند اتصاله به موته و أنه هالك لا محالة فمنقلته إلى اللّه غير منفلت من قضائه و لا يدع ذكر ذلك بقلبه و لسانه حتى يكون مستعدا لقضاء اللّه بإصلاحه من نفسه، و الحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته في علم اللّه و هو غافل عنه، و قال ابن العربي: ما ينبغي لعبد أن يدع قول هذا و ليس بواجب ذكره باللسان، و إنما الواجب اعتقاده بالقلب أما إنه يستحب له ذكره باللسان فيقول: متى ما ركب و خصوصا في السفر إذا تذكر: سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين و إنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم أنت الصاحب في السفر و الخليفة في الأهل و المال، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر و كآبة المنقلب، و الحور بعد الكور، و سوء المنظر في الأهل و المال، يعني بالحور بعد الكور تشتت أمر الرجل بعد اجتماعه اه.
قوله: وَ ما كُنَّا أي: و الحال ما كنا له مقرنين: قال الواحدي: كأن اشتقاقه من قولك صرت قرنا لفلان أي: مثله في الشدة، و المعنى ليس عندنا من القوة و الطاقة ما نقارن و نساوي به هذه الدواب، فسبحان من سخرها لنا بقدرته و حكمته اه خطيب.
و في السمين: و المقرن المطيق للشيء الضابط له من أقرنه أي: أطاقه اه.
و في المختار: و قرن الشيء بالشي وصله به و بابه ضرب و نصر اه.
و في القرطبي: ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم أي: ركبتم عليه، و ذكر النعمة هو الحمد على تسخير ذلك لنا في البر و البحر و تقولوا: سبحان الذي سخر لنا هذا أي: ذلل لنا هذا المركوب، و في قراءة علي بن أبي طالب: سبحان من سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين أي: مطيقين في قول ابن عباس و الكلبي. و قال الأخفش و أبي عبيدة: مقرنين ضابطين، و قيل: مماثلين في الأيدي و القوة من قولهم:
هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة، و يقال: فلان مقرن لفلان أي: ضابط له، و أقرنت كذا أي:
أطلقته، و أقرن له أطاقه و قوي عليه كأنه صار له قرنا قال اللّه تعالى: وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي: مطيقين، و المقرن أيضا الذي غلبته ضيعته تكون له إبل أو غنم و لا معين له عليها. و في أصله قولان، أحدهما:
أنه مأخوذ من الإقران يقال: أقرن يقرن إقرانا إذا أطاق أو أقرنت كذا إذا أطقته و أحكمته كأنه جعله في
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 83
وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً حيث قالوا: الملائكة بنات اللّه تعالى لأن الولد جزء الوالد، و الملائكة من عباد اللّه إِنَّ الْإِنْسانَ القائل ما تقدم لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) بين ظاهر الكفر
أَمِ بمعنى همزة الإنكار، و القول مقدر أي أتقولون اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ لنفسه وَ أَصْفاكُمْ أخلصكم بِالْبَنِينَ (16) اللازم من قولكم السابق، فهو من جملة المنكر
وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما قرن و هو الحبل فأوثقه به و شده. و الثاني: أنه مأخوذ من المقارنة و هو أن يقرن بعضها ببعص في حبل تقول: قرنت كذا بكذا إذا ربطته به و جعلته قرينة اه.
قوله: (لمنصرفون) أي: من الدنيا و مراكبها إلى دار الاستقرار و البقاء، و يتذكر بالحمل على السفينة و الدابة الحمل على الجنازة، و عبارة الخطيب: أي لصائرون بالموت و ما بعده إلى الدائر الآخرة انقلابا لا رجوع بعده إلى هذه الدار، فالآية منبهة بالسير الدنيوي على السير الأخروي ففيه إشارة إلى الرد عليهم في إنكار البعث، انتهت.
قوله: وَ جَعَلُوا لَهُ الخ متصل بقوله: و لئن سألتهم الخ أي: و قد جعلوا له بعد ذلك الاعتراف كما قاله القاضي، و في الكشاف: منع ذلك الاعتراف أي: اعترافهم بأن الخالق هو اللّه، و ذلك لأن جملة و جعلوا له حالية و الحال مقارنة لصاحبها سيما و هي هنا جملة ماضوية و سمي الولد الذي أثبتوه للّه جزءا دلالة على استحالته على الواحد في ذاته، و المركب لا يكون واحد الذات أيضا ما كان كذلك فإنه يقبل الاتصال و الانفصال و الاجتماع و الافتراق، و ما كان كذلك فهو محدث فلا يكون إلها قديما اه كرخي.
قوله: جُزْءاً مفعول أول للجعل و الجعل تصيير قولي أي: حكموا و أثبتوا، و يجوز أن يكون بمعنى سموا و اعتقدوا اه سمين.
قوله: (بين) أشار بهذا إلى أن مبين من أبان اللازم و لا مانع أن يكون من المتعدي أي: مظهر لكفره اه كرخي.
قوله: (بمعنى همزة الإنكار) أي: و التقريع و التوبيخ و قدرها بعضهم ببل التي للانتقال و بعضهم بهما، و كل صحيح لأن فيها مذاهب ثلاثة كما نقله أبو حيان اه شيخنا.
قوله: (لنفسه) متعلق باتخذ. قوله: (أخلصكم) أي: خصكم. قوله: (اللازم) بالنصب نعت لقوله و أصفاكم إذ هو معطوف على اتخذ الذي هو مقول القول لكن المعطوف عليه قالوه صريحا و المعطوف لم يقولوه، لكنه من قولهم: الملائكة بنات اللّه فكأنهم قالوا البنات له و البنون لنا، فلذلك قال اللازم من قولهم السابق أي: الملائكة بنات اللّه، و قوله: فهو من جملة المنكر أي: لأنه معطوف على اتخذ الداخل عليه أم التي بمعنى همزة الإنكار اه شيخنا.
و يصح كونه حالا مع تقدير قد اه كرخي.
قوله: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ الخ استئناف مقرر لما قبله، و قيل: حال على معنى أنهم نسبوا إليه ما ذكر، و من حالهم أن إذا بشر به اغتم، و الالتفات إلى الغيبة للإيذان بأن قبائحهم اقتضت أن يعرض
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 84
ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا جعل له شبها بنسبة البنات إليه لأن الولد يشبه الوالد، المعنى: إذا أخبر أحدهم بالبنت تولد له ظَلَ صار وَجْهُهُ مُسْوَدًّا متغيرا تغير مغتم وَ هُوَ كَظِيمٌ (17) ممتلىء غما، فكيف ينسب البنات إليه؟ تعالى عن ذلك
أَ وَ همزة الإنكار، و واو العطف بجملة أي يجعلون للّه مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ الزينة وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) مظهر الحجة لضعفه عنها بالأنوثة
وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا حضروا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ عنهم و تحكى لغيرهم ليتعجب منها اه أبو السعود.
قوله: بِما ضَرَبَ ما موصولة معناها البنات، و ضرب بمعنى جعل، و المفعول الأول الذي هو عائد الموصول محذوف أي: ضربه و مثلا هو المفعول الثاني، و قوله شبها أي: فالمثل بمعنى الشبه أي: المشابه لا بمعنى الصفة الغريبة العجيبة اه شيخنا.
قوله: وَ هُوَ كَظِيمٌ الواو للحال.
قوله: أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا يجوز في من و جهان، أحدهما: أن تكون في محل نصب مفعولا بفعل مقدر أي: أو يجعلون من ينشأ في الحلية. و الثاني: أنه مبتدأ و خبره محذوف تقديره أو من ينشأ جزءا و ولد، و قرأ العامة ينشأ بفتح الياء و سكون النون من نشأ في كذا ينشأ فيه، و الأخوان و حفص بضم الياء و فتح النون و تشديد الشين مبنيا للمفعول أي: يربي، و قرأ الجحدري كذلك إلا أنه خفف الشين أخذه من أنشأه، و الحسن يناشأ كيقاتل مبنيا للمفعول و المفاعلة تأتي بمعنى الإفعال كالمعالاة بمعنى الإعلاء اه سمين.
قوله: (همزة الإنكار الخ) أي اللفظ كلمتان همزة الإنكار و واو العطف لا كلمة واحدة التي هي أو العاطفة و قوله: بجملة متعلق بالعطف و الباء بمعنى اللام أي: لجملة أي: جملة مقدرة ذكرها بقوله:
أي يجعلون، و حاصل هذه الإعراب أنه جعل من معمولة لمقدر معطوف بواو العطف لكنه لم ينبه على المعطوف عليه، و تقديره: أيجترئون و يبلغون الغاية في إساءة الأدب و يجعلون للّه من ينشأ في الحلية، و من عبارة عن الأنثى أي: يجعلون للّه الأنثى التي تتربى في الزينة لنقصها، إذ لو كملت في نفسها لما تكملت بالزينة، و أيضا هي ناقصة العقل لا تقدر على إقامة حجة عند الخصام اه شيخنا.
قوله: وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ الجملة حال، و في الخصام يجوز أن يتعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده تقديره و هو لا يبين في الخصام، و يجوز أن يتعلق بمبين، و جاز للمضاف إليه أن يعمل فيما قبل المضاف لأن غير بمعنى لا، و قدم تقدم تحقيق هذا في أول هذا الموضوع آخر الفاتحة اه سمين.
و في أبي السعود: غير مبين أي: غير قادر على تقرير دعواه و إقامة حجته لنقصان عقله و ضعف رأيه، و إضافة غير لا تمنع عمل ما بعدها في الجار المتقدم عليها لأنها بمعنى النفي اه.
و قال قتادة: قلما تكلمت امرأة تريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها اه خازن.
قوله: (مظهر الحجة) أشار بهذا إلى أن مبين هنا من أبان المتعدي اه كرخي.
قوله: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الخ الجعل هنا بمعنى القول و الحكم تقول: جعلت زيدا أعلم الناس أي: حكمت له بذلك اه قرطبي.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 85
بأنهم إناث وَ يُسْئَلُونَ (19) عنها في الآخرة فيترتب عليها العقاب
وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ أي الملائكة، فعبادتنا إياهم بمشيئته فهو راض بها، قال تعالى ما لَهُمْ بِذلِكَ المقول من الرضا بعبادتها مِنْ عِلْمٍ إِنْ ما هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) يكذبون فيه، فيترتب عليهم العقاب به
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي القرآن بعبادة غير اللّه فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) أي لم يقع ذلك
بَلْ و هذا بيان لنوع آخر من كفرياتهم، فالقول بأن الملائكة أناث كفر لأن فيه جعل أكمل العباد و أكرمهم على اللّه أنقصهم رأيا و أخسهم صنفا اه كرخي.
قال الكلبي و مقاتل: لما قالوا هذا القول سألهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: «ما يدريكم أنهم إناث»؟ قالوا:
سمعنا من آبائنا و نحن نشهد أنهم لم يكذبوا فقال اللّه تعالى: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ أي: عنها في الآخرة: هذا يدل على أن القول بغير دليل منكر، و أن التقليد حرام يوجب الذم العظيم.
تنبيه:
قال البقاعي: يجوز أن يكون في السين استعطاف إلى التوبة قبل كتابة ما قالوا و لا علم لهم به فإنه قد روى أبو أمامة أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «كاتب الحسنة على يمين الرجل و كاتب السيئات على يسار الرجل، و كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا، و إذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب اليسار دعه سبع ساعات لعله يسبح اللّه أو يستغفر» اه خطيب.
قوله: وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ أي: لو شاء عدم عبادة الملائكة ما عبدناهم، فاستدلوا بنفي مشيئته عدم العبادة على امتناع النهي عنها أو على حسنها، و ذلك باطل لأن المشيئة ترجيح بعض الممكنات على بعض مأمورا كان أو منهيا حسنا كان أو غيره اه بيضاوي.
و هذا بيان لنوع آخر من كفرياتهم، و الحاصل أنهم كفروا بمقالات ثلاثة هذه و التي قبلها و هي فولهم الملائكة إناث و التي قبلها و هي قولهم: الملائكة بنات اللّه اه شيخنا.
و في الخطيب: قال المحققون هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه، أولها: إثبات الولد. ثانيها: أن ذلك الولد بنت. ثالثها: الحكم على الملائكة بالأنوثة اه في صنيعه تسمح.
قوله: إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ قاله هنا بلفظ يخرصون، و في الجاثية بلفظ قوله: يَظُنُّونَ لأن ما هنا متصل بقوله: و جعلوا الملائكة الآية أي: قالوا: الملائكة بنات اللّه و أن اللّه قد شاء منا عبادتنا إياهم و هذا كذب، فناسبه يخرصون و ما هناك متصل بخلطهم الصدق بالكذب، فإن قولهم: قوله:
نَمُوتُ وَ نَحْيا [المؤمنون: 37 و الجاثية: 24] صدق و كذبوا في إنكارهم البعث، و قوله: وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] فناسبه يظنون أي: يشكون فيما يقولون اه كرخي.
قوله: (يكذبون فيه) أي: في القول. و في المصباح: و خرص الكافر خرصا من باب قتل كذب فهو خارص اه.
قوله: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ هذا معادل لقوله: قوله: أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف: 69] و المعنى أحضروا خلقهم أي: آتيناهم كتابا من قبله أي: من قبل القرآن أي: بما ادعوه فهم به
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 86
قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ملة وَ إِنَّا ماشون عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) بهم و كانوا يعبدون غير اللّه
وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها متنعموها مثل قول قومك إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا مستمسكون يعملون بما فيه اه قرطبي.
فقد جعل أم متصلة للهمزة في قوله: أشهدوا خلقهم و هو بعيد من المعنى و السياق، فالأولى الوجه الآخر الذي جرى عليه أكثر المفسرين من أنها منقطعة بمعنى همزة الاستفهام الإنكاري، و عبارة البيضاوي: ثم أضرب عنه أي: عن نفي أن يكون لهم متمسك عقلي إلى إنكار أن يكون لهم سند من جهة النقل، فقال: أم آتيناهم الخ اه.
و في إشارة إلى أن أم منقطعة لا متصلة معادلة لقوله: أشهدوا خلقهم كما قيل لبعده اه شهاب.
قوله: (أي لم يقع ذلك) أي: إيتاؤهم كتابا بما ذكر، و أشار بهذا إلى أن أم بمعنى همزة الإنكار اه شيخنا.
قوله: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا الخ أي: لم يأتوا بحجة عقلية و لا نقلية، بل اعترفوا بأنه لا مستند لهم سوى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم اه أبو السعود.
قوله: عَلى أُمَّةٍ أي: طريقة تؤم و تقصد اه أبو السعود.
و في البيضاوي: و هي الحالة التي يكون عليها آلآم أي: القاصد و منها الدين اه.
و في السمين: قوله: على أمة العامة على ضم الهمزة بمعنى الطريقة و الدين، و قرأ مجاهد، و قتادة، و عمر بن عبد العزيز بالكسر. قال الجوهري: هي الطريقة الحسنة لغة في أمة بالضم، و ابن عباس بالفتح و هي المرة من الأم، و المراد بها القصد و الحال اه.
قوله: (ماشون) أشار بتقدير هذا إلى أن الجار و المجرور خبر إن و عليه فيكون مهتدون خبرا ثانيا اه شيخنا.
و في أبي السعود: على آثارهم مهتدون خبر إن أو الظرف صلة لمهتدون اه.
قوله: مُهْتَدُونَ قاله هنا بلفظ مهتدون، و قال: فيما بعده مقتدون، لأن الأل وقع في محاجتهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و ادعائهم أن آبائهم كانوا مهتدين و أنهم مهتدون كآبائهم فناسبه مهتدون، و الثاني وقع حكاية عن قوم دعوا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء فناسبه مقتدون اه كرخي.
قوله: وَ كَذلِكَ أي: و الأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة و تمسكهم بالتقليد، و قوله: ما أرسلنا الخ استئناف مبني لذلك دال على التقليد فيما بينهم ضلال قديم ليس لأسلافهم أيضا مستند غيره اه أبو السعود.
و عبارة الكرخي: قوله: و كذلك ما أرسلنا الخ تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و دلالة على أن التقاليد في نحو ذلك ضلال قديم، و أن من تقدمهم أيضا لم يكن لهم مستند منظور إليه و تخصيص المترفين للإشعار بأن التنعم هو الذي أوجب البطر و صرفهم عن النظر إلى التقليد اه.
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 87
عَلى أُمَّةٍ ملة وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) متبعون
* قالَ لهم أَ تتبعون ذلك وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أنت و من قبلك كافِرُونَ (24) قال تعالى قوله: إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها جمع مترف اسم مفعول و تفسير الشارح له باسم الفاعل تفسير باللزم، و في القاموس: و ترف كفرح تنعم، و أترفته النعمة أطغته كترفته تتريفا، و فلان أصر على البغي، و المترف كمكرم المتروك يصنع ما يشاء فلا يمنع، و المتنعم لا يمنع من تنعمه اه.
قوله: (مثل قول قومك) مفعول مطلق أي: نعت لمصدر محذوف هو المفعول المطلق أي: قولا مثل قول قومك، و قوله: إنا وجدنا الخ مقول القول فهو مفعول له اه شيخنا.
و هذا الصنيع من الشارح ليس بلازم، فالأولى كما جرى عليه غيره جعل قوله: إنا وجدنا آباءنا الخ مقول القول و لا تقدير في الكلام تأمل.
قوله: قالَ (لهم) خطاب لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم، أي: قل لقومك أتتبعون ذلك أي: المذكور و هو آباؤكم كما قلتم: إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مهتدون اه شيخنا.
و هذا هو الذي يتبادر من صنيع الجلال و هو أحد احتمالين ذكرهما البيضاوي بقوله: و هو حكاية أمر ماض أوحي إلى النذير، أو خطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و يؤيد الأول أنه قرأ ابن عامر و حفص قال اه.
و قوله: أوحي إلى النذير يعني أن المأمور بقوله: قل يجوز أن يكون النذير فيكون قل أمرا ماضيا متعلقا بالنذير السابق حكاه اللّه لنبيه على تقديره: فقلنا له قل: و يجوز أن يكون أمرا حاليا متعلقا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم اه شهاب.
قوله: و يؤيد الأول الخ، و يؤيده أيضا ما قالوا في جوابه إنا بما أرسلتم به بلفظ الجمع، و لو كان الخطاب بقل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لكان الظاهر أن يجيبوه بأن يقولوا إنا بما أرسلت به كافرون اه زاده.
و قد أجاب عن هذا الجلال بقوله: أنت و من قبلك لكن يبعد ما جرى عليه الجلال قوله: فانتقمنا منهم، لأن الضمير فيه راجع للمترفين و لا بد، فعلى صنيع الجلال يكون الكلام مفككا غير منتظم، و عبارة أبي السعود: قال: أولو جئتكم أي: قال كل نذير من أولئك المنذرين لأممهم أو لو جئتكم أي:
أتقتدون بآبائكم و لو جئتكم بأهدى أي: بدين أهدى مما وجدتم عليه آباءكم من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء، و إنما عبّر عنها بذلك مجاراة معهم على مسلك الأنصاف، و قرئ قل على أنه حكاية أمر ماض أوحي حينئذ إلى كل نذير لا على أنه خطاب للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم كما قيل لقوله تعالى: قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون، فإنه حكاية عن الأمم قطعا أي: قال كل أمة لنذيرها إنما أرسلت به الخ. و قد أجمل عند الحكاية للإيجاز كما مر في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: 51] و جعله حكاية عن قومه عليه الصلاة و السّلام بحمل صيغة الجمع على تغليبه على سائر المنذرين عليهم السّلام و توجيه كفرهم إلى ما أرسل به الكل من التوحيد لإجماعهم عليه كما في نظائر قوله تعالى:
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 123] تمحل بعيد يرده بالكلية قوله تعالى: فانتقمنا منهم أي:
بالاستئصال، فانظر كيف كان عاقبة المكذبين من الأمم المذكورين فلا تكترث بتكذيب قومك اه.
قوله: بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ الخ أي: بدين أهدى و أوضح و أصوب مما وجدتم الخ أي: من
الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج7، ص: 88
تخويفا لهم
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي من المكذبين للرسل قبلك فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
وَ اذكر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ أي بريء مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي خلقني فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) يرشدني
وَ جَعَلَها أي كلمة التوحيد المفهومة من قوله إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ذريته فلا يزال فيهم من يوحد اللّه لَعَلَّهُمْ أي أهل مكة الضلالة التي ليست من الهداية في شيء، و التعبير بالتفضيل المقتضي أن ما عليه آباؤهم فيه هداية لأجل التنزل معهم و إرخاء العنان اه أبو السعود.
قوله: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي: فلا تكترث بتكذيب قومك اه أبو السعود.
قوله: وَ (اذكر) أي: لقومك، إذ قال إبراهيم أي: الذي هو أعظم آبائهم و محط فخرهم و المجمع على محبته و حقية دينه منهم و من غيرهم لأبيه، أي: من غير أن يقلده كما قلدتم أنتم آباءكم و قومه أي: الذين كانوا هم القوم بالحقيقة لاحتوائهم على ملك جميع الأرض إنني براء مما تعبدون فتبرأ مما هم عليه و تمسك بالبرهان ليسلكوا مسلكه في الاستدلال اه خطيب و أبو السعود.
قوله: بَراءٌ العامة على فتح الباء و ألف و همزة بعد الراء، و هو مصدر في الأصل وقع موقع الصفة و هي بريء، و بها قرأ الأعمش و لا يثنى و لا يجمع و لا يؤنث كالمصادر في الغالب و الزعفراني و ابن المنادى عن نافع بضم الباء بزنة طوال و كرام يقال: طويل و طوال و بريء و براء، و قرأ الأعمش:
إني بنون واحدة اه سمين.
و في المختار: و تبرأ من كذا فهو براء منه بالفتح و المد لا يثنى و لا يجمع لأنه مصدر كالسماع اه.
قوله: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي في هذا الاستثناء أوجه، أحدها: أنه منقطع بناء على أنهم كانوا يعبدون الأصنام فقط. ثانيها: أنه متصل بناء على أنهم كانوا يشركون مع اللّه الأصنام. ثالثها: أن إلا صفة بمعنى غير و ما نكرة موصوفة قاله الزمخشري اه خطيب.
قوله: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أي: سيثبتني على الهداية أو سيهدين إلى ما وراء الذي هداني إليه الآن، و الأوجه أن السين للتأكيد دون التسويف و صيغة المضارع للدلالة على الاستمرار اه أبو السعود.
قوله: وَ جَعَلَها الضمير المستتر يعود على إبراهيم، و قوله: لعلهم يرجعون من كلام اللّه تعليل للأمر الذي قدره الشارح بقوله: و اذكر أي: اذكر لقومك ما ذكر لعلهم يرجعون. هذا هو المناسب لصنيع الشارح و غيره من الشراح جرى على أسلوب آخر فافهم الفرق بينهما اه شيخنا.