کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين

المجلد السابع

سورة فصلت مكية و هي ثلاث و خمسون آية سورة الدخان مكية و قيل إلا إنا كاشفوا العذاب الآية و هي ست أو سبع أو تسع و خمسون آية سورة الجاثية مكية إلا قل للذين آمنوا الآية. و هي ست سبع و ثلاثون آية سورة محمد مدنية إلا و كأين من قرية الآية. أو مكية. و هي ثمان أو تسع و ثلاثون آية سورة الحجرات مدنية و هي ثمان عشر آية سورة الذاريات مكية و هي ستون آية سورة الطور مكية و هي تسع و أربعون آية سورة القمر مكية إلا سيهزم الجمع الآية. و هي خمس و خمسون آية سورة الحديد مكية أو مدنية و هي تسع و عشرون آية سورة الممتحنة مدنية و هي ثلاث عشرة آية سورة الصف مكية أو مدنية و هي أربع عشرة آية فهرس محتويات الجزء السابع من الفتوحات الإلهية

الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين


صفحه قبل

الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج‏7، ص: 203

ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏ (34) نزلت في أصحاب القليب:

فَلا تَهِنُوا تضعفوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ‏ بفتح السين و كسرها، أي الصلح مع الكفار إذا لقيتموهم‏ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ‏ حذف منه واو لام الفعل الأغلبون القاهرون‏ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ‏ بالعون و النصر وَ لَنْ يَتِرَكُمْ‏ ينقصكم‏ أَعْمالَكُمْ‏ (35) مقبولا حتى نزل: و لا تبطلوا أعمالكم، فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقال: الكبائر الموجبات و الفواحش حتى نزل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ‏ [النساء: 48 و 116] فكففنا عن القول في ذلك فكنا نخاف على من أصاب الكبائر و نرجو لمن لم يصبها، و عن قتادة: رحم اللّه عبدا لم يحبط علمه الصالح بعمله السيئ، و عن ابن عباس: لا تبطلوا أعمالكم بالرياء و السمعة، و عنه أيضا بالشك و النفاق، و قيل: بالعجب فإن العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب اه.

قوله: فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏ خبر إن. قوله: (في أصحاب القليب) بئر في بدر ألقي فيه القتلى من الكفار، لكن حكمها عام في كل كافر مات على كفره اه خازن.

قوله: فَلا تَهِنُوا من باب وعد، و الخطاب لأصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و الحكم عام لجميع المسلمين اه خازن.

و الفاء فصيحة أي: إذا تبين لكم ما تلي عليكم فلا تهنوا، فإن من كان اللّه عليه لا يفلح اه كرخي.

و في زاده: الفاء في جواب شرط محذوف أي: إذا علمتم وجوب الجهاد و تأكد أمره فلا تضعفوا اه.

و في القرطبي: و اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقيل: إنها ناسخة لقوله تعالى: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال: 61] لأن اللّه تعالى منع من الميل إلى الصلح إذا لم يكن بالمسلمين حاجة إلى الصلح، و قيل: منسوخة بقوله: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ‏ [الأنفال: 61] الآية. و قيل: هي محكمة و الآيتان نزلتا في وقتين مختلفي الأحوال، و قيل: إن قوله: و إن جنحوا للسلم فاجنح لها مخصوص بقوم بأعيانهم و الأخرى عامة، فلا تجوز معاهدة الكفار إلا عند الضرورة و ذلك إذا عجزنا من مقاومتهم لضعف المسلمين و قد مضى هذا المعنى مستوفى اه.

قوله: وَ تَدْعُوا معطوف على المجزوم. قوله: (بفتح السين و كسرها) سبعيتان. قوله: وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ‏ جملة حالية و كذا و اللّه معكم اه سمين.

قوله: (لام الفعل) أي: هي لام الفعل و أصله الأعلوون بواوين: الأولى لام الكلمة، و الثانية:

واو جمع المذكر السالم فيقال: تحركت الواو الأولى و انفتح ما قبلها فقلبت ألفا فالتقى ساكنان فحذفت الألف، و قوله: القاهرون في نسخة الظاهرون. قوله: (ينقصكم) أي: أو يفردكم عنها أي: الأعمال، فهو من و ترت الرجل إذا قتلت له قتيلا أو نهبت له ماله أو من الوتر و هو الانفراد، و قيل: كل من المعنيين يرجع للإفراد لأن من قتل له قتيل أو نهب له مال فقد أفرد عنه اه سمين.

و في المختار: و وتره حقه يتره بالكسر وترا بالكسر أيضا نقصه، و قوله تعالى: وَ لَنْ يَتِرَكُمْ‏

الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج‏7، ص: 204

أي ثوابها:

إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي الاشتغال فيها لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا اللّه و ذلك من أمور الآخرة يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ‏ (36) جميعا بل الزكاة المفروضة فيها:

إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ‏ يبالغ في طلبها تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ‏ البخل‏ أَضْغانَكُمْ‏ (37) لدين الإسلام:

ها أَنْتُمْ‏ يا أَعْمالَكُمْ‏ أي: في أعمالكم: دخلت البيت أي: في البيت و أوتره أفرده و منه أوتر صلاته و أوترها توتيرا بمعنى اه.

و في المصباح: يقال: و ترت العدد وترا من باب وعد أفردته و أوترته بالألف مثله و ترت الصلاة و أوترتها جعلتها و وترت زيدا حقه أتره من باب وعد أيضا نقصته، و منه: من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله و ماله بنصبهما على المفعولية اه.

قوله: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ أي: باطل و غرور يعني كيف تمنعكم الدنيا عن طلب الآخرة و قد علمتم أن الدنيا كلها لعب و لهو إلا ما كان منها في عبادة اللّه عز و جل و طاعته، و اللعب ما يشغل الإنسان و ليس فيه منفعة في الحال و لا في المآل، ثم إذا استعمله الإنسان و لم ينتبه لأشغاله المهمة فهو اللعب، و إن أشغله عن مهمات نفسه فهو اللهو اه خازن.

قوله: وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ‏ أي: لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بل يأمركم بإخراج البعض قاله ابن عيينة و غيره، و قيل: لا يسألكم أموالكم لنفسه أو لحاجة منه إليها و إنما يأمركم بالإنفاق في سبيله ليرجع ثوابه إليكم، و قيل: لا يسألكم أموالكم إنما يسألكم أمواله لأنه مالكها و هو المنعم بإعطائها، و قيل: لا يسألكم محمد أموالكم أجرا على تبليغ الرسالة: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏ [الشورى: 23] اه قرطبي.

قوله: فَيُحْفِكُمْ‏ عطف على الشرط، و تبخلوا جواب الشرط اه سمين.

قوله: (يبالغ في طلبها) أي: حتى يستأصلها فيجهدكم بذلك، فالإحفاء المبالغة و بلوغ الغاية في كل شي‏ء يقال: أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح، و أحفى شاربه استأصله اه خطيب.

قوله: وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ‏ (لدين الإسلام) أي: أحقادكم و بغضكم لدين الإسلام أي: من حيث محبة الأموال بالجبلة و الطبيعة، و من نوزع في حبيبه ظهرت طويته التي كان يسرها اه شيخنا.

قوله: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي: يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون، و قوله: تدعون استئناف مقرر لذلك أو صفة لهؤلاء على أنه بمعنى الذي و هو يعم نفقة الغزو و الزكاة و غيرهما اه بيضاوي.

و قوله: أي أنتم الخ أشار إلى أن هاء التنبيه مكررة للتأكيد داخلة على المبتدأ المخبر عنه باسم الإشارة و قوله: الموصوفون أي: بما تضمنه أن يسألكموها الخ، فإن الإشارة تفيده كما مر تحقيقه في أولئك هم المفلحون يعني: أن هؤلاء المخاطبين هم الذين إذا سئلوا لم يعطوا و أنهم المفتضحون، و جملة تدعون الخ مستأنفة مقررة و مؤكدة لاتحاد محصل. معناهما: فإن دعوتهم للإنفاق هي سؤال الأموال منهم اه شهاب.

و محصل هذا الإعراب أن‏ها أنتم مبتدأ، و هؤلاء خبره، و جملة تدعون مستأنفة و هذا غير إعراب‏

الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج‏7، ص: 205

هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏ ما فرض عليكم‏ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ‏ يقال بخل عليه عنه‏ وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إليه‏ وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا عن طاعته‏ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ‏ أي يجعلهم بدلكم‏ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ‏ (38) في التولي عن طاعته، بل مطيعين له عزّ و جلّ.

الجلال، و محصل إعرابه إن أنتم مبتدأ و تدعون خبره، و هؤلاء منادى معترض بين المبتدأ و الخبر.

قوله: فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ‏ أي: و منكم من يجود، و حذف هذا المقابل لأن المراد الاستدلال على البخل اه خطيب.

و من موصولة. و قوله: و من يبخل شرطية، و قوله: فإنما يبخل عن نفسه جوابه أي: فإنما يمنعها الأجر و الثواب اه قرطبي.

قوله: (يقال بخل عليه و عنه) أي: فيعدى بعلى و عن لتضمينه معنى الإمساك و التعدي اه أبو السعود.

و في السمين: بخل و ضمن يتعديان بعلى تارة و بعن أخرى، و الأجود أن يكونا حال تعديهما بعن مضمنين معنى الإمساك اه.

قوله: وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا الخ هذه الشرطية معطوفة على الشرطية قبلها أي: قوله و إن تؤمنوا الخ، و قوله: ثم لا يكونوا أمثالكم كلمة ثم للدلالة على أن مدخولها مما يستبعده المخاطبون لتقارب الناس في الأحوال و اشتراكهم في الميل إلى المال اه كرخي.

قوله: (أي يجعلهم بدلكم) يشير به إلى أن المراد استبدال الذات لا استبدال الوصف كما في قوله: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ‏ [إبراهيم: 48] فهو كما في الكشاف كقوله: وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [ابراهيم: 19] اه كرخي.

قوله: (بل مطيعين له) أي: بل يكونون مطيعين الخ، و في القرطبي: و إن تتولوا يستبدل قوما غيركم أي: أطوع منكم. روى الترمذي عن أبي هريرة قال: تلا النبي صلّى اللّه عليه و سلّم هذه الآية: إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ‏ قالوا: و من يستبدل بنا، و كان سلمان جنب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. قال:

فضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فخذ سلمان فقال: «هذا و أصحابه و الذي نفس محمد بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس» و قال الحسن: هم العجم، و قال عكرمة: هم فارس و الروم، و قال المحاسبي: فلا أحد بعد من جميع أجناس الأعاجم أحسن دينا و لا كانت منهم العلماء إلا الفرس، و قيل: إنهم أهل اليمن و هم الأنصار قاله شريح بن عبيد، و كذا قال ابن عباس: هم الأنصار، و عنه أنهم الملائكة، و عنه: هم التابعون. و قال مجاهد: إنهم من شاء من سائر الناس، و حكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قال: «هي أحب إليّ من الدنيا» و اللّه أعلم اه.

الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج‏7، ص: 206

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

سورة الفتح مدنية و هي تسع و عشرون آية

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ‏ قضينا بفتح مكة و غيرها في المستقبل عنوة بجهادك‏ فَتْحاً مُبِيناً (1) بينا ظاهرا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ سبب نزولها أنه صلّى اللّه عليه و سلّم في السنة السادسة خرج بألف و أربعمائة من أصحابه قاصدين مكة للاعتمار، فأحرموا بالعمرة من ذي الحليفة، و ساق صلّى اللّه عليه و سلّم سبعين بدنة هديا للحرم، و ساق القوم سبعمائة، فلما و صلوا الحديبية و هي قرية بينها و بين مكة مرحلة منعه المشركون من دخول مكة و صالحوه على أنه يأتي في العام القابل و يدخلها و يقيم فيها ثلاثة أيام، فتحلل هو و أصحابه هناك بالحلق و ذبح ما ساقوه من الهدي، ثم رجعوا يعلوهم و يخالطهم الحزن، و الكآبة، فأراد اللّه تسليتهم و إذهاب الحزن عنهم، فأنزل اللّه عليه و هو سائر ليلا في رجوعه و هو بكراع الغميم، و هو واد أمام عسفان بين مكة و المدينة إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً إلى آخر السورة، فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: «لقد أنزل عليّ الليلة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس»، ثم قرأ إنا فتحنا لك فتحا مبينا. و في رواية: «لقد أنزل عليّ هي أحب إلي من الدنيا جميعا»، ثم قرأ إنا فتحنا لك فتحا مبينا، فقال المسلمون: هنيئا مريئا لك يا رسول اللّه لقد بيّن لك ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا فنزلت عليه‏ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الفتح: 5] حتى بلغ‏ فَوْزاً عَظِيماً [النساء: 73] اه خازن.

قوله: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ‏ فتح البلد عبارة عن الظفر به عنوة أو صلحا بخراج أو بدونه، فإنه ما دام يظفر به فهو مغلق مأخوذ من فتح باب الدار و إسناده إلى نون العظمة لاستناد أفعال العباد إليه تعالى خلقا و إيجادا اه أبو السعود.

قوله: (قضينا) أي: حكمنا في الأزل بفتح مكة و غيرها كخيبر و غيرها و حنين و الطائف، و قوله:

المستقل نعت للفتح، و هذا جواب عما يقال إن الآية نزلت في الطريق حين رجوعه من الحديبية عام ست، و مكة لم تكن فتحت إذ ذاك، فكيف قال فتحنا بلفظ الماضي؟ و حاصل الجواب: أن المراد بفتحنا قضينا في الأزل أن مكة ستفتح بعد الحديبية، فالماضي على حقيقته إخبارا عن القضاء الأزلي، و بعضهم أجاب بأنه بمعنى المضارع اه شيخنا.

و عبارة البيضاوي: هذا وعد بفتح مكة و التعبير عنه بالماضي لتحققه، أو وعيد بما اتفق له في تلك السنة كفتح خيبر و فدك، أو هذا إخبار عن صلح الحديبية، و إنما سماه فتحا لأنه كان بعد ظهوره‏

الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج‏7، ص: 207

لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ‏ بجهادك‏ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ منه لترغيب أمتك في الجهاد، و هو مؤول على المشركين حتى سألوه الصلح فكان سببا لفتح مكة، و تفرغ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لسائر العرب فغزاهم و فتح مواضع و أدخل في الإسلام خلقا عظيما و على هذا فمعنى فتحنا أوجدنا لك سبب الفتح، و ذلك السبب هو صلح الحديبية، فإنه هو السبب في فتح مكة، و قيل: الفتح بمعنى القضاء أي قضينا لك أن تدخل مكة من قابل، انتهت مع بعض تصرف.

و في القرطبي: اختلف العلماء في هذا الفتح فالذي في البخاري أنه صلح الحديبية. قال موسى ابن عقبة: قال رجل: عند منصرفهم من الحديبية: ما هذا بفتح لقد صدونا عن البيت، فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: «بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح و يسألوكم القضية و يرغبوا إليكم في الأمان، و قد رأوا منكم ما كرهوا». و قال الشعبي في قوله: إنا فتحنا لك فتحا مبينا هو فتح الحديبية، لقد أصاب فيها ما لم يصب في غزوة غيرها غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر، و بويع بيعة الرضوان، و أطعموا نخل خيبر، و بلغ الهدي محله، و ظهرت الروم على فارس، ففرحت المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. و قال الزهري: لقد كان فتح الحديبية أعظم الفتوح، و ذلك أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم جاء إليها في ألف و أربعمائة، فلما وقع الصلح مشى الناس بعضهم على بعض و علموا و سمعوا عن اللّه فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه، فما مضت تلك السنتان إلا و المسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف. و قال مجاهد، و العوفي: هو فتح خيبر، و الأول قول الأكثر، و خيبر إنما كانت وعدا و عدوه على ما يأتي بيانه في قوله: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ‏ [الفتح: 15] و قوله: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها [الفتح: 20] فعجل لكم هذه، انتهى.

قوله: (عنوة) هذا مذهب أبي حنيفة و مذهب الشافعي أنها فتحت صلحا، و عبارة المنهاج:

و فتحت مكة صلحا. قال الرملي في شرحه كما دل عليه قوله تعالى: وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الفتح: 22] أي: أهل مكة، و قوله: وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [الفتح: 24] و إنما دخلها صلّى اللّه عليه و سلّم متأهبا للقتال خوفا من غدرهم و نقضهم للصلح الذي وقع بينه و بين أبي سفيان قبل دخولها. و في البويطي: أن أسفلها فتحة خالد عنوة، و أعلاها فتحه الزبير رضي اللّه عنهما صلحا، و دخل صلّى اللّه عليه و سلّم من جهته فصار الحكم له و بهذا تجتمع الأخبار التي ظاهرها التعارض اه.

قوله: (بجهادك) متعلق بقول الشارح بفتح مكة، و هذا جواب عن إيراد حاصله أن الفتح مسند للّه فهو من أفعاله، فكيف يترتب عليه قوله: ليغفر لك اللّه، و المغفرة للشخص إنما تكون لأجل شي‏ء من أفعال غيره، و حاصل الجواب: أن الفتح و إن كان فعلا للّه لكنه لما ترتب على فعل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و هو الجهاد صح أن يترتب عليه أي: على الفتح المغفرة للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم اه من حواشي البيضاوي.

قوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ‏ الالتفات إلى الذات المستتبع لجميع الصفات كالغفر و الإنعام و النصر لأجل الإشعار بأن كل واحد من الأمور الأربعة الداخلية تحت لام الغاية صادر عنه تعالى من حيثية الأخرى مترتب على صفة من صفاته تعالى اه أبو السعود.

فمغفرة الذنوب من حيث إنه تعالى غفار، و هداية الصراط من حيث انه هاد، و هكذا و يجمع الكل لفظ اللّه فإنه اسم للذات المستجمع للصفات اه شيخنا.

الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج‏7، ص: 208

لعصمة الأنبياء عليهم الصلاة و السّلام بالدليل العقلي القاطع من الذنوب، و اللام للعلة الغائية، فمدخولها مسبب لا سبب‏ وَ يُتِمَ‏ بالفتح المذكور نِعْمَتَهُ‏ إنعامه‏ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ‏ به‏ صِراطاً قوله: (لترغب أمتك) علة لترتب الغفران على الفتح أي إنما رتبنا عليه غفران الذنوب لترغب أمتك فيه اه شيخنا.

قوله: (هو مؤول) أي: بأنه من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين قاله شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في شرحه على الطوالع، و قيل: معنى الغفران الإحالة بينه و بين الذنوب فلا يصدر منه ذنب، لأن الغفر هو الستر و الستر إما بين العبد و الذنب و عقوبته، فاللائق به و بسائر الأنبياء الأول و اللائق بالأمم الثاني قاله البرماوي، أو هو مبالغة كزيد يضرب من يلقاه و من لا يلقاه لا يمكن ضربه اه كلاخي.

قوله: (من الذنوب) أي: صغيرها و كبيرها عمدها و سهوها قبل النبوة و بعدها اه شيخنا.

قوله: (للعلة الغائية) أي: لا للباعثة لأنه تعالى لا يبعثه شي‏ء على اه شيخنا.

قوله: (لا سبب) السبب ما يضاف الحكم إليه كالزوال لوجوب الظهر، و المغفرة ليست كذلك كما هو مقرر في محله اه كرخي.

و في الخطيب: و اختلفت أقوال المفسرين في معنى اللام في قوله تعالى، ليغفر لك اللّه، فقال البيضاوي: علة للفتح من حيث أنه مسبب عن جهاد الكفار و السعي في إعلاء الدين و إزاحة الشرك و تكميل النفوس الناقصة، و قال البغوي: قيل اللام لام كي، و معناه: إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح، و قال الجلال المحلي: اللام للعلة الغائية فمدخولها مسبب لا سبب، و قال بعضهم: إنها لام القسم و الأصل ليغفرن فكسرت اللام تشبها بلام كي و حذفت النون ورد هذا بأن اللام لا تكسر و بأنها تنصب المضارع قال ابن عادل: و قد يقال أن هذا ليس بنصب و إنما هو بقاء للفتح الذي كان قبل نون التوكيد بقي ليدل عليها و لكن هذا قول مردود، و قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة و لكنه علة لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة و هي المغفرة و إتمام النعمة و هداية الصراط المستقيم و النصر العزيز، كأن قال: يسرنا لك مكة و نصرناك و نصرناك على عدوك لنجمع لك عز الدارين و أغراض العاجل و الآجل، و يجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سببا للمغفرة و الثواب اه.

قال ابن عادل: و هذا الذي قاله مخالف لظهر الآية، فإن اللام داخلة على المغفرة فتكون المغفرة علة للفتح و الفتح معلل لها، فكان ينبغي أن يقول: كيف جعل فتح مكة معللا بالمغفرة، ثم يقول لم يجعل معللا اه.

و قيل غير ذلك و الأسلم ما اقتصر عليه الجلال المحلي اه بحروفه.

قوله: (بالفتح المذكور) هو فتح مكة و غيرها بجهادك اه.

قوله: وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي: في تبليغ الرسالة و إقامة مواسم الرئاسة اه بيضاوي.

الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين، ج‏7، ص: 209

طريقا مُسْتَقِيماً (2) يثبتك عليه و هو دين الإسلام‏

وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ‏ به‏ نَصْراً عَزِيزاً (3) ذا عزّ لا ذلّ معه‏

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ الطمأنينة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ‏ بشرائع الدين كلما نزل واحدة منها آمنوا بها، منها الجهاد وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ فلو أراد نصر دينه بغيركم أي: فالهداية على حقيقتها فلا حاجة إلى ما قيل من أن المراد زيادة الاهتداء أو الثبات عليه اه شهاب.

قوله: (ذا عز) جواب عما يقال: كيف أسند العزيز إلى ضمير النصر مع أن العزيز من له النصر؟

و تقرير الجواب: أن صيغة فعيل هنا للنسبة، فالعزيز بمعنى ذو العز فالمعنى نصرا ذا عز و منعة لا ذل فيه، و كونه ذا منعة يمنعه عن أن يصيبه سوء أو مكروه فإسناده العزيز بهذا المعنى إلى ضمير النصر حقيقة اه زاده.

قوله: فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ‏ و هم أهل الحديبية بعد أن دهمهم فيها ما من شأنه أن يزعج النفوس و يزيغ القلوب من صد الكفار و رجوع الصحابة دون بلوغ مقصود، فلم يرجع أحد منهم عن الإيمان بعد أن هاج الناس و زلزلوا حتى عمر مع أنه فاروق و مع وصفه في الكتب السالفة بأنه قرن من حديد، فما الظن بغيره و كان عند الصديق من القدم الثابت و الأصل الراسخ ما علم به أنه لم يسابق ثم ثبتهم اللّه أجمعين اه خطيب.

و في المواهب: قال في فتح الباري، قال في رواية البخاري: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقلت أ لست نبي اللّه؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق و عدونا على الباطل؟ قال: بلى.

قلت: فلم نعطى الدنية في ديننا إذا؟ قال: إني رسول اللّه و لست أعصيه و هو ناصري. قلت: أو ليس كنت نحدثنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى. فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا قال: فإنك آتيه و تطوف به. قال: فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أ ليس هذا نبي اللّه حقا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق و عدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطى الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل إنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و ليس يعصي ربه و هو ناصره فاستمسك بغرزه بفتح الغين و سكون الراء أي: تمسك بأمره و لا تخالفه، فو اللّه أنه على الحق. قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى.

أفأخبرك أنا تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه فتطوف به. قال العلماء: لم يكن سؤال عمر رضي اللّه و كلامه المذكور شكا بل طلبا لكشف ما خفي عليه و حثا على إذالال الكفار و ظهور الإسلام كما عرف في خلقه و قوته في نصرة الدين و إذلال المبطلين، و أما جواب أبي بكر لعمر رضي اللّه عنهما بمثل جواب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فهو من الدلائل الظاهرة على عظيم فضله و بارع علمه و زيادة عرفانه و رسوخه و زيادته في ذلك على غيره اه.

قوله: (بشرائع الدين) متعلق بإيمانا و متعلق قوله مع إيمانهم محذوف أي: باللّه و رسوله اه شيخنا.

صفحه بعد